لا يتوقف نظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013 في مصر، عن شراء الأسلحة الثقيلة، ضمن صفقاتٍ مليارية، ممولة في معظمها بالقروض والديون، إلى درجة أنه اعتبر، وفق أحدث مؤشرات “معهد ستكهولم للسلام” أحد أبرز الأنظمة المستوردة للسلاح في العالم على الإطلاق، كما يسعى منذ مدة لتوطيد علاقاته العسكرية بدول بعيدة مثل جنوب إفريقيا وبيلاروسيا.
هذه حقائق يعرفها من له أدنى متابعة للشؤون الأمنية في المنطقة وطريقة تفكير النظام المصري الحاليّ، لكن ما استجد مؤخرًا، هي رغبة وقدرة النظام المصري على التعاقد على مزيدٍ من صفقات السلاح رغم تفاقم سجله الحقوقي السيئ، ما يطرح مزيدًا من الأسئلة عن هذه التحولات. أبرز هذه الشواهد وأهم المفارقات نحاول مقاربتها في هذه المادة.
صفقات أوروبية ضخمة
خلال زيارته الأخيرة لفرنسا، التي استمرت ثلاثة أيام، عقد السيسي، من ضمن لقاءاته مع قادة الدولة في باريس، أربعة اجتماعات عسكرية مهمة، كان عنوانها الرئيس: طلب مزيد من الأسلحة في أفرع فنية متنوعة.
اللقاء الأول للسيسي على مستوى الاجتماعات العسكرية، الذي وطأ، فيما يبدو، اللقاءات الفنية المتخصصة مع مديري كبرى شركات السلاح في باريس، كان مع وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي بقصر الإنفاليد، تلى هذا الاجتماع لقاءاتٌ متتابعة مع مديري شركات: داسو للصناعات الجوية ونافال جروب للصناعات البحرية وإير باص للصناعات الفضائية المتقدمة.
من خلال هذه اللقاءات وباستقراء السلوك المصري السابق في شراء الأسلحة من باريس، وبحسب تسريباتٍ صحفية فرنسية منها ما ورد على لسان صحيفة “لا تربيون”، فإن القاهرة تتفاوض مع باريس على شراء ما لا يقل عن سرب جديد من طائرات “رافال” الفرنسية متعددة المهام، إن لم يكن سربين، بالإضافة إلى قمر صناعي عسكري متقدم، لأغراض الاستطلاع والتجسس والرصد الكهرو بصري، وعدد من القطع البحرية المتطورة. ومن المقرر أن تشهد الأيام القادمة زياراتٍ للوفود العسكرية المصرية التي ستتولى مسؤولية التفاوض على الأعداد والتكاليف ومواعيد التسليم، حيث كانت زيارة السيسي مقتصرةً على “الخطوط العريضة”، بحضور كل من وزير الخارجية سامح شكري ومدير المخابرات العامة عباس كامل.
تأتي هذه المفاوضات الجديدة، عقب اتصال تليفوني مطول دار بين السيسي ورئيس الوزراء الإيطالي
في نفس التوقيت تقريبًا، يجري التفاوض بين القاهرة وروما، على صفقة مليارية، بعد موافقة الحكومة الإيطالية على منح مصر تمويلات ميسرة لشراء طائرات مقاتلة طراز “يورو فايتر تايفون” وطائرات تدريب متقدم “إيرماكي/ M- 346” وقمر صناعي متقدم لأغراض التصوير الراداري. تستفيد الشركة الإيطالية، حال إتمام الصفقة، بالحفاظ على أسهمها مستقرة في سوق المال، بعد تلقيها ضربةً مؤلمة، إثر نجاح مخترِقين في التسلل لبعض بياناتها الداخلية، أدت إلى انخفاض سعر سهمها السوقي بمقدار الربع تقريبًا، وتكمل القاهرة، من ضمن ما تسعى إليه، منظومة الأقمار الصناعية التي تطمح إلى امتلاكها في البث التليفزيوني والاتصالات المؤمنة والتصوير والرصد الراداري.
