لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن ضحية جديدة لعنف الشرطة الفرنسية وممارساتها الوحشية ضد الأجانب في بلاد “الحريات الصورية”، خاصة بعد أن شرعن لها نظام الرئيس إيمانويل ماكرون ذلك وبسط لها السجاد الأحمر حتى تنتهك الحريات الفردية والخاصة.
نزيف مستمر
آخر ضحايا عنف الشرطة الفرنسية الممنهج، مهاجر تونسي غير نظامي تعرض قبل أسبوعين إلى العنف الشديد بمركز الاعتقال الإداري في مدينة نيس جنوب البلاد، ما أسفر عن تدخل جراحي عاجل بسبب فقدان إحدى خصيتيه.
أيمن البرهومي، تونسي يبلغ من العمر 35 عامًا، خضع لعملية جراحية طارئة في مستشفى باستور في نيس يوم 13 من ديسمبر/كانون الأول، وكان على الأطباء استئصال خصيته اليمنى بعد ضربة تلقاها في مركز احتجاز، كما جاء في تقريره الطبي.
توقف الشرطة المواطنين أكثر من العمل على حمايتهم، خاصة المهاجرين منهم، فهي تراهم مجرد أرقام أضيفت إلى مجتمعهم، وجب التخلص منها حتى لا تتكاثر
ركب البرهومي أمواج البحر المتوسط وعرض نفسه إلى خطر الموت حتى يصل إلى فرنسا، حيث كان يحلم أن يجد هناك كرامته ويكسب قوت يومه بعرقه، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد وجد الإهانة تنتظره وقررت السلطات الفرنسية ترحيله.
قَبِل أيمن بالقرار وكان يستعد للعودة إلى بلده تونس كما جاء منه سالمًا معافى، لكن يبدو أنه سيعود إليه دون أحد أعضائه بعد أن خسره نتيجة العنف غير المسبوق الذي مُورس ضده، دقائق قليلة في مركز الاعتقال كانت كفيلة بأن تُخرج البرهومي في سيارة إسعاف نحو المستشفى.
كان البرهوني يحلم أن يعمل في فرنسا ويؤسس عائلة، لكن يبدو أن هذا لن يحصل نتيجة عنف الشرطة الفرنسية، ففرصه في الإنجاب مستقبلًا أصبحت شبه مستحيلة بعد هذا الاعتداء الوحشي الذي طاله دون ذنب منه.
عنف ممنهج
ما تعرض له الشاب التونسي ليس قضية فردية، فقد شهدت فرنسا حالات خطيرة من عنف الشرطة ضد الشباب الأجانب من وادي رويا، جنوب شرق فرنسا، إلى ساحل المانش شمال البلاد، حتى إن أعمال العنف والمضايقات من الشرطة “باتت روتينًا شبه يومي”.
وقبل أسابيع أظهرت مقاطع فيديو تعرض شاب أسود البشرة للضرب عند دخوله إستوديو الموسيقى الخاص به في باريس، ظهر الشاب الأسود في اللقطات وهو يتعرض للضرب على يد الشرطة عند مدخل إستوديو للموسيقى، وحاول أعوان الشرطة فتح الباب بالقوة، فيما ألقى شرطي رابع عبوة غاز مسيل للدموع داخل الإستوديو، لم يكتفوا بضربه فقط، بل وصفوه بعبارات عنصرية.
في حادثة منفصلة، تعرض لاجئون إلى العنف عند تفكيك الشرطة لمخيم وسط باريس – أقيم لإيواء مئات اللاجئين الذين تم إجلاؤهم من مراكز إيواء مؤقتة في الضواحي دون توفير بديل – حيث استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع والعصي لتفكيك نحو 500 خيمة زرقاء اللون أقامها متطوعون ومهاجرون، ما تسبب في محاصرتهم وإصابة بعضهم.
كما أقدمت الشرطة الفرنسة في السنوات الأخيرة على تفكيك مخيمات وتجمعات عشوائية وأحياء فقيرة في جميع أنحاء فرنسا في خطوة ممنهجة لتضييق الخناق على مئات المهاجرين، وقد سبق أن اتهم أمين المظالم المعني بحقوق الإنسان في فرنسا جاك توبون، السلطات بـ”محاولة جعل المهاجرين غير مرئيين” من خلال إخلاء معسكراتهم بانتظام دون تزويدهم ببدائل واقعية.
لم تكتف الشرطة الفرنسية بتعنيف اللاجئين وتشتيتهم، بل وصل بهم الأمر لقتل بعضهم أيضًا، مثل وسام اليامني الذي مات في أثناء اعتقاله سنة 2012، وأبو بكر فوفانا الذي قُتل بعيار ناري أطلقه رجل أمن في 2018، دون أن ننسى أداما تراوري الذي قضى نحبه داخل ثكنة للدرك بعد ساعتين من توقيفه في منطقة باريس في ختام عملية مطاردة أمنية نجح في مرحلة أولى في الإفلات منها في 19 يوليو/تموز 2016.
أخبار اعتداءات الشرطة الفرنسية وصلتنا أيضًا عن طريقهم، ضمن اعترافات جديدة على لسان بعضهم، ومنهم إريك فيرزيل، البالغ من العمر 57 عامًا، حيث أوضح الشرطي المذكور أنه أصبح ضابط شرطة عام 1981 وانضم لاحقًا إلى شرطة مكافحة الشغب التي تسمى اتحاد الأمن الجمهوري (CRS).
قال فيرزيل في اعترافاته التي نقلتها صحيفة “لوموند”: “كنا في شرطة مكافحة الشغب، بارعين في هدم خيام المهاجرين”، مشيرًا إلى أنه تعرض للسخرية لانتقاده استخدام العنف في مواجهة المهاجرين، ما دفعه في 2017 لترك مهنته التي بدأها لحماية الضعفاء، على حد تعبيره.
بدوره أفاد آرثر، الذي كان ضابط شرطة في منتصف العقد الأول من القرن الـ21، أن زملائه في قطاع الشرطة كانوا ينخرطون يوميًا في اعتداءات وممارسات عنيفة. شرطية أخرى تدعى سلفيا، تبلغ من العمر 50 عامًا، شددت في التقرير نفسه على أن التدخلات القاسية ضرورية لعملهم، لافتة أن “الناس لا يعرفون معنى البصق والقذف بالحجارة والإهانة كل يوم”.
عنصرية كامنة
تشير دلائل عديدة إلى وجود عنصرية كامنة لدى الشرطة الفرنسية يتعين الاعتراف والإقرار بها، فهناك عنصريون ويمينيون متطرفون ببدلات رسمية، يمارسون عنصريتهم في الفضاء العام وباسم القانون أمام أعين الناس وعدسات الكاميرات.
توقف الشرطة المواطنون أكثر من العمل على حمايتهم، خاصة المهاجرين منهم، فهي تراهم مجرد أرقام أضيفت إلى مجتمعهم، وجب التخلص منها حتى لا تتكاثر وتنافسهم في بلادهم، ناسين أن دولتهم استعمرت معظم دول العالم.
عنصرية الشرطة الفرنسية نقرأها في رسائلهم، فقبل أشهر قليلة، كشفت وسائل إعلام فرنسية، عن تبادل 11 شرطيًا بمدينة روان (شمال) يؤمنون بتفوق “العرق الأبيض” لرسائل عنصرية عبر هواتفهم، أهانوا من خلالها عددًا من الطوائف الأخرى بالمجتمع كالسود والعرب واليهود، فضلًا عن النساء.
الشرطة الفرنسية ما هي إلا مرآة للدولة الفرنسية، فهي تعكس عنصرية سلطات البلاد في وجه الأجانب القادمين إليها من مناطق عدة في العالم
هذه المراسلات تضمنت كذلك تسجيلات صوتية تحدث فيها رجال الشرطة عن تفوق عنصرهم الأبيض، وافتخارهم بذلك، وأنهم أهانوا فيها العرب والنساء واليهود وأصحاب البشرة السوداء، ومع ذلك ما زال هؤلاء الأشخاص على رأس أعمالهم.
في سنة 2017، نشر المدافع عن الحقوق جاك توبون – يمثل توبون السلطة الإدارية المستقلة المكلفة الدفاع عن حقوق المواطنين في فرنسا – تحقيقًا كشف فيه عن احتمال تعرض شباب سود أو عرب للتوقيف والمساءلة من رجال الأمن تزيد 20 مرة على احتمال تعرض شاب أبيض لذلك.
أضاف التحقيق أن نسبة الشباب السود أو العرب الذين يقولون إنهم تعرضوا للتوقيف في خلال السنوات الخمسة الماضية تصل إلى 80% من بين الأشخاص الذين استُطلعت آراؤهم، في حين تنخفض هذه النسبة بين عامة الفرنسيين إلى 16% في خلال المدة نفسها.
ماكرون يشرعن عنف الشرطة
العديد من القضايا تم رفعها ضد عناصر الشرطة المعتدين على الأجانب لكن لم يتم البت فيها، وإن تم البت فيها فالعقاب غالبًا ما يكون مع وقف التنفيذ، ما جعل العديد من الحقوقيين يؤكدون أن نظام ماكرون يُشرعن لعنف الشرطة.
هذا الاعتقاد تأكد بعد طرح الفريق النيابي لحزب ماكرون مشروع قانون “الأمن الشامل” الذي يعزز من سلطات الشرطة في المراقبة وينتهك الحريات الإعلامية، الأمر الذي عجل بخروج الآلاف في احتجاجات عارمة.
يخشى النشطاء الفرنسيون أن يحرمهم القانون الأمني الجديد المقترح من سلاح قوي ضد الانتهاكات – مقاطع فيديو على الهواتف المحمولة لنشاط الشرطة – مما يهدد جهودهم لتوثيق الحالات المحتملة لقسوة الشرطة، خاصة في أحياء المهاجرين الفقيرة.
دفعت حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بمشروع قانون أمني جديد يجعل نشر صور ضباط الشرطة أمرًا غير قانوني، ويخشى المنتقدون أن يضر القانون الجديد بحريات الصحافة ويزيد من صعوبة الإبلاغ عن وحشية الشرطة على جميع المواطنين.
أثار مشروع القانون، احتجاجات في جميع أنحاء البلاد دعا إليها دعاة حرية الصحافة ونشطاء الحقوق المدنية عائلات وأصدقاء لأشخاص عنفتهم وقتلتهم الشرطة، حيث ما انفكت المظاهرات في باريس والعديد من المدن الفرنسية الأخرى تتوقف.
تسعى حكومة ماكرون من خلال مشروع هذا القانون إلى منع نشر الفيديوهات التي توثق عنف الشرطة، بعد أن ساعدت مقاطع الفيديو التي نشرها الجمهور على نطاق واسع في تأكيد وجود مشاكل منهجية عند قوات الشرطة الفرنسية التي تقوم بالإساءة واللكم والضرب والتشويه والقتل.
هذه الصور والفيديوهات المنشورة على الإنترنت كانت أساسية للتنديد بحالات سوء سلوك الضباط والعنصرية في السنوات الأخيرة، لذلك يسعى ماكرون إلى منعها حتى يقنن سياسة الإفلات من العقاب ويمنح الشرطة الضوء الأخضر لممارسة عنصريتها تجاه الأجانب.
الشرطة الفرنسية ما هي إلا مرآة للدولة الفرنسية، فهي تعكس عنصرية سلطات البلاد في وجه الأجانب القادمين إليها من مناطق عدة في العالم بعد أن قامت فرنسا الاستعمارية بتفقير دولهم ونهب خيراتهم وثرواتهم دون وجه حق.