منذ الوهلة الأولى لدخول الإمارات الأراضي اليمنية ضمن قوات التحالف العربي بقيادة السعودية في مارس /آذار 2015 والأهداف التوسعية تتكشف يومًا تلو الآخر من وراء هذا التدخل الذي تجاوز فكرة قتال الحوثيين بعدما أحكموا سيطرتهم على الغالبية العظمى من المناطق اليمنية.
وبينما كان التحالف ينوع من هجماته وانتشاره العسكري للحيلولة دون التمدد الحوثي – وهو الهدف المعلن من تدخله – كانت العين الإماراتية على الموانئ اليمنية، حيث تحول هذا الساحل الغربي للبلاد إلى ساحة كبيرة للحضور والنفوذ العسكري الإماراتي، حتى وإن تعارض ذلك مع أجندة التحالف.
ومع مرور الوقت أحكمت أبو ظبي سيطرتها على هذا الساحل الذي يمتد من منطقة ذباب المطلة على مضيق باب المندب، ويضم معه ميناء المخاء في مدينة تعز، وميناء ميدي في محافظة حجة أقصى الغرب، وهي المنطقة التي تتمتع بموقع إستراتيجي غاية في الأهمية، كونها تطل على البحر الأحمر وتربطه بالبحر العربي والمحيط الهندي، بجانب أنها تربط خطوط الإمداد من قناة السويس في أقصى غرب البحر الأحمر حتى دول الخليج والبحر العربي شرقًا.
البرنامج الاستقصائي “المتحري” الذي يبث على شاشة “الجزيرة” استعرض في حلقته الأولى (13 ديسمبر 2020)، ملامح التمدد الإماراتي في السواحل اليمنية، مركزًا على القوات المتواجدة في السواحل الغربية والمدعومة من أبو ظبي، كاشفًا بالأدلة والوثائق كيف حولت الإمارات ميناء المخا، أحد أشهر الموانئ العالمية في تصدير البن اليمني إلى العالم، إلى قاعدة عسكرية تستخدم في إنزال وتحميل السلاح، خدمة لأجندات أبناء زايد في السيطرة على موانئ اليمن وتوظيفها لخدمة أهدافهم الخارجية التوسعية.
أجندة الإمارات لتفتيت الساحل اليمني
فرض الساحل اليمني نفسه على ساحة الأضواء العالمية مع انطلاق العملية العسكرية لقوات التحالف والتي عرفت باسم “الرمح الذهبي” وكان الهدف منها تحرير محافظة الحديدة، ومن ضمنها الساحل، من سيطرة الحوثي، لتبدأ عملية خلق جغرافيا جديدة لهذا الشريط الحيوي.
سعت أبو ظبي منذ الأيام الأولى لدخولها الأراضي اليمنية للتعامل مع الساحل على أنه وحدة مستقلة، له استراتيجية خاصة في التعامل والإدارة، واضعة نصب أعينها قيمة تلك المنطقة وما تحمله من تهديدات من الممكن أن تقوض شهرة موانئها الشهيرة، وهي عقدة نقص تعاني منها الإمارة الخليجية منذ الوحدة اليمنية في تسعينات القرن الماضي،عندما أقرت الحكومة آنذاك إنشاء منطقة التجارة الحرة في المدينة، وهي الخطوة التي قضّت مضاجع أبوظبي من أن ينعكس ذلك على حركة ميناءها الوطني.
المخطط الإماراتي لفرض الهيمنة الكاملة على هذا الطريق الساحلي الغربي اليمني تضمن العديد من الأدوات التي كشف عنها التحقيق الاستقصائي وكانت قد أشارت إليه تقارير إعلامية سابقة، من بينها استخدام الإماراتيين للهلال الأحمر الإماراتي في عمليات تجسسية واستخباراتية في الساحل.
خرج الساحل الغربي خلال السنوات الأربع الماضية عن سيطرة اليمنيين بشكل كامل، ليتحول إلى معقل للقوى الإقليمية والدولية وساحة كبيرة للعديد من أجهزة الاستخبارات العالمية
هذا بخلاف مقاطع الفيديو التي بثها البرنامج وتكشف وصول معدات عسكرية إلى ميناء المخا عبر سفن تجارية قادمة من القاعدة الإماراتية في إريتريا، بالإضافة إلى الاعتماد على العميد عمار محمد صالح وكيل جهاز الأمن القومي سابقًا وشقيق طارق عفاش قائد قوات حراس الجمهورية التابعة للإمارات.
كما تضمنت الحلقة شهادات متعددة لعسكريين ومسؤولين تكشف عن المخطط الإماراتي في هذه المنطقة الحيوية من الأراضي اليمنية، حيث تحدث القائد السابق للمدفعية في اللواء 35 مدرع برهان الصهيبي، الذي أشار إلى أن الهدف الإماراتي من الحرب في اليمن هو السيطرة على السواحل والجزر اليمنية.
وفي شهادة أحد الضباط العاملين في سواحل اليمن الغربية -دون أن يذكر اسمه- قال إن الهدف الحقيقي من وراء التركيز الإماراتي على الساحل الغربي هو خلق منطقة جديدة لها جغرافية متميزة تجمع بين محافظات ثلاث هي لحج وتعز والحديدة، وتكون مسيطرة على الساحل وتشرف على الجزر اليمنية من أول سقطري وحتى الجزر الممتدة على البحر الأحمر، كل هذا يكون تحت سيطرة الإمارات.