وتأتي هذه المفاوضات الجديدة، عقب اتصال تليفوني مطول دار بين السيسي ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، في الـ20 من نوفمبر/تشرين الثاني، أي منذ نحو شهر، جرى خلاله بحث العلاقات الاقتصادية والعسكرية وأمن الطاقة في شرق المتوسط وجهود مكافحة الإرهاب، وبعد أربعة أشهر فقط، على موافقة روما على بيع القاهرة قطعتين بحريتين (فرقاطتين) من شركة “فينكانتيري”، تتسلم إحداهما خلال أيام والأخرى ربيع العام القادم.
وكانت القاهرة قد تسلمت من برلين مؤخرًا عدد 10 قطع بحرية خفيفة، بين زوارق الدورية وزوارق حماية السواحل، بعد موافقة الحكومة الألمانية ومجلس الأمن الاتحادي، على التسليم، وإعلام البرلمان بذلك، ضمن صفقةٍ تقدر بـ130 مليون دولار أمريكي، جرى إبرامها عام 2018، أي أننا نتحدث عن عقود سلاح ضخمة بين القاهرة والثلاث عواصم الأوروبية الكبرى.
انتقادات واسعة
تتزامن المساعي المصرية لإنهاء تسليم عقود صفقات أسلحة جرى إبرامها منذ مدة أو إنجاز صفقات جديدة، مع موجةٍ عاتية، من الانتقادات الخارجية لملف حقوق الإنسان المتردي بالداخل المصري.
ففي نفس الزيارة التي سعى فيها السيسي لتعبيد الطريق أمام الحصول على أسلحةٍ فرنسية متقدمة وباهظة الثمن، طرح حليفه الإستراتيجي إيمانويل ماكرون، رئيس الجمهورية الفرنسية، على استحياء، ملف المعتقلين في السجون المصرية، منوِهًا عن قائمة محددة، يأتي على رأسها الناشط رامي شعث.
رامي شعث هو مصري فلسطيني، من أكثر نشطاء ثورة يناير رصانةً ورشادًا، وقد جرى اعتقاله منذ يوليو/تموز 2019، والزج به في قضية “الأمل” المعتقل بها عدد من النشطاء ذوي الميول اليسارية والليبرالية، بتهمٍ متعلقة بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي يصنِفها النظام المصري جماعةً إرهابية، وبحسب أسرته، فإنه لم يجر التحقيق مع شعث، منذ اعتقاله، إلا مرة واحدة، باليوم التالي للقبض عليه، في أحد مقرات “الأمن الوطني”، وأنه يقبع في مقر احتجاز غير آدمي مكدس بالمعتقلين، وسط ظروف صحية سيئة.
من جديد أيضًا، عادت قضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني إلى الواجهة، بعد إعلان السلطات القانونية في روما الانتهاء من تحقيقاتها، بتوجيه لائحة الاتهام إلى أربعة ضباط من جهاز “الأمن الوطني” متهمين بقتله، منذ أربعة أعوام، بالتزامن مع ذكرى ثورة يناير/كانون الثاني عام 2016.
وقد هب حراكٌ حقوقي في أوروبا، بالتزامن مع إعلان نيابة الجمهورية في روما توجيه لائحة الاتهام إلى ضباط جهاز الأمن الوطني المصري وزيارة السيسي إلى باريس، تنازل خلاله عددٌ من الصحفيين الإيطاليين عن أرفع أوسمتهم التي حصلوا عليها من فرنسا، باعتباره نوعًا من التضامن الأخلاقي مع الباحث الإيطالي المغدور، والاحتجاجَ ضد القيادة الفرنسية التي منحت السيسي، المسؤول “السياسي” عن مقتل ريجيني، كما وصفه كورادو أوغياس، الصحفي الإيطالي الحاصل على “جوقة الشرف” في لقاء مصور مع قناة الجزيرة، نفس الوسام.
نشب حراك مشابه، أقل جذوةً، في برلين، ضد السلطات الألمانية، بعد موافقتها على بيع الزوارق للنظام المصري
القناة الأخيرة بثت، أيضًا، مقاطع مصورة تظهر قيام عناصر أمنية معاونة لضباط جهاز الأمن الوطني المصري، بتتبع والإرشاد عن الباحث، قبل التورط في قتله منذ أربعة أعوام، وتبرز، هنا، فرضية تقول إن أجهزة الأمن والسلطات الإيطالية منحت “الجزيرة” هذه المواد، بعد نجاحها في اختراق “السوفت وير” الخاص بمعدات مراقبة كانت قد باعتها للنظام المصري في وقت سابق.
