“زونكيو”، و”سابيينزا”، و”ليبانتو الأولى” مسميات عدة سميت بها المعركة البحرية الشهيرة التي وقعت في أغسطس/آب 1499 ونجح فيها الجيش العثماني في تلقين نظيره البندقي (الإيطالي) هزيمة نكراء كان لها صداها في أجواء أوروبا وكانت إيذانًا بميلاد أسطورة القوة الدفاعية البحرية العثمانية.
تستمد هذه المعركة التي أعادت رسم خريطة القوى العسكرية في أوروبا والشرق الأوسط أهميتها كونها أول معركة استخدم فيها المسلمون المدافع في السفن، وكانت اللبنة الأولى في بناء الأسطول البحري لجيش العثمانيين على أسس عصرية متطورة.
في هذه المواجهة التي استمرت أربعة أيام منفصلة من الشهر ذاته (أغسطس/آب 1499) نجح الأسطول العثماني بقيادة الربان الفذ كمال ريس في تغيير معايير القوى في الأسطول البحري للجيوش، علمًا بأن الأسطول البحري البندقي كان الأقدم والأكثر عددًا وعتادًا من نظيره العثماني.
وتعد معركة زونكيو جزءًا من الحرب العثمانيَّة – البندقية، التي خاضتها الأمبراطورية العثمانية ضد أمراء جمهورية البندقية بإيطاليا خلال الفترة من 1499م – 1503م، وكان لها الغلبة في معظم جولاتها، إذ كانت هذه الفترة هي العصر الذهبي للبحرية العثمانية التي حققت العديد من الفتوحات الأوروبية في إطار مشروعها نحو الحفاظ على مدينة القسطنطينية التي فتحتها في 1453م – 857هـ.
العثمانيون وبدايات الأسطول البحري
قبل الخوض في أسبار المعركة وتفاصيلها لا بد من إطلالة سريعة على الظروف والملابسات التي حركت الدولة العثمانية لبناء أسطولها البحري الذي كان له الكلمة الفصل في حسم “زونكيو”، فقبل تلك المعركة بقرابة 45 عامًا كانت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية آنذاك هي الهدف الإستراتيجي للعثمانيين، دينيًا وجغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، بجانب البعد العسكري كذلك.
وكان البحر المتوسط في هذا التوقيت تحت هيمنة البيزنطيين، فيما كانوا يمتلكون أسطولًا بحريًا قويًا ساعدهم على توسيع دائرة نفوذهم وممتلكاتم لتشمل أجزاءً كبيرةً من أقدم 3 قارات بالعالم (آسيا وإفريقيا وأوروبا) هذا في الوقت الذي لم يكن للدولة العثمانية أي منفذ مائي على الإطلاق (دولة حبيسة) وعليه لم تكن بحاجة لأسطول بحري.
ومع تعاظم هدف فتح القسطنطينية بدأ الإعداد مبكرًا لهذه الغاية العظيمة، حيث بات البحث عن منفذ بحري للعثمانيين هدفًا إستراتيجيًا، وقد نجح الأمير عثمان الأول (1258 – 1326م) في إيجاد منفذ على بحر مرمرة، وكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو بناء الأسطول البحري.
الفتوحات البحرية للعثمانيين أثارت غضب جمهورية البندقية التي كانت تسيطر بمفردها على هذه المنطقة الحيوية
وفي عام 1354 استولى الأمير سليمان بن أورخان على أسطول بيزنطي صغير كان راسيًا على الضفة الغربية لمضيق “الدردنيل” وذلك بعد أن عبر المضيق ليلًا مع أربعين رجلًا ليعودوا بالأسطول الذي استخدم لأول مرة في فتح ميناء قلعة ترنب وجاليبولي.
واستمر العثمانيون في الإعداد لفتح القسطنطينية أكثر من مئة عام حتى نجحوا في تحقيق الحلم في 1453م – 857هـ وكان للأسطول البحري القوي دورًا مؤثرًا في هذا الفتح العظيم، بعدما بات أحد أبرز مكونات الجيش العثماني وساعده الأبرز في تعزيز الفتوحات.
الفتوحات البحرية المتتالية للعثمانيين في البحر المتوسط وأوروبا أثارت غضب جمهورية البندقية التي كانت تسيطر بمفردها على هذه المنطقة الحيوية بفضل أسطولها البحري القوي، الأمر الذي كان بمثابة إيذان بالاصطدام بين القوتين، لا سيما بعد التحرشات بينهما بين الحين والآخر في ظل صراع النفوذ على المناطق البحرية.
كمال ريس.. إمبراطور البحرية العثمانية
لا يمكن الحديث عن الأسطول البحري العثماني بمعزل عن الربان التاريخي لهذا الأسطول وهو القائد العظيم كمال ريس المولود في جاليبولي عام 1451 لأب تركي من وسط الأناضول، فيما كان يطلق عليه في أوروبا كمالي وكماليكيو.
