لا يزال البيت الداخلي الإسرائيلي يعاني من العديد من الشروخات والانقسامات رغم مساعي تجميل الصورة التي تقوم بها الدولة العبرية لخداع العالم بما هو بعيد عن الواقع الفعلي، فبعد ماراثون طويل من النقاشات وتباين الرأي تم حل الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) منتصف ليل الأربعاء، بعد الفشل في تمرير الموازنة العامة 2020.
وكان أمام البرلمان يوم الثلاثاء للموافقة على الميزانية بموجب اتفاق تشكيل الحكومة في مايو/أيار الماضي، وهو ما لم يتحقق، الأمر الذي دفع إلى حل الكنيست والإعلان عن إجراء انتخابات برلمانية ستكون الرابعة في أقل من عامين.
اللافت للنظر أن الخلاف هذه المرة بشأن تمرير الموازنة لم يكن كما المعتاد، بين الحكومة والمعارضة، لكنه كان بين الشركاء داخل الائتلاف المشارك في حكومة “الوحدة والطوارئ” التي يقودها حزب الليكود بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وشريكه حزب “أزرق-أبيض” برئاسة وزير الدفاع بيني غانتس.
وبعد حل المجلس فمن المقرر أن تُجرى انتخابات برلمانية مبكرة في 23 من مارس/آذار 2021، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات عن حقيقة نشوب هذا الخلاف في هذا التوقيت تحديدًا، الذي يواجه فيه نتنياهو انتقادات حادة على المستوى الداخلي رغم ما حققه من نجاحات على مستوى التقارب مع الدول العربية، حيث نجح في أقل من عام – بوساطة وضغط أمريكي – في إبرام اتفاقيات تطبيع مع الإمارات والبحرين، فيما يقف السودان والمغرب على بعد خطوات من التوقيع.. فما القصة؟
الميزانية.. خلاف المدة الزمنية
بموجب الاتفاق الائتلافي الموقع بين “الليكود” و”أزرق-أبيض” في أبريل/نيسان الماضي، قبل شهر واحد فقط من تشكيل الحكومة الحاليّة، فإن الموعد النهائي لإقرار الميزانية يكون كحد أقصى بعد 100 يوم على تشكيل الحكومة، وعليه كان من المفترض أن يتم الانتهاء منها في 25 من أغسطس/آب الماضي.
إلا أن الكنيست وبسبب ظروف فيروس كورونا المستجد وبعض المتغيرات الداخلية الأخرى اضطر لإدخال بعض التعديلات على هذا الاتفاق، ليتم مد الحد الأقصى لتمرير الميزانية إلى 23 من ديسمبر/كانون الأول الحاليّ، وإلا فليس هناك سوى قرار حل المجلس وإجراء انتخابات برلمانية جديدة.
قد يكون المعلن أن الخلاف بين حليفي الحكم في “إسرائيل” يرجع إلى تباين وجهات النظر بشأن المدة الزمنية للميزانية، لكن الأمر أعمق من ذلك، إذ تسير حكومة الائتلاف منذ فترة على درب السقوط
الخلاف بين حزبي نتنياهو وغانتس لم يتطرق كثيرًا إلى مضمون الميزانية وما جاء فيها من أرقام وإحصاءات، لكنه كان خلافًا على المدة الزمنية التي من المقرر أن تشملها، وظل هذا الخلاف طيلة الأشهر الماضية، حيث أراد رئيس الحكومة أن تكون لمدة عام واحد فقط، في مقابل إصرار غانتس على أن تكون لعامين 2020 و2021.
كانت مبررات رئيس حزب “أزرق-أبيض” في هذا التحرك أن الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد جراء تفشي كورونا الذي كبد “إسرائيل” العديد من الخسائر في ظل ارتفاع أعداد الإصابات بها مقارنة بدول المنطقة، تتطلب مزيدًا من الاستقرار السياسي والاقتصادي وهذا يتطلب إقرار الميزانية لعامين وليس لعام واحد فقط، وهو الأمر الذي رفضه نتنياهو وترتب عليه رفض الأمر بالكلية وإعلان حل البرلمان.