ومطلع الشهر الماضي، نشب حراك مشابه، أقل جذوةً، في برلين، ضد السلطات الألمانية، بعد موافقتها على بيع الزوارق للنظام المصري، قال خلاله “أوميد نوريبر”، من حزب الخضر اليساري إن هذه المعاملة “إفلاس أخلاقي”، وطالب سيفيم داغديلين على إثره بوقف بيع الأسلحة إلى دول الشطر الجنوبي في المتوسط، في إشارة إلى مصر.
محاولة للفهم
رغم ملاحظات الرئيس الفرنسي على ملف حقوق الإنسان، أبدت الحكومة موافقةً مبدئيةً على طلبات النظام المصري الحصول على أسلحة جديدة، قالت وزيرة الدفاع الفرنسية، نصًا، إن بلادها تتطلع لترسيخ التعاون العسكري والأمني بين البلدين، لأن تلك العلاقات تمثل ركيزةً للاستقرار والأمن في منطقة المتوسط، خاصة في ضوء الدور المهم والحيوي الذي تؤديه مصر في تحقيق التوازن الإقليمي، وبحسب جريدة “Milano Finanza” الإيطالية، فإن شركة “ليوناردو” تتشوق لإنجاح مفاوضاتها الجارية مع مصر.. فكيف يمكن فهم ذلك، في ضوء الالتزامات الأوروبية بحقوق الإنسان وتأثير هذه الأسلحة “النوعية” على موازين القوى في المنطقة؟
الراجح أن النظام المصري الحاليّ، قياسًا على نظام مبارك، حيث يعتبر الأول امتدادًا للثاني بشكل أو بآخر، أكثر “جسارةً”، إن جاز التعبير، في وجه الانتقادات الأوروبية لحقوق الإنسان، ففي لقاء سابق مع ماكرون في القاهرة، تحفظ السيسي على التعريف الغربي لحقوق الإنسان، باعتبارها حقوقًا مدنية وسياسية، ودعا إلى التفكير فيها باعتبارها حقوقا أمنية وكفائية ضمن قيم المنطقة.
وفي زيارته الأخيرة إلى باريس، هاجم السيسي منتقدي أوضاع حقوق الإنسان في مصر، معتبرًا أن القاهرة ليس لديها ما تخجل منه في هذا الصدد، وحتى الآن، لم تفرج مصر عن شعث الذي تطالب الحكومة الفرنسية بإخلاء سبيله استرضاءً لزوجته الفرنسية، وترفض تسليم الأربعة المتورطين في مقتل ريجيني، بعد أن انتزعت من روما اعترافًا بأن الاتهامات الإيطالية للضباط لا تتجاوزها إلى اتهام المستوى السياسي المصري، كما ورد في البيان المشترك بين النيابتين.
أمام هذه الجسارة، يبدو أن هناك تساهلًا أوروبيًا في التعامل مع النظام في مصر، تجلى في تصريح ماكرون بأن بلاده لن تربط الدعم العسكري بملف حقوق الإنسان، لأن ذلك قد يؤثر على جهود القاهرة في ملف مكافحة الإرهاب، وبحسب كورادو أوغياس، الصحفي الإيطالي المتنازل عن وسامه، فإن الحكومة الفرنسية كان بوسعها استقبال السيسي استقبالًا رسميًا حافلًا يليق برئيس دولة حليفة، دون المبالغة في تكريمه، كما كانت تفعل العواصم الأوروبية مع “الديكتاتور” القذافي، قبل الربيع العربي. استقبال حافل، دون مبالغة، لكن الدول الأوروبية، على حد قوله، باتت تولي اهتمامًا كبيرًا بمسائل المال والطاقة وبيع التكنولوجيا، على حساب القيم.