عشق ريس البحر منذ نعومة أظفاره، فعمل بمجال الملاحة البحرية في سن مبكرة حتى ترقى في مناصبه ليصبح ربانًا لإحدى سفن الأسطول العثماني الذي كان مكلفًا وقتها بحماية إحدى ولايات الإمبراطورية على بحر مرمرة، وهنا كانت الخطوة الأولى نحو شهرة الربان ريس.
وبعد المهارة الفائقة التي ظهر عليها القائد الشاب عينه السلطان أبو النصر بايزيد خان الثاني بن محمد بن مراد العثماني، الشهير بـ”بايزيد الثاني” (1447-1512م) أميرًا للبحرية العثمانية عام 1495م، وفي أول تحرك عملي له أمر ببناء قادس (سفينة كبيرة الحجم تسع لحمل مئات الجنود) يحمل جنود السلطان، وكانت تلك أول طفرة حقيقية في الأسطول البحري العثماني.
وبعد عام واحد فقط على توليه إمارة البحرية العثمانية استطاع ريس بناء 5 قوادس كبيرة ومثلهم أصغر نسبيًا بجانب سفينة شراعية، وفي يناير/كانون الثاني 1497 بدأ أول اختبار حقيقي لقوة الأسطول الجديد، حيث نجح في الاستيلاء على عدة سفن تابعة للبندقية كانت راسية في خليج تارانتو، وقام بنقلها وما عليها إلى إسطنبول.
وعلى مدار عامين كاملين نجح الربان الأعظم في أسر العديد من السفن البندقية والاستيلاء على شحناتها بالكامل، الأمر الذي أثار حفيظة نظام الحكم في إيطاليا، لا سيما بعدما بات نفوذهم في المتوسط مهددًا بفضل نجاحات البحرية العثمانية، وهنا قررت البندقية الدخول في صدام مباشر مع العثمانيين.
القلق الذي كان يخيم على البندقية من قوة البحرية العثمانية دفعها لطلب تعزيز قوتها من أمراء أوروبا، حيث أضفت على مواجهتها صبغة دينية كونها حربًا صليبية تتطلب تدخل ودعم بابا روما، في محاولة لمزيد من الزخم الغربي ضد العثمانيين، وهو ما تحقق بنسبة كبيرة من حيث المساعدات المقدمة لها من أوروبا.
معركة زونيكو
مع إعلان البندقية الحرب الصليبية ضد الدولة العثمانية أمر السلطان، بايزيد الثاني، بإعداد العدة لتلك الملحمة الفاصلة في نزاع النفوذ والهيبة في مياه المتوسط، وفي يناير 1499 قاد ريس أسطولًا قوامه 10 قوادس كبيرة و4 سفن أخرى متوسطة الحجم.
وفي يوليو من نفس العام كان الصدر الأعظم داوود باشا قد جهز أسطولًا آخر لمساعدة ريس في المعركة ضد البندقية، وبعد انضمام الأسطولين بات القوام الإجمالي للقوات البحرية العثمانية 67 قابسًا و220 سفينة أخرى، محملين بالعتاد العسكري والتسليحي والمؤن اللازمة للإبحار والقتال.
ومع شروق شمس الـ12 من أغسطس/آب 1499 كانت المواجهة الأولى بين الأسطولين، العثماني بقيادة كمال ريس والبندقي بقيادة أنطونيو جريمانى، عند رأس مدينة زونكيو في البحر الأيوني (أحد أفرع البحر المتوسط، يحده شمالًا البحر الأدرياتيكي وغربًا إيطاليا وجزيرة صقلية، ومن الشمال الشرقي ألبانيا) وكانت الغلبة هنا من حيث عدد السفن لصالح العثمانيين، إذ لم يمتلك الجيش البندقي إلا 47 قادسًا و117 سفينة.
المعركة استمرت 4 أيام منفصلة، فبجانب الـ12 من أغسطس/آب شهدت الساحة مواجهات أخرى خلال أيام 20 و22 و25 من الشهر ذاته، كان النصر خلالها حليف الأسطول العثماني الذي لقن نظيره البندقي درسًا تاريخيًا في فنون مواجهات البحار.
وشهدت معركة ليبانتو الأولى أول استخدام رسمي للمدافع فوق السفن، وهو السلاح الذي ظل ريس يعده لسنوات طويلة من أجل هذا اليوم، خاصة أن الأسطول البندقي كان يهمين بشكل مطلق على مياه المتوسط، وعليه فإن هزيمته كانت تحتاج إلى تطور نوعي في مستوى السلاح يكون قادرًا على خلخلة تلك الهيمنة.
وفي خضم المعركة فوجئ الأسطول البندقي بتجهيز سفن العثمانيين بسلاح المدفعية الحارقة، الذي وضعه ريس فوق السفن التي جعل لها قمرات من جميع جوانبها ليباغت بطلقات النار المدوية الجنود الإيطاليