عزوف كبير من المصريين ومقاطعة شبه رسمية من المعارضة وتجاهل أشبه بالتغييب على منصات التواصل الاجتماعي.. هكذا بدت المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري (البرلمان) التي جرت خلال يومي 24 و25 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، التي غابت عن دائرة الاهتمام الإعلامي بصورة تعكس حضورها لدى أولويات رجل الشارع.
وقد شهدت الانتخابات التي جرت في 14 محافظة بينها الجيزة والإسكندرية (تجري المرحلة الثانية في الـ7 والـ8 من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في 13 محافظة، بينها العاصمة القاهرة) العديد من الخروقات وتبادل الاتهامات بين مرشحي التيارات كافة، لتستحق عن جدارة وصف “انتخابات التشكيك”.
كالعادة.. يبدو أن انتخابات مجلس الشيوخ التي جرت قبل أيام كانت بروفة مصغرة لانتخابات النواب، حيث سيطر حزب “مستقبل وطن” خليفة الحزب الوطني المنحل والمدعوم من أجهزة الدولة السيادية، على معظم كراسي البرلمان، سواء عن طريق مرشحي الفردي أم عبر القائمة التي تحمل اسم “القائمة الوطنية”.
العديد من المرشحين والناخبين والمراقبين نشروا على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة توثق استخدام بعض المرشحين للمال السياسي وشراء أصوات الناخبين مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 100-500 جنيه للصوت (6.5 – 34 دولارًا)، فيما أشارت “البعثة الدولية لمتابعة الانتخابات” في تقرير لها تجاوز بعض المرشحين سقف الإنفاق المحدد بحسب القانون، وسط اتهامات متبادلة من بعض المرشحين لمنافسيهم باستخدام سلاح المال لتحقيق الفوز.
اللافت للنظر في الانتخابات الحاليّة مقارنة بما كانت عليه في المرات السابقة أن الحديث عن المال السياسي لم يأت من تيارات المعارضة فقط، كما هو العرف، بل جاء على لسان مؤيدي النظام أنفسهم، على رأسهم مرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك، وعبد الرحيم علي رئيس تحرير صحيفة “البوابة” الممولة إماراتيًا، ليخرج الماراثون الانتخابي بنتيجة واحدة وهي فوز المال السياسي باكتساح، متجاوزًا بذلك معايير الشعبية والتاريخ والنفوذ.
مستقبل وطن يهيمن
شهدت الجولة الأولى من الانتخابات سقوط العديد من الرموز السياسية لكثير من التيارات على رأسها حزب “النور” السلفي الذي يعيد سيناريو الإقصاء الواضح (متعمد كان أو عفويًا) الذي مني به في انتخابات الشيوخ الأخيرة، بعدما خرج منها “صفر اليدين”.
واستمرارًا لمسلسل الهزيمة السياسية للحزب فقد خسر أحمد خليل خير الله وأحمد الشريف، مرشحا الحزب، مقعديهما عن دائرة العامرية بمحافظة الإسكندرية، هذا في الوقت الذي سيخوض فيه أحمد العرجاوي جولة الإعادة عن دائرة أبو حمص، وكذلك خالد أبو خطيب المرشح عن دائرة أبو المطامير عن محافظة البحيرة.
المتحدث السابق باسم الهيئة البرلمانية لحزب “الوفد” محمد فؤاد مرشح “الحزب المصري الديمقراطي” عن دائرة العمرانية والطالبية في محافظة الجيزة، خسر هو الآخر مقعده في تلك الدائرة التي شهدت انتهاكات واسعة وثقتها حملة النائب بالصوت والصورة.
فؤاد في منشور له على صفحته الرسمية على فيسبوك علق على الخسارة قائلًا: “الحديث عن النتيجة ومنطقتيها، أمر يجب تجاوزه، لأنه في بعض الأحيان يكون المنطق معطلًا بشكل يصعب التحدث عنه”، مضيفًا “نحن كسبنا معركة الوعي، وهذا يقول إن الناس استطاعت الاختيار بإرادة حرة، بصرف النظر عن أن الموضوع تعدى فكرة المال السياسي، لست نادمًا، لأنني حاولت على الأقل، لكن القواعد اهتزت”.
ومن أكثر الأسماء الخاسرة لمقاعدها التي أثارت جدلًا كان الإعلامي عبد الرحيم علي، رجل الإمارات في مصر كما يلقبونه، إذ حل رابعًا في ترتيب المرشحين عن دائرته الانتخابية (الجيزة والدقي والعجوزة) وذلك بعدما حصل على 19 ألفًا و756 صوتًا.
وتأتي خسارة علي بعد ساعات قليلة من تسريب مقطع صوتي له مع طليق ابنته (يعمل قاضيًا بمجلس الدولة) عشية الانتخابات، انتقد فيه مؤسسات الدولة وتحدى الرئيس عبد الفتاح السيسي والقيادات الأمنية والمخابراتية أن يقدموه للمحاكمة، وهو التسريب الذي كان له دور مؤثر في خسارته لمقعده وفق مراقبين.
ومن أبرز الخاسرين أيضًا أحمد مرتضى منصور، نجل رئيس نادي الزمالك، الذي لم يحصل إلا على 16 ألفًا و613 صوتًا، بجانب خسارة عضو لجنة الصحة في البرلمان، شادية ثابت، مقعدها عن دائرة إمبابة بالجيزة، كذلك عضو اللجنة التشريعية، النائب إيهاب الخولي، ومرشحة حزب “المؤتمر” هيام حلاوة ، بخلاف الرئيس السابق للجنة الشؤون الاقتصادية بمجلس النواب، عمرو غلاب.. كل هؤلاء وغيرهم لا سيما من مرشحي الصعيد خسروا مقاعدهم لصالح مرشحي حزب “مستقبل وطن”.