أكبر من مجرد خلاف على ميزانية
قد يكون المعلن أن الخلاف بين حليفي الحكم في “إسرائيل” يرجع إلى تباين وجهات النظر بشأن المدة الزمنية للميزانية، لكن الأمر أعمق من ذلك، إذ تسير حكومة الائتلاف منذ فترة على درب السقوط في ظل سياسة “التصيد والتلكيك” التي يتبعها قادة الحزبين الكبيرين للآخر.
الأشهر الماضية ومنذ تشكيل الحكومة مايو/أيار الماضي والخلافات تتصاعد يومًا تلو الآخر بين نتنياهو وغانتس، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال عدد من المؤشرات المصاحبة لبعض الأحداث التي وقعت خلال تلك الفترة، أحدثها الخلاف الناشب بينهما، منتصف ديسمبر/كانون الأول الحاليّ، على خلفية تعيين رئيس الحكومة رئيسًا جديدًا لجهاز “الموساد” خلفًا ليوسي كوهين، دون إخطار غانتس، الأمر الذي أغضب الأخير بصورة كبيرة.
يسير زعيم حزب الليكود في تمسكه بالسلطة بنفس عقلية صديقه ترامب، حيث “سياسة الأرض المحروقة”
قناة كان العبرية الرسمية نقلت أن غانتس تحدث هاتفيًا مع نتنياهو بعد ساعات قليلة من تعيينه خليفة لرئيس الموساد الذي كان يتولى الجهاز منذ 2016، وخلال المكالمة أعرب رئيس “أزرق-أبيض” عن غضبه الشديد بسبب تجاهله والإقدام على هذه الخطوة دون إبلاغه أو استشارته.
كما برز الخلاف بشكل أكبر عقب تجاهل نتنياهو لغانتس – وهو وزير الدفاع – في سباق التطبيع الذي قادته أمريكا خلال الفترة الماضية، حيث أبرم رئيس الحكومة اتفاقيات التقارب مع كل من الإمارات والبحرين فيما تواصل مع قادة السودان والمغرب، والتقى ولي العهد السعودي في مدينة نيوم الحدودية، دون إطلاع شريكه في الحكم على أي من تلك التفاصيل، وهو التجاهل الذي أثار حفيظته بحسب وسائل إعلام عبرية.
وفي يونيو/حزيران الماضي كشفت مصادر إسرائيلية عن تهديد نتنياهو لوزير دفاعه بحل الحكومة والذهاب نحو انتخابات مبكرة حال عدم دعمه لخطة ضم دولة الاحتلال أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن، وهي الخطة التي تسببت في خلاف بين الطرفين بسبب طريقة الضم وليس القرار في حد ذاته.
ومن المتوقع أن تستمر المناوشات بين شريكي الحكم خلال المرحلة المقبلة كذلك رغم الحالة التي وصلت إليها البلاد من فقدان للاستقرار السياسي والاقتصادي بسبب الخلافات داخل الائتلاف الحكومي، حيث ذكرت صحيفة معاريف العبرية، أن توترًا جديدًا من المتوقع أن ينشب بينهما بسبب هوية سفير “إسرائيل” لدى دولة الامارات، حيث يميل نتنياهو لعضو الكنيست آفي ديختر من حزب الليكود، وهو ما لم يجد قبولًا لدى غانتس حتى كتابة هذه السطور.
تكتيك سياسي
حين تم التفاوض بهدف تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد التعثر الذي واجهته، نص الاتفاق المبرم بين الائتلاف لتشكيل الحكومة لمدة 3 سنوات، على تولي نتنياهو رئاسة مجلس الوزراء لمدة عام ونصف تنتهي في نوفمبر/تشرين 2021 على أن يتولى بعدها مباشرة، غانتس، لمدة عام ونصف آخر.