هذا الرأي أكده أيضًا رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام في الحديدة عصام شريم، الذي لفت إلى أن تغيير هوية الساحل، يصب في مصلحة خلق جغرافية جديدة تخدم الأجندة الإماراتية، متهمًا أبو ظبي بالسعي للسيطرة على السواحل والميناء والمطارات.
وعليه فإن الإمارات لم تكتف فقط بسلخ الجنوب عن الشمال عبر دعم بعض الميليشيات التي لتعمل لصالح أجنداتها التوسعية بعيدًا عن أهداف التحالف المعلنة، بل تسعى أيضًا لتفتيت السواحل الغربية لتقضي معها على الشريان الاقتصادي الوحيد أمام الشعب اليمني للعودة للحياة مرة أخرى.
معقل للقوى الإقليمية والدولية
خرج الساحل الغربي خلال السنوات الأربع الماضية عن سيطرة اليمنيين بشكل كامل، ليتحول إلى معقل للقوى الإقليمية والدولية وساحة كبيرة للعديد من أجهزة الاستخبارات العالمية، كل هذا بفضل الجغرافيا الجديدة التي رسمتها أبو ظبي لهذه المنطقة والتي فتحت الباب على مصراعيه للاستيطان فيه.
وانتقل هذا الشريط الساحلي الهادئ، والمهمل – عمدًا – منذ سنوات، بعد وضع شركة “موانئ دبي” أقدامها فيه، وتخلت عن تعهداتها بتطوير موانئه واستعادة نشاطه مرة أخرى، إلى ساحة عرض مسلح للعديد من القواعد العسكرية والتدريبات القتالية.
ولم تكن الإمارات والسعودية وحدهما أصحاب الكلمة العليا في هذا الساحل، إذ انضمت لهما العديد من القوى الإقليمية الأخرى مثل مصر و”إسرائيل” وفرنسا وبريطانيا وحتى روسيا، اللافت للنظر أن كل هذه الدول يجمعها مصالح مشتركة وتتقاطع فيما بينها عبر ملفات إقليمية عدة، الأمر الذي بات أشبه بمأدبة طعام على أشلاء دولة تنهار.
اليمنيين المقيمين في محافظات الساحل الغربي يعاملون كـ”مرتزقة” حيث يخضعون بشكل شبه كامل للتجسس والتنصت
ومن أبرز الملفات التي يشترك فيها اللاعبون المؤثرون الآن في المشهد اليمني الساحلي “مواجهة التحالف والنفوذ التركي”، خاصة الثلاثي (السعودية والإمارات وفرنسا)، أما عن الحضور الروسي فيأتي بدعم إماراتي لإضفاء تأثير أكبر لحضورها ولتوظيف هذا الحضور في ملفات أخرى من بينها الملف الليبي.
أبو ظبي قدمت هدية لا تقدر بثمن لدولة الاحتلال، حيث فتحت الباب أمامها للدخول إلى هذه المنطقة الحساسة والتي كانت تحلم تل أبيب باختراقها لكنها ما كانت تملك الأدوات والمبررات، فالتواجد الإسرائيلي في تلك البقعة الاستراتيجية يمكنها من إنشاء قواعد عسكرية بالشراكة مع الإمارات لجعلها مركز دفاع متقدم بجانب توسيع النفوذ الإسرائيلي في جزيرة العرب والقرن الأفريقي، إضافة إلى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والأمنية والسياسية في الممرات الدولية.
كما نجحت الإمارات في تجنيد العديد من قادة وجنرالات هذه المنطقة، وباتوا سواعدها المنفذة لأجندتها في الجنوب والغرب على حد سواء، وكان هذا أبرز النقاط الخلافية بينها وبين الرياض، ولولا خشية الأخيرة من تصدع جدران التحالف، وما لذلك من تداعيات سلبية، لربما تعززت الشروخات بينهما بصورة أكبر.
وقد بلغت السيطرة الإماراتية على الشريط الساحلي حد أنه بات من الخطورة بمكان على أي قيادي أو مسؤول هناك أن يتحدث عما يدور في تلك البقعة، فالحديث في مثل هذه الأمور قد يكلف الشخص حياته، فضلًا عن اليمنيين الذين أصبحوا غرباء في وطنهم لا يعرفون ما يدور بداخله في ظل تعدد الأجندات وتباين المصالح.
الشهادات الواردة على لسان الكثير من المراقبين للشأن اليمني تشير إلى أن اليمنيين المقيمين في محافظات الساحل الغربي يعاملون كـ”مرتزقة” حيث يخضعون بشكل شبه كامل للتجسس والتنصت، كما أشار القيادي في “قوات العمالقة” في الساحل أبو خالد اليافعي، الذي لا يستبعد أن يتحول الساحل معقلًا لتدريب فرق الاغتيالات في أكثر من دولة، بعدما بات الباب مفتوحًا امام المرتزقة والجماعات المسلحة التي تتلقى تدريباتها العسكرية هناك، دون رقابة أو محاسبة من أحد سوى أجهزة الاستخبارات التي تشرف على هذا العمل وفقط.
فصل جديد من فصول الانتهاكات الإماراتية المتواصلة بحق الشعب اليمني الواقع ضحية أحلام التوسع والنفوذ لدى أبناء زايد، وبدلًا من أن ينصب اهتمام أبو ظبي بتحرير جزرها المحتلة في الخليج من قبل إيران، إذ توجه سهامها للسيطرة على موانئ الغير، عصب في إريتريا، بربرة في أرض الصومال، وعدن والمخا وبلحاف في اليمن، بخلاف جيبوتي ومن قبلها تأمين مصالحها في قناة السويس المصرية عبر السيطرة على نسبة كبيرة من الاستثمارات فيها.