المال السياسي.. كلمة السر
فرض المال السياسي نفسه على الساحة كونه اللاعب الأبرز حضورًا والأكثر تأثيرًا والمتوج بالبطولة حتى كتابة هذه السطور، حيث استطاع إحراز أهداف مؤثرة في وقت حساس للغاية، هذا في الوقت الذي فشل فيه لاعبون آخرون لديهم من الخبرة والكفاءة ما يؤهلهم للفوز، لكن أمام المال رضخ الجميع.
فرغم علامات الاستفهام المحيطة بنشاطه الاقتصادي نجح رجل الأعمال محمد أبو العينين، صاحب مصانع “سيراميكا كليوباترا” في النجاح باكتساح في دائرته الملتبهة بطبيعة الحال (الدقي والعجوزة والجيزة) حيث حصل على عدد أصوات بلغ 125 ألفًا و758 صوتًا، يليه مرشح حزب “مستقبل وطن” زكي عباس عبد الظاهر بعدد أصوات بلغ 83 ألفًا و995 صوتًا، ما يعني فوزهما بمقعدي الدائرة على النظام الفردي من الجولة الأولى.
استطاع رجل الأعمال الداعم لكل الأنظمة السياسية الحاكمة، والموالي بصورة كبيرة لنظام السيسي حاليًّا، سواء عن طريق الدعم المالي أم الإعلامي عبر قناته “صدى البلد” التي يعمل بها الإعلامي المقرب من النظام أحمد موسى، في اقتناص كرسي المجلس بما لديه من أرضية كبيرة من الانتشار المالي في الدائرة.
عشرات آلاف العاملين في مصانعه بجانب أعضاء الجمعية الخيرية التي يرأسها بجانب دعم بعض الإعلاميين له، كل هذا كان له دور في تحقيق الفوز، لكن المبالغ التي تم توزيعها على الناخبين كانت لها الكلمة العليا، وهو ما ألمح إليه المنافسون له وعلى رأسهم المرشح الخاسر عبد الرحيم علي الذي أشار إلى شن حرب ضده بالمال السياسي في الدائرة، في إشارة إلى أبو العينين.
وكان إجمالي من أدلوا بأصواتهم في تلك الدائرة 174 ألفًا و621 صوتًا، من مجموع 653 ألفًا و554 ناخبًا، بنسبة مشاركة بلغت 26.7%، في حين بلغ عدد الأصوات الصحيحة منها 155 ألفًا و306 أصوات، مقابل 19 ألفًا و315 صوتًا باطلًا.
وفي إمبابة استطاع مرشح حزب “مستقبل وطن” طارق سعيد حسانين حسم المقعد بأصوات بلغت 59 ألفًا و967 صوتًا، وذلك رغم تورطه في ملف “فساد منظومة القمح”، لكن المنح المالية التي تم توزيعها على كبار عائلات الدائرة كان لها وقع السحر في حسم اللقب مبكرًا، بحسب شهود من أبناء المنطقة.
ومن إمبابة إلى الهرم بالجيزة، حيث احتفل أنصار مرشح حزب “مستقبل وطن” عن دائرة العمرانية والطالبية بالجيزة محمد علي عبد الحميد، بفوزه من الجولة الأولى، رغم المنافسة الشرسة التي شهدتها تلك الدائرة، إلا أنه كان الأعلى سعرًا لثمن الصوت الانتخابي هناك، حيث وصل سعر الصوت الواحد في اليوم الثاني للتصويت 700 جنيه وفق شهود، فضلًا عن بونات الأسواق التجارية التي كانت توزع مع كروت الدعاية له.
ويعد عبد الحميد أحد أكبر أباطرة العقارات في مصر، إذ يملك مجموعة كبيرة من الأبراج السكنية في منطقتي الهرم وفيصل، التي تأتي معظمها مخالفة لقانون البناء، الأمر الذي دفعه للاستماتة للبقاء في المجلس للاحتفاظ بحصانته النيابية لمنع الأجهزة المختصة من التعرض إلى “أبراجه” المخالفة أو ملاحقته قضائيًا.
وبينما يصرخ الداعمون والمستقلون بصوت واحد منددين بهذا الفساد الذي ينخر في عظم الاستحقاق الانتخابي، موثقين صراخهم بالصوت والصورة وشهادات الناخبين والمرشحين، فإن أحدًا لم يحرك ساكنًا، فيما تؤكد اللجنة المخول لها مراقبة الانتخابات بأن الأمور تسير على الشكل المطلوب وأنه لا يوجد أي خروقات تعكر صفو العرس الديمقراطي.
الأجواء التي شهدتها انتخابات النواب ومن قبلها الشيوخ، ومخرجاتهما فيما يتعلق بالتشكيلة المتوقعة لعضوية غرفتي البرلمان، تشير إلى رغبة النظام في “برلمان على المقاس” خالٍ من المعارضة، برلمان تعززه لغة المصالح الفردية لا الوطنية، بما يمهد الطريق نحو تمرير القوانين التي تخدم السلطة الحاكمة وترسخ حكمها، وعليه يمكن القول مبكرًا جدًا إن نتائج المرحلة الثانية من هذا الماراثون لن تختلف كثيرًا على نتائج المرحلة الأولى… فذات المقدمات حتمًا تقود إلى نفس النتائج.