الصدام المستمر بين نتنياهو وغانتس وتجاهل الأول الدائم للأخير في الكثير من القرارات المصيرية، بجانب رفض تمرير الموازنة الأخيرة، فسره البعض بأنه مناورة سياسية من رئيس الحكومة للإبقاء على حالة عدم الاستقرار داخل الائتلاف.
وفي هذه الحالة فمن المحتمل أن يتم إسقاط الحكومة حال تعززت تلك الانقسامات قبل موعد تسليم نتنياهو للسلطة في نوفمبر/ تشرين القادم، وهو ما يسعى إليه رئيس الحكومة الحاليّ الذي يواجه انتقادات واتهامات بالفساد وصل بعضها لساحات القضاء ومن المحتمل حال تخليه عن السلطة أن يُلاحق قضائيًا.
ورغم هدية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لصديقه نتنياهو في دفع 4 دول عربية للهرولة نحو التطبيع مع تل أبيب وهو النجاح الذي يحسب – نظريًا – لصالح الحكومة العبرية، يبدو أنه لم يؤت ثماره على المستوى الداخلي رغم الاحتفاء الكبير به شعبيًا، وهو ذات الموقف أمريكيًا.
يسير زعيم حزب الليكود في تمسكه بالسلطة بنفس عقلية صديقه ترامب، حيث “سياسة الأرض المحروقة” وتعقيد كل الملفات إلى الحد الذي ينحصر فيه التحرك بين سيناريوهين، إما تصعيب مسؤولية السلطة الجديدة بتعقيد كل المسائل العالقة وزرع بذور الشوك في طريقها وإما عرقلة عملية تبادل السلطة بأي طريقة كانت، بما يبقي على الوضعية الحاليّة لحين تحسن الأجواء، وهو ما يفعله الرئيس الأمريكي حاليًّا بعد إعلان فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات التي جرت مؤخرًا.
على عكس ما يتوهم نتنياهو والليكود بأن تلك المناورة قد تحسم بقاءه في المنصب لفترات قادمة، إلا أن المؤشرات الحاليّة تذهب إلى أن الانتخابات القادمة ستكون مختلفة بصورة كبيرة عن المرات الثلاثة السابقة
جدير بالذكر أن الولاية الأخيرة لنتنياهو شهدت العديد من التعثر في ظل اختلاقه المستمر للأزمات وتوتير الأجواء مع التيارات السياسية الأخرى كافة، وليس شركاؤه في الائتلاف وفقط، ولعل تلك الإستراتيجية هي ما أودت بالمشهد إلى مرحلته الحاليّة حيث غياب الاستقرار السياسي وإجراء أربعة انتخابات في أقل من عامين، في سابقة هي الأولى منذ تدشين دولة الاحتلال فوق التراب الفلسطيني.
فمنذ حل نتنياهو لحكومته السابقة في ديسمبر/كانون الأول 2018 شهدت الساحة الإسرائيلية 3 انتخابات: الأولى كانت في أبريل/نيسان 2019، فيما جرت الثانية في سبتمبر/أيلول من العام ذاته بعد فشل تشكيل رئيس الليكود لحكومة جديدة، أما المرة الثالثة فكانت في مارس/آذار من العام الحاليّ، وحينها تم الاتفاق على تشكيل حكومة “طوارئ ووحدة وطنية” بعد جولات من المفاوضات أسفر عن إقناع حزب غانتس بالانضمام للائتلاف بعد سلسلة من الانسحابات من القوائم الحزبية الأخرى.
وعلى عكس ما يتوهم نتنياهو والليكود بأن تلك المناورة قد تحسم بقاءه في المنصب لفترات قادمة، إلا أن المؤشرات الحالية تذهب إلى أن الانتخابات القادمة ستكون مختلفة بصورة كبيرة عن المرات الثلاثة السابقة، إذ تأتي وسط تصاعد الغضب الشعبي تجاه نهج رئيس الحكومة الحاليّ في التصدي لفيروس كوورنا بعد أعداد الإصابات الكبيرة، هذا بجانب سهام النقد الموجهة ضده على خلفية تورطه في قضايا فساد.