إفريقيا ليست مركز العالم فحسب من حيث موقعها الذي تحيطه البحار والمحيطات من كل جانب، فالقارة تحوي مواد خام لم يتم استكشافها واستغلالها لحد الآن، فالخام الإفريقي يعتبر عصب صناعات المستقبل، وبالتالي لا عجب أن تتجدد الهرولة نحو القارة الفقيرة باعتبارها طوق نجاة البلدان الغنية.
تصارعت الفيلة فدهست العشب
في مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر، اندفعت أوروبا بجنون نحو إفريقيا، فعقدت أول مؤتمر استعماري (برلين 1884)، لم يتمخض عنه فقط إرساء قواعد تقسيم القارة الإفريقية، بل تجاوز ذلك إلى فرض النفوذ والسيطرة الأوروبية على إفريقيا، إلى درجة أن أحد المؤرخين وصف هذا المؤتمر قائلًا: “حتى إنه حين استعادت القارة استقلالها مع بداية الخمسينيات كان الإرث الإفريقي هو التفتيت السياسي الذي أصبح من المستحيل تجاهل حقائقه كما أنه من المستحيل أيضًا الاستفادة من مثل هذا التفتت أو التقسيم بشكل مفيد”.
مؤتمر برلين
إبان الحرب الباردة تصارعت الأفيال فدهست تحت أقدامها العشب، إذ تجددت الهرولة نحو إفريقيا بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، أي أن كل قطب منها أراد ضم القارة إلى معسكره.
صحيح أن إفريقيا لم تكن على قمة أولويات طرفي الحرب الباردة، لكنها كانت مسرحًا لسياسات الاحتواء والحرب بالوكالة.
فرنسا لم تكتف بعد من نهب الثروات الإفريقية
يتجدد الصراع ومعه إرث التفتت الإفريقي، بعد صعود نجم قوى جديدة على المسرح العالمي، وأبرزها الصين والهند وروسيا، وما زالت الدول الإفريقية ضحية هذا الصراع المتجدد للاستيلاء على ثرواتها، وغالبًا ستتفاهم هذه القوى في النهاية على تقاسم الكعكة النفيسة، حتى لا يتبقى لسكان هذه القارة العذراء إلا الفقر والفساد والعنف المسلح الذي ما زال ينخر هذه البلدان، خاصة جنوب الصحراء، ويمنعها من الصعود في وجه البلدان المتكالبة عليها.
شبكة الهيمنة العسكرية
حرب باردة جديدة تلك التي تتخذ إفريقيا مسرحًا لها، نأخذ على سبيل المثال منطقة القرن الإفريقي (الصومال وإريتيريا وإثيوبيا وجيبوتي)، حيث تدير 16 دولة قواعد عسكرية لها، و”إسرائيل” كذلك لها نصيب من هذه القواعد الـ19، وتنشئ الإمارات قاعدة جديدة في إقليم أرض الصومال، إضافة إلى 4 قواعد محتملة تنشئها تركيا وروسيا والسعودية في تلك المنطقة المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، ويمكن لمن يسيطر عليها أن يتحكم في مضيق باب المندب، الذي يعد واحدًا من أهم الممرات المائية في العالم تجاريًا وعسكريًا.
منذ عقود تدير بعض الدول الكبرى قواعد عسكرية في منطقة القرن الإفريقي، كما تسعى دول أخرى لإقامة قواعد عسكرية جديدة، خاصة في جيبوتي، التي تستضيف أكثر من 9 قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها، بينها قاعدة سعودية محتملة، وفي إريتريا يوجد بها قاعدة عسكرية إسرائيلية، كما تمتلك فرنسا قاعدة عسكرية في جيبوتي منذ وقت طويل.
القواعد العسكرية الأمريكية في إفريقيا
أقامت الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة جديدة عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2011 لتكون نقطة انطلاق لقواتها في عمليات محاربة الإرهاب في اليمن وفي منطقة القرن الإفريقي، فيوجد في جيبوتي وحدها 2000 جندي أمريكي.
