أمهل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قوات جبهة تحرير شعب تيغراي -الحاكمة لإقليم تيغراي- 72 ساعة للاستسلام، مع تقدم القوات الحكومية نحو عاصمة الإقليم ميكيلي، فيما تعهدت الجبهة، التي تسيطر على المنطقة الجبلية شمالي البلاد، بمواصلة القتال إلى حين تحقيق أهدافها.
هذه أبرز التطورات التي عرفها إقليم تيغراي الإثيوبي في الـ 24 ساعة الأخيرة، ويتوقّع أن يحدث تطورات أكبر في قادم الساعات، لكن في هذا التقرير لنون بوست سنرجع قليلا إلى الوراء للتحدّث عن أصل الصراع بين السلطات المحلية وحكومة آبي أحمد وكلّ ما يتعلّق بهذا الإقليم المشتعل.
تهميش فسيطرة
يقع إقليم تيغراي في شمال إثيوبيا ويحده من الشمال إريتريا ومن الغرب السودان ومن الشرق عفر ومن جنوبه إقليم أمهرة، وهو أحد أقاليم إثيوبيا العشرة، عاصمته مدينة ميكيلي، ومن المدن المهمة الأخرى في هذا الإقليم أبي عدي ، وأديغرات ، وأكسوم ، وحميرا ، وشاير ، وكريم ، وألاماتا ، ومايشيو ، ووكرو ، وزالامبيسا.
يسكن الإقليم أقلية التيغراي؛ يشكلون ثالث أكبر عرقية في البلاد بـ7.3 % من مجموع سكان البلاد، الذين يتجاوز عددهم 100 مليون نسمة يتوزعون بين حوالي 80 مجموعة أثنية، وهم مولعون بالشعر والألغاز وقصص التسلية.
يعتبر التيغراي من أوائل الشعوب الإثيوبية ذات الأصل السامي، ويُعرفون بالـ”تغرينية” نسبةً للغة التي يتحدثونها، وهي لغة سامية تتداخل مع اللغة العربية وتعود أصولها إلى اليمن، الغالبية العظمى من قومية التيغراي هم من المسيحيين الأرثوذكس، وفيهم عدد قليل جدا من الطوائف المسيحية الأخرى (البروتستانتية والكاثوليكية)، ومن المسلمين الذين يُطلق عليهم “الجبرتة”.
لم يكن لعرقية التيغراي وجود يذكر في الحياة السياسية الإثيوبية، كون حجمهم السكاني صغير ولا تأثير له، إلى غاية سنة 1988 وبروز “جبهة تحرير شعب تيغراي” التي قادت تحالفا يضمّ 14 تنظيما إثيوبيا مسلحا ضدّ حكم الدكتاتور منغستو هايلي ماريام ذو التوجهات اليسارية.
هذه الحرب، يخشى العديد من المتابعين أن تتطور وتصل إلى حرب أهلية بين قوتين كبيرتين ومدربتين جيدا مع عدم وجود علامات للتهدئة
تمّ تشكيل هذا التحالف في منطقة ما داخل الأراضي السودانية، لإسقاط منغستو هايلي ماريام وأعطيت قيادة التحالف لتيغراي؛ لأن قواتهم كانت الأكثر تدريبا وتسليحا وتنظيما ولديها تحالفات خارجية أبرزها التحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، فيما باقي التنظيمات كانت معزولة وضعيفة وغير منظمة.
استمر التحالف المعارضة يقاتل نظام الرئيس على مدى 3 أعوام، وفي بداية 1991 دخلت قوات تحالف جبهة شعوب إثيوبيا العاصمة واستولت على الحكم ونصبت “تاميرات لاينه” رئيسا للبلاد في 28 أيار/مايو 1991 وهو من قومية التيغراي، ثم خلفه مليس زناوي في 1995 عقب إجازة دستور جمهورية إثيوبيا الفدرالية.
شغل زناوي المنصب حتى وفاته عام 2012 ما جعل التيغراي يحكمون إثيوبيا على مدى أكثر من 20 عاما تحت راية تحالف يسيطرون على مفاصله، إضافة إلى أن مليس زناوي استطاع السيطرة على التناقضات داخل التحالف مما جعل حتى الذين يتذمرون من سيطرة التيغراي من المجموعات الأخرى يكتمون الأمر.
بعد وفاة مليس زناوي، تقلّد هايلي مريام ديسالين منصب رئيس الوزراء بالإنابةوهو أول رئيس حكومة في أثيوبيا من طائفة البروتستانت، وأول حاكم لا ينتمي إلى أمهرة ولا إلى تيغراي، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مجموعات عرقية، وعلى رأسها الأورومو -المجموعة العرقية التي تمثل حوالي 40% من سكان البلاد- التململ من طريقة تقاسم السلطة في الإطار المركزي.
صعود الأورومو
يقول ناشطو الأورومو– كبرى القوميات الإثيوبية التي يمثل المسلمون أغلبيتها الساحقة – إن أغلبية أبناء القومية اضطروا، منذ 1992، إلى ترك مدنهم وقراهم إما إلى المناطق الداخلية أو إلى الخارج بنسبة 75%، نتيجة “السياسات العدوانية” التي تنتهجها السلطات ضدهم.
يرجع هؤلاء استهداف الحكومة الإثيوبية لقوميتهم إلى عدة عوامل، أولها خوفها من كثافتها السكانية، وثانيها يتمثل في انتسابهم للإسلام، في حين يتجسد الثالث في تمسك القومية بحق تقرير المصير والاستقلال عن إثيوبيا، إضافة إلى إجلاء مزارعين عن أراضيهم من أجل إقامة مشاريع زراعية تجارية.
ومثلت حادثة منح الحكومة المركزية لبعض من أراضي الأورومو جنوب العاصمة أديس أبابا لمستثمرين سنة 2015، الشرارة التي أطلقت احتجاجات شعبية مناهضة للحكومة في البلاد، الأمر الذي أجبر رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين على الاستقالة.
عقب ذلك، اختار مجلس الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا (الائتلاف الحاكم)، والمنوط به اختيار رئيس الوزراء، العقيد السابق في استخبارات الجيش آبي أحمد المنتمي لقومية الأومورو لمنصب رئيس الوزراء، رغم معارضة التيغراي له، وتصويت ممثليهم في المجلس ضد أحمد.
أصبح بذلك آبي أحمد أول رئيس وزراء من قومية أورومو في تاريخ إثيوبيا القديم والحديث يعتلي هرم السلطة التنفيذية في البلاد التي تعتبر فيها رئاسة الجمهورية منصبًا شرفيًا، وتُعدّ الأورومو أكبر القوميات في أثيوبيا، وتتركز الأورومو في أوروميا بوسط إثيوبيا ويشكلون نحو 34 في المائة من عدد السكان البالغ نحو 103 ملايين نسمة، وهم يتحدثون اللغة الأورومية، ويعملون بالزراعة والرعي.
أبناء هذه القومية، الذين كانوا يحتجون ضد قومية “تيغراي” بسبب انتهاك حقوقهم والتمييز الاقتصادي والمجتمعي الذي تمارسه الحكومة التي يقودها “التيغراي” ضدهم، وكانوا يناضلون لإنصاف قوميتهم عبر مجموعة من المنظمات بعضها فصائل مسلحة، أصبحوا الآن يقودون البلاد ويُتهمون باستهداف بعض الأقليات على رأسها “تيغراي”.
استهداف التيغراي؟
مباشرة إثر تقلّده مقاليد الحكم في الـ2 من أبريل/نيسان 2018، تعهّد آبي أحمد بتغيير النظام الاستبدادي الذي كان يسيطر على البلاد بآخر ديمقراطي، فضلًا عن تعزيز خطاب الحب والمصالحة، وذلك لإنقاذ البلاد من الحرب الأهلية.
أطلق آبي أحمد الذي قدم نفسه رجلا إصلاحيا للعالم، سراح آلاف السجناء السياسيين، وأوقف الرقابة التي كانت مفروضة على مئات المواقع، وأنهى حالة الحرب التي استمرت 20 عامًا مع إريتريا ورفع حالة الطوارئ.
مع ذلك، اتهمت أقلية التيغراي التي كانت ماسكة بزمام الحكم لسنوات طويلة، آبي أحمد باستهدافها، لأنه يدرك وزنها ولا سيما في أروقة جميع الوزارات وداخل نظام الاستخبارات والشرطة، حيث تم إبعاد جبهة تحرير شعب تيغراي من مناصب رئيسية، وتعرض العديد من مسؤوليها لملاحقات بتهم فساد، وأوقف بعضهم.
في يونيو/حزيران2018، أجرى آبي أحمد أول تغيير لرئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطنية، في تعديلات هي الأولى من نوعها منذ 17 عاما، وهي النقطة التي اعتبرها التيغراي استهدافا لهم كقومية باعتبار أن رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات منذ وصول جبهة شعوب إثيوبيا إلى الحكم عام 1991 ظل من نصيبهم.
حتى المصالحة مع إريتريا، لم تنظر لها أقلية التيغراي بعين الرضا، جراء الخلافات العميقة بينهم وبين نظام الجبهة الشعبية الحاكمة في إريتريا بقيادة أفورقي، والحرب التي شهدتها المنطقة الحدودية بين التيغراي وإريتريا.
كما أن إعلان آبي أحمد موافقته على تسليم إريتريا المنطقة المتنازع عليها في مثلث “بادمي”، تنفيذا لحكم محكمة العدل الدولية الصادر عام 2002 واتفاقية صلح وقعت في العام ذاته بين الدولتين في الجزائر، زاد من سخط التيغراي.
حين قرر رئيس الحكومة آبي أحمد صهر الائتلاف الحاكم داخل حزب واحد، انتقلت جبهة تحرير شعب تيغراي إلى المعارضة وانكفأت إلى إقليم تيغراي حيث أعادت ترميم شرعية شعبية محلية متحدية حكومة أديس أبابا المركزية.
فصول العداء لم تتوقف هنا، حيث تصاعد الخلاف بين آبي أحمد وإقليم تيغراي عندما أقر البرلمان بطلب من آبي أحمد تأجيل الانتخابات العامة التي كانت مقررة في يونيو/حزيران 2020، وتمديد ولاية رئيس الوزراء التي انتهت في مايو/أيار، وهو ما اعتبره التيغراي غير دستوري.
أعلنت رئيسة البرلمان ثريا إبراهيم المنتمية للتيغراي استقالتها من منصبها خلال مهرجان خطابي أقيم في عاصمة إقليم تيغراي “مكلي”، وقالت “لست مستعدة للعمل مع مجموعة تنتهك الدستور، إنها دكتاتورية في طور التكوين”.
تخشى عديد الأطراف أن تتحوّل هذه الحرب إلى حرب إقليمية، ما سيحدث فوضى بشمال شرق إفريقيا، خاصة بعد تدخّل دولتي إريتريا والإمارات إلى جانب أثيوبيا
في يونيو/حزيران 2020 عقد حزب جبهة شعب التيغراي مؤتمره وخلاله أعلن أنه سينظم الانتخابات في الإقليم بصورة منفردة كما هو مقرر في موعدها في أغسطس/آب، وطالب اللجنة المركزية للانتخابات الإشراف على انتخاباته.
رفضت الحكومة المركزية الاعتراف بالانتخابات التي شارك فيها حوالي2.7 مليون ناخب، واعتبرتها غير قانونية وغير دستورية، وردت حكومة إقليم تيغراي بأنها لا تعترف بالحكومة المركزية باعتبار أنها جسم غير دستوري.
