قبل نحو 3 سنوات ونصف تمكّن إيمانويل ماكرون من كسب ثقة الفرنسيين والوصول إلى قصر الإليزيه بعد أول انتخابات يخوضها في حياته، متغلبا على مرشّحة أقصى اليمين المتطرّف مارين لوبن. في يوم انتصاره أكّد ماكرون أنه سيحارب الانقسام في بلاده وسيدافع عن مصالحها الحيوية، لكن مرّت السنوات ولم يحصل أي شيء فبالعكس بعض الفرنسيين أصبحوا يردّدون أن ماكرون بات وبالا عليهم فالمشاكل التي تسبب فيها لفرنسا داخليا وخارجيا لا تعدّ ولا تحصى.
قوانين تنتهك الحريات
أقرّ البرلمان الفرنسي، مؤخرا، قانون “الأمن الشامل” الذي تقدمت به الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم “الجمهورية إلى الأمام”، والذي يعزز من سلطات الشرطة في المراقبة وينتهك الحريات الإعلامية، الأمر الذي عجّل خروج الآلاف في احتجاجات عارمة.
ويمثّل هذا القانون، وفق العديد من الإعلاميين والحقوقيين، انتهاكًا صارخًا للحريات ويقوض من صلاحيات الصحافة والإعلام ورقابتها على ممارسات الشرطة التي تتصاعد وحشيتها يومًا تلو الآخر وسط تصاعد موجات الغضب الشعبي ضد سياسات ماكرون.
ويحظر هذا القانون، المثير للجدل نشر صور رجال الأمن أثناء أدائهم واجبهم، ويعاقب المخالفون بالسجن لمدة سنة ودفع غرامة مالية قدرها 45 ألف يورو (54 ألف دولار أميركي)، ما اعتبرته الجمعيات الحقوقية “واقيا لوحشية” الشرطة.
ومن شأن هذا القانون الجديد لنظام ماكرون أن يزيد من انتهاكات الشرطة الفرنسية ضدّ المواطنين، خاصة وأنها تواجه العديد من الانتقادات والاتهامات بارتكاب ممارسات وحشية ضد المتظاهرين والمشتبه بهم.
يرى العديد من الفرنسيين أن رئيس بلادهم فشل في التعامل مع وباء كورونا ومع انهيار الاقتصاد
ليس هذا فحسب، فحكومة ماكرون طرحت مشروع قانون آخر -ما زال قيد نظر البرلمان- يهدف إلى فرض مزيد من القيود على “التطرف الإسلامي“، حسب تعريف الحكومة الفرنسية، بما يطال بعض أنماط حياة المسلمين في فرنسا.
ويحظر القانون تعليم الأطفال في المنازل، ويُخضع المنظمات التي تتلقى دعما حكوميا لاختبار “ولاء للقيم الجمهورية”، ما يؤكّد نهج العداء الذي يتبعه إيمانويل ماكرون ضدّ المسلمين الذين يشكلون نحو 10% من سكان فرنسا.
هذه القوانين، تؤكّد أن ماكرون يجنح نحو اليمين المتطرّف والديكتاتورية -أسوة بحلفائه في الشرق الأوسط- فهي تحُدُّ من الحريات المدنية وتعطي للشرطة الصلاحيات الكاملة للقمع وفرض إرادة نظام ماكرون، وهو ما يتناقض مع مبادئ “العلمانية” التي يدّعي الرئيس الفرنسي الدفاع عنها.
اقتصاد منكمش
في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، اندلعت احتجاجات شعبية الفرنسية عرفت باسم “السترات الصفراء” احتجاجات على الوضع الاجتماعي في البلاد، حينها وعد ماكرون أنه سيستجيب للمحتجين ويعمل على تحسين الوضع، لكن من الواضح أن وعوده ذهبت أدراج الرياح فالاقتصاد الذي سيعتمد عليه لتحسين الوضع يشهد أزمة كبرى.
إذ أعلن البنك المركزي الفرنسي، مؤخرا، أن النشاط الاقتصادي في البلاد انكمش بنسبة 12% خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي عن مستواه الطبيعي، والتراجع الحالي في النشاط الاقتصادي أسوأ من هبوط بلغت نسبته 4% في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
تخشى العديد من القطاعات الاقتصادية في فرنسا، تواصل إجراءات العزل العام للحد من انتشار فيروس كورونا، خاصة وأنها تتزامن مع استمرار دعوات المقاطعة للسلع والخدمات الفرنسية التي انتشرت في العديد من الدول العربية والإسلامية نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، رداً على تصريحات ماكرون المسيئة إلى الإسلام، وهو ما يعني زيادة في خسائرها.
ويرى العديد من الفرنسيين أن رئيس بلادهم فشل في التعامل مع وباء كورونا ومع انهيار الاقتصاد لأن القرارات الحكومية فيما يتعلق بتشديد إجراءات مواجهة فيروس كورونا “ضبابية”، وأيضا قرارات دعم الشركات والموظفين غير فعالة.
هذا الوضع من شأنه أن يزيد من حدّة التوتّر بين النظام الفرنسي والنقابات هناك، حيث تشهد العلاقات بين النقابات والسلطة التنفيذية في فرنسا منذ أكثر من 3 سنوات تقلبات كبيرة، خاصة وأن النقابات باتت تشعر أنه يتم تجاهلها والالتفاف عليها حتى إهانتها.
دبلوماسية فرنسية ضعيفة
هذا حال فرنسا من الداخل في ظل حكم إيمانويل ماكرون، أما حالها خارجيا فلا يقلّ سوء، فالدبلوماسية الفرنسية في أسوأ حالتها نتيجة “الهفوات” التي يتركبها ماكرون، فكلّ دولة يدخلها يزيد من تعميق أزمتها وتخرج منها فرنسا بخفي حنين.
البداية كانت من ليبيا، فقد دخل ماكرون بكلّ ثقله لدعم “المتمرّد” خليفة حفتر في جميع الخطوات التي قام بها رغم يقينه التام بتهديد حفتر للاستقرار في ليبيا، فكلما تراجعت مكانة هذا الانقلابي في البلاد، وجد الدعم من “صديقه” ماكرون الذي يدعي لعب دور الوسيط المحايد في الأزمة الليبية.
عمل ماكرون على دعم أكبر الميليشيات المسلحة في ليبيا، وهي قوات الكرامة التي تكن العداء لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، ما زاد من تعقيد العملية السياسية في هذا البلد العربي الذي يشكو من فوضى السلاح والإرهاب وتجارة البشر.
مع ذلك خسر ماكرون الرهان، فحليفه الذي كانت تأمل أن يساعدها على الانفراد بالثروات الباطنية الليبية، خسر المعركة ولم يعُد يُحسب له أي حساب داخليا ولا خارجيا، وينتظر أن يمثُل أمام المحاكم لمقاضاته على الجرائم التي قام بها.
في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، فقدت فرنسا أي تأثير دولي رغم أنه ماكرون يحاول أن يصوّر عكس ذلك أثناء اللقاءات الدولية
حتى في سوريا، لم يعد لفرنسا أي تأثير يذكر، فبعد أن سعى ماكرون إلى أن تكون بلاده ضمن منظومة الدول المبادرة بالحل السياسي في سوريا، لم يعد له أي كلمة هناك، فحتى الضربة العسكرية التي نفّذها ضدّ نظام الأسد إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لم تؤت أكلها.
الخيبة الفرنسية تظهر في لبنان أيضا، فمبادرة ماكرون الرامية إلى إرساء الاستقرار في لبنان وإتاحة الفرصة لإطلاق مساعدات دولية بمليارات الدولارات لإصلاح الاقتصاد، لم تفلح بعد. وسبق أن أطلق الرئيس الفرنسي في أغسطس/آب الماضي مبادرة بلهجة تهديد وإعطاء تعليمات، غير أن بعض القوى في لبنان اعتبرتها تدخلا في شؤون بلدهم.
حاول ماكرون استغلال تفجيرات مرفأ بيروت، لتغيير الحكومة اللبنانية وإعادة تصميم السياسة من جديد -في هذا البلد الذي نثرت بذوره مع مؤتمر “سان ريمو” (1920)، حيث تقاسمت كلاً من بريطانيا وفرنسا منطقة الشرق الأوسط- إلا أنه فشل في ذلك والدليل تلك المظاهرات التي خرجت في شوارع بيروت ضد تدخله.
أما في دولة مالي الإفريقية، فقد كانت الخسائر أكبر والوقع أشد عمقا، فرغم آلاف الجنود الفرنسيين المتمركزين هناك، لم تنجح فرنسا بعد في تحقيق أهدافها التي جاءت من أجلها والرفض الشعبي ازداد وظهر جليا في الاحتجاجات التي أسقطت نظام الرئيس ولد إبراهيم بوبكر كيتا.
أزمة إقليم “قره باغ”، شكّلت فشلاً جديدا لفرنسا التي وقفت إلى جانب أرمينيا، وتحاول باريس تدارك هذه الخسارة من خلال قرار اعتماده مجلس الشيوخ الفرنسي يدعو للاعتراف بإقليم ناغورني قره باغ كجمهورية، الأمر الذي وصفته تركيا بالسخيف معتبرة فرنسا جزءا من مشكلة الإقليم.
الحكومة الأرمنية أقرّت بالهزيمة وانسحبت من الأراضي الأذربيجانية التي كانت تحتلها، لكن فرنسا لم تستوعب ذلك، ودعم القوات المسلّحة الأذربيجانية للانسحاب من الأراضي التي خسر الأرمن السيطرة عليها منذ 27 سبتمبر/أيلول في منطقة قره باغ.
في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، فقدت فرنسا أي تأثير دولي رغم أنه يحاول تصوير عكس ذلك أثناء اللقاءات الدولية، أما في الداخل فالبلاد تعيش أحلك أيامها سواء في الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي وفي مجال الحريات أيضا.