وبالفعل، ركز النظام المصري، منذ استحواذه على السلطة على منح كبرى الشركات الأوروبية حصصًا من الاستثمارات في مصر، لربط مصالحه بمصالحهم، مثل سيمنز وإيني وأورانج وداسو، وظهر أيضًا هذا التساهل في تمرير ألمانيا صفقة الزوارق للنظام المصري، بالتحايل على قرار منع بيع السلاح للدول المشاركة في حرب اليمن، كما أوضح النائب الألماني داغديلين.
عقد الجيش المصري بعض التدريبات مؤخرًا، مع دول خارجية، عربية وأجنبية، كان عنوانها: محاكاة القتال ضد أنقرة
إستراتيجيًا، وبالمقارنة بنظام مبارك أيضًا، فإن نظام السيسي أكثر حرصًا على ما يسميه “الحفاظ على التوازن الإستراتيجي في المنطقة”، وتأكيد ذلك، عبر تنويع مصادر السلاح، شرقًا وغربًا، كما أوضح السيسي نفسه في لقائه مع طلبة الكلية الحربية، ردًا على سؤال عن سبب زيارته لباريس، لكن هذا التوسع العسكري، لم يعد موجهًا ضد “إسرائيل” كما كانت الحال في الماضي، حيث باتت “إسرائيل” نفسها أكثر انفتاحًا على توسع الجيش المصري عسكريًا، نظرًا لتقاطع أهدافها مع بعض أهدافه، في شرق المتوسط والبحر الأحمر، وليس أدل على ذلك أكثر من لوم موشيه يعالون وزير الدفاع الأسبق الحكومة الأمريكية على تقصيرها في مد الجيش بمصر بما يحتاجه من معدات، مما دفع المصريين للبحث عن شركاء خارجيين آخرين، على حد قوله في لقاء مع “بي بي سي” عربي منذ ست سنوات، بالإضافة إلى موافقة نتنياهو الشخصية على حصول مصر على غواصات ألمانية متطورة، مما سبب له بعض المتاعب على المستوى السياسي والعسكري.
تستفيد “إسرائيل”، في المقابل، بديمومة واستقرار السلام الممتد مع مصر منذ أربعة عقود، الذي كان أحد أسباب فتح الباب لها أمام الموجة الثانية من التطبيع العربي، وللمفارقة، فإن السيسي يهرول، بلا مبالغة، لمباركة خبر انضمام أي دولة عربية جديدة لقافلة التطبيع، كما تتسامح مصر، في ضوء هذا التنسيق، مع بعض المشاريع الجيوسياسية الجديدة، حتى لو أضرت بمصالحها، على غرار خط “إيلات/ عسقلان” الذي سيستخدم لنقل النفط العربي لأوروبا، بديلًا لقناة السويس ومشروع خطوط الاتصالات البحرية التي ستستخدم مسارات بديلة لقناة السويس.
بالإضافة إلى الأسباب السياسية كشراء الصمت الأوروبي، والاقتصادية على غرار عمولات السلاح، والأمنية على غرار تطوير الترسانة العسكرية المصرية بما يتلاءم مع خطة “مصر 2030″، فالتدعيمات الجديدة للجيش المصري موجهة بالأساس، منذ يوليو/تموز 2013، ضد تركيا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر في ليبيا وشرق المتوسط.
عقد الجيش المصري بعض التدريبات مؤخرًا، مع دول خارجية، عربية وأجنبية، كان عنوانها: محاكاة القتال ضد أنقرة، مثل التدريب العربي المشترك ومناورات مصر وروسيا، لأول مرة في البحر الأسود، وللمفارقة، لم يسأل السيسي في حواره الصحفي مع “لو فيجارو” عن احتمال القتال إلا ضد تركيا، فكانت إجابته أن الجيش المصري لن يبدأ القتال ضدها، ولكنه مستعد لذلك.
وبعد تركيا، تأتي التهديدات الإستراتيجية المائية القادمة من الجنوب، فبعد بناء قلعة عسكرية ضخمة أقصى أسوان، تسمى “برنيس”، أنهى الجيش المصري لتوه مناورات جوية غير مسبوقة مع نظيره السوداني، وسط تفاهمات لتوطيد العلاقات العسكرية، تلتها مقاطع جوية دعائية شعارها أن: سلاح الجو المصري قادر على كسر حاجز المدى.