في سبتمبر/أيلول الماضي، قرّرت الحكومة المركزية في أديس أبابا وقف التحويلات المالية منها إلى إقليم تيغراي ما اعتبره الإقليم إعلانا للحرب عليه، وفي نهاية أكتوبر/تشرين الأول، طالب حكام الإقليم المجتمع الدولي بالتدخل في الأزمة، مؤكّدين أنهم يتعرضون لتهديد عسكري من الحكومة المركزية، والتي وصفت ما يجري في تيغراي بالتمرد.
في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، بدأت الاشتباكات المسلحة بين الجانبين في ظل اتهام كل طرف للآخر ببدئها، وهي المرة الأولى في تاريخ أثيوبيا التي تحدث فيها مواجهة مسلحة مباشرة ما بين إقليم والحكومة المركزية.
بعدها بيومين، أمر آبي أحمد برد عسكري على هجوم “خائن” مميت على معسكرات الجيش الفدرالي في تيغراي. ونفت جبهة تحرير شعب تيغراي مسؤوليتها، وقالت إن الهجوم المزعوم ذريعة لشنّ “غزو”، ومع اشتداد القتال، أقال أبيي قائد الجيش الذي ينتمي كبار قادته إلى العديد من قبائل التيغراي.
حرب أهلية قادمة؟
هذه الحرب، يخشى العديد من المتابعين أن تتطور وتصل إلى حرب أهلية بين قوتين كبيرتين ومدربتين جيدا مع عدم وجود علامات للتهدئة، فالجيش الإثيوبي من جانب مسلح جيدا، أما جبهة تحرير التيغراي فكانت تهيمن على الجيش والحكومة قبل تولي أبي أحمد رئاسة الوزراء في عام 2018.
تمتلك جبهة تيغراي أسلحة ثقيلة وربع مليون مقاتل، وتتحصن بجبال منيعة، منعت الجيش الاتحادي من دخول عاصمتها ميكيلي، ما دفع آبي أحمد إلى استخدام سلاح الطيران لكسر مقاومة جبهة تحرير التيغراي، وتحييد أسلحتها الثقيلة خاصة المدفعية والصواريخ.
تسببت الغارات الجوية والمعارك البرية بين القوات الحكومية وجبهة تحرير تيغراي في مقتل المئات ونزوح عشرات الآلاف إلى السودان المجاور، حيث فر إلى حدّ الآن 36 ألف إثيوبي من القتال، وفق ما أكّده وزير الداخلية السوداني الطريفي إدريس، خلال اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عبد الله حمدوك.
أغلب اللاجئين القادمين من تيغراي، هم من الأطفال والنساء والشيوخ، ويواجهون نقصًا حادًا في الغذاء والماء والمأوى، ما جعل “منظمة الإغاثة الإسلامية” تصف ظروفهم بـ”الكابوس“، ويقول مدير المنظمة غير الحكومية في السودان الصادق النور في هذا الشأن: “كل يوم يزداد العدد (اللاجئين) والاحتياجات، لكن القدرة على الاستجابة ميدانيا ليست كافية”.
هل تتحوّل لحرب إقليمية؟
تخشى عديد الأطراف أن تتحوّل هذه الحرب إلى حرب إقليمية، ما سيحدث فوضى بشمال شرق إفريقيا، خاصة بعد تدخّل دولتي إريتريا والإمارات إلى جانب أثيوبيا، حيث تنطلق الطائرات المسلحة دون طيار من القاعدة الإماراتية الجوية في عصب الإريترية.
وقد ردّت جبهة تحرير شعب تيغراي الإثيوبية على الهجوم الذي شنته القوات الإريترية على المناطق الحدودية، باستهداف مطار العاصمة الإريترية أسمرا، متوعدة باستمرار الهجمات، إذا لم تنسحب إريتريا من الحرب.
كما أن هذه الحرب، يمكن أن تصل إلى السودان، فالإقليم يحد ولايتين من الولايات السودانية (كسلا والقضارف) المضطربتان أصلا؛ بسبب انتشار النزاعات القبلية فيهما، كما أن الإقليم يشرف على منطقة الفشقة الزراعية السودانية التي تسيطر مليشيات إثيوبية على أجزاء منها.