الصين تتصادم مع أمريكا في هذه المنطقة، ولها كذلك نصيب من التحرك العسكري، فعلى الرغم من أن علاقتها التجارية (الصين) مع القرن الإفريقي تمتد لعقود ماضية، فإنها تحركت عسكريًا لأول مرة في المنطقة عام 2008 عندما أطلقت عملية بحرية لمكافحة القرصنة في خليج عدن، زد على ذلك، يعتبر التنين الصيني هذه المنطقة، جزءًا محوريًا من مبادرة “الحزام والطريق”، كما ستكون قاعدتها المدارة في جيبوتي بوابة التغلغل العسكري الصيني في إفريقيا من خلال إحداث قواعد عسكرية في مناطق متفرقة من القارة.
فرنسا لم تلجم الإرهاب
وإلى منطقة الساحل، حيث ينشط تنظيم القاعدة ومركز ثقل داعش الجديد، تسارع فرنسا الخطى لإحياء مجدها الاستعماري في إفريقيا، تحت مسمى “الحرب ضد الإرهاب” أطلقت تحالف الساحل من أجل كسر شوكة الإرهاب في مالي وطرد الانفصاليين، لكن استتابة السلام في الساحل والصحراء، لا يغدو أكثر من طموح ظاهري لهذه الدولة الإمبريالية التي أرست مكانتها القوية في العالم بسواعد الأفارقة وثروات أراضيهم المنهوبة.
وإلى حدود الآن، أثبتت فرنسا إخفاقاتها المتتالية في لجم التنظيمات الإرهابية بعد أن نقل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مركز عملياته الإرهابية إلى منطقة الساحل منضمًا إلى جماعات إرهابية أخرى أصبحت تسيطر على مساحات شاسعة من المنطقة، عدا إنجاز يتيم هللت به فرنسا عبر قنواتها الإعلامية بعد تمكنها من القضاء على عبد المالك دروكدال، قائد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في يونيو/حزيران من العام الماضي.
روسيا تحيي مجدها السوفيتي
روسيا هي الأخرى تسعى لإبراز دورها المتنامي كأحد أكبر اللاعبين في إفريقيا، بعدما كان للاتحاد السوفيتي نفوذ كبير في القارة، لكن وطأته السياسية والاقتصادية انحسرت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لكن مؤخرًا ما فتئ هذا النفوذ يسترجع مجده الماضي، وأصبحت روسيا شريكًا دفاعيًا مهمًا في إفريقيا، إذ تعد أكبر مورد للسلاح في القارة وكان النصيب الأكبر لصالح الجزائر.
العلاقات الدفاعية لروسيا مع إفريقيا تنامت، إذ وقعت منذ عام 2014 اتفاقيات تعاون عسكري مع نحو 19 دولة إفريقية، لكن هذه العلاقات تتجاوز مبيعات السلاح لتمتد إلى تدخل قواتها، كما هو الشأن في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث تدعم روسيا الحكومة المعترف بها لدى الأمم المتحدة ضد المجموعات المتمردة، فالقوات الروسية تشارك في تأمين الحكومة كما تساعد في تأمين الموارد الاقتصادية المهمة، وسجل لها دور بارز في السودان وليبيا وغيرها من الدول الإفريقية.
حماية الأهالي أم حماية المصالح؟
البلدان الكبرى لا تتدخل عسكريًا في إفريقيا من أجل حماية المدنيين الأبرياء من إرهاب الجماعات المسلحة واستتابة الأمن في المناطق التي تشهد صراعات دامية، لكن هذه القوى العظمى تسعى لتأمين المواد الخام، لهذا شرعت في إنشاء قواعد عسكرية بإفريقيا حماية لمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية.
كنوز هائلة تجعل إفريقا مستقبل الطاقة العالمية وترسم خريطة أطماع البلدان المتكالبة عليها، لأنها تملك من الثروات ما يكفي احتياجات العالم من النفط والغاز والألماس والذهب والكوبالت والنحاس والحديد والبلاتين واليورانيوم، لأجل كل هذا تسللت البلدان الغنية للتوغل في مختلف اتجاهات القارة الفقيرة من أجل الاستيلاء على كنوزها الظاهرة والمدفونة في باطن أراضيها.