حذر رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك” من تداعيات انخراط المؤسسة العسكرية في النشاط الاقتصادي الخاص، ومزاحمة الشركات الأهلية في المشروعات المدنية، معتبرًا الأمر “غير مقبول” وأنه على الشركات التي يشارك فيها الجيش أن تتحول إلى شركات “مساهمة عامة” تسمح للمواطنين بالمشاركة فيها.
حمدوك أشار إلى أن كل جيوش العالم لديها علاقات استثمارية لكنها تتعلق بنشاطهم الدفاعي والعسكري، كالاستثمار في الصناعات الدفاعية والتسليحية، وأن هذا أمر مشروع ومهم بالنسبة للدولة ككل، مستدركًا أن الاستثمار في قطاعات الإنتاج ربما يأتي بنتائج عكسية، الأمر الذي سيعود بالنفع على الشعب السوداني بأكمله.
وحث رئيس الوزراء على ضرورة وضع إطار منهجي وخطة زمنية للمضي قدمًا في معالجة الوضع الحالي وإدراج المؤسسات المملوكة للجيش في بورصة الشعب بما يمكن الجمهور الاستثمار فيها، متسائلًا: “ما هي قدرتنا على تحقيق هذا الأمر؟! فالكلام والقول أسهل من العمل”.
هذه التصريحات التي يتوقع أن تكون صادمة لجنرالات السودان، جاءت خلال مؤتمر صحفي عقده حمدوك بمناسبة رفع اسم السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب، وهو القرار الذي أعلنته الحكومة الأمريكية أمس، ومن المتوقع أن يكون لها تداعياتها الإيجابية على الاقتصاد السوداني وإنهاء عزلته الدولية.
الشفافية والمدنية مقابل المساعدات
يتزامن التوجه الحكومي السوداني الجديد مع «قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية للعام 2020» الذي أقره الكونغرس الأمريكي، الجمعة الماضية، والذي يتحدث عن فرض مراقبة مشددة على أموال المؤسسات الأمنية السودانية، الجيش والشرطة، وأصولها وميزانيتها، والحد من النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية ومنح القطاع المدني الفرصة الأكبر.
ويطالب هذا القانون الذي تم تمريره بموافقة الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، معًا، بالشفافية المالية المطلقة في كافة التعاملات التي يكون الجيش طرفًا فيها، بخلاف تعزيز السيطرة المدنية على معظم الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص معًا، بما يمهد الطريق للانتقال التدريجي نحو مدنية الدولة.
حمدوك في رده على الصحفيين في المؤتمر الصحفي ألمح إلى أن التطورات العصرية الراهنة لا تسمح لأحد بالاختباء، فكافة الأنشطة لابد وأن تكون تحت مجهر المراقبة والمحاسبة، وأنه لا يوجد قطاع ولا كيان، أيا كان نفوذه، خارج تلك الدائرة، في ضوء مقتضيات المرحلة التي تتطلب مزيدًا من الشفافية لحصول السودان على المساعدات الخارجية وإنهاء عزلته الدولية.
يتزامن حديث رئيس الوزراء، وما يتضمنه من رسائل قوية مع الذكرى الثانية لثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام عمر البشير، والتي كان من ضمن محركاتها الأساسية الوضع الاقتصادي المنهار، الذي لم يتحسن بعد رغم مرور قرابة 15 شهرًا على تولي الحكومة الحالية، الأمر الذي قد يدفع حمدوك ورفاقه إلى البحث عن أي مخرج لإنقاذ الوضع الحالي، ومن بين الخيارات المتاحة العمل على إزاحة الجيش عن منظومة الاقتصاد.
الجيش يسيطر على الاقتصاد
إذا كان الجيش أيام البشير يزاحم الشركات المدنية -إلى حد ما- في المشروعات الاستثمارية فإن الوضع بعد رحيله ازداد تفاقمًا، حيث أحكمت المؤسسة العسكرية قبضتها على العديد من مجالات الإنتاج والاستثمار لاسيما بعد التغيرات الجذرية التي طرأت على تركيبة الجيش منذ إبريل 2019.
ومع تولي جنرالات على شاكلة محمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع، ونائب رئيس المجلس العسكري، بدأت المؤسسة العسكرية تكشر عن أنيابها الحقيقية في المجال الاقتصادي، حيث وضع الرجل يده على معظم مفاصل الجيش لاسيما القطاعات المرتبطة بالاقتصاد.
إبعاد الجيش عن الاقتصاد كان أحد المطالب الثورية، والتي على أساسها تم الإطاحة بالبشير، كما كانت على رأس النقاط الخلافية بشأن إشراك العسكر داخل منظومة الحكم الجديدة
وبحكم الطبيعة الجغرافية للسودان فإن أبرز موردين اقتصاديين للبلاد هما الزراعة والتعدين، وهما الموردين المُسيطر عليهما من قبل عائلات على علاقة قوية بأباطرة المال داخل الجيش والنخبة الفاسدة في الحكومة، أو كما يطلق عليهم في السودان “عصابات المافيا”، وذلك بحسب تقرير للقناة الألمانية الأولى (ARD).
وكانت وكالة “بلومبيرج” الأمريكية قد نشرت قبل فترة تقريرًا استعرضت فيه أبرز الشركات التي تقود بيزنس الجيش، والمملوكة في الأساس إلى أسماء بارزة في القوات المسلحة السودانية، أو على الأقل مملوكة لأشخاص من ذات العائلة أو من أقارب الدرجة الأولى.
التقرير أوضح أن نصيب الأسد في تلك الشركات يعود إلى “حميدتي” الذي بات أحد أبرز أركان تهريب الذهب إلى الخارج لاسيما الإمارات، وذلك عن طريق مجموعة “الجناد” المملوكة لأحد أقاربه، والتي يضع يده على النسبة الأكبر من أسهمهما.
وكانت العديد من التقارير كشفت خلال العامين الماضيين عن تهريب حميدتي كميات كبيرة من ذهب بلاده إلى مطار أبو ظبي ودبي بطرق غير مشروعة، هذا بخلاف الشركات الأخرى العاملة في مجال الزراعة والتنقيب عن النفط والثروات المعدنية الأخرى.
صدام محتمل
إبعاد الجيش عن الاقتصاد كان أحد المطالب الثورية، والتي على أساسها تم الإطاحة بالبشير، كما كانت على رأس النقاط الخلافية بشأن إشراك العسكر داخل منظومة الحكم الجديدة، وهو الملف الذي عمق الخلاف بين المؤسسة العسكرية والحكومة المدنية.
الخطة التي قدمتها الحكومة منذ توليها مقاليد الأمور تضمنت العديد من الاستراتيجيات التي تهدف إلى إخراج الاقتصاد من غرف الإنعاش عبر ضخ المزيد من المزايا والمحفزات التي تساعده على النهوض من كبوته التي كان أحد أسبابها الفساد وغياب العدالة وسيطرة المؤسسة العسكرية على معظم المشهد.
وتحمل توجهات حمدوك التي تتماشى مع القانون الذي أقره الكونغرس قبل يومين العديد من الرسائل التي ربما تذهب إلى صدام محتمل بين المكون المدني والجيش الذي لن يترك أي جهة تنازعه في نفوذه الاقتصادي، وهو ما سينعكس سلبًا على المشهد السياسي الداخلي ويعزز الانقسامات بين مكوناته الحاكمة.
يتخوف السودانيون من السيناريو المصري، حيث سيطرة الجيش على معظم موارد الدولة، ومزاحمة القطاع الخاص في أدق المجالات
الباحثة السودانية في “هيومن رايتس ووتش”، جيهان هنري، كانت قد أشارت في تحليل لها إلى أن رئيس الحكومة السودانية يفكر في تخفيض حجم الإنفاق العسكري بشكل كبير في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد، لاسيما وأن الجيش يستحوذ على أكثر من 80% من موازنة الدولة.
وأضافت هنري أنه من الصعب قبول المؤسسة العسكرية بهذا التوجه، متوقعة “حدوث توترات بين الجيش والمدنيين، خاصة وأن العسكريين يمتلكون كل أدوات عرقلة قرارات حمدوك، الذي ليس لديه طريق يسلكه إلا بالتعاون والعمل مع الجنرالات”.
وأمام تلك الوضعية يتخوف السودانيون من السيناريو المصري، حيث سيطرة الجيش على معظم موارد الدولة، ومزاحمة القطاع الخاص في أدق المجالات، الأمر الذي أوقع معظم منافذ الانتاج والاستثمار في قبضة المؤسسة العسكرية، وهو التوجه الذي يسعى من خلاله جنرالات الجيش لوأد أي مساعي ثورية مستقبلية في ظل تفريغ المناخ الاقتصادي من كافة موارده لصالح مؤسستهم التي باتت وكأنها دولة داخل الدولة من حيث الموارد والإمكانيات والميزانيات.
وفي المحصلة فإن الشارع السوداني على موعد مع مأزق جديد محتمل بين المكون العسكري والمكون المدني، ما سيكون له تداعياته السلبية على خطة النهوض والتنمية وتلبية المطالب الثورية للشارع مع اقتراب الذكرى الثانية للثورة التي كان يعول عليها الملايين من السودانيين في الانتقال لدولة مدنية فإذ بهم يقعون في شرك العسكر مرة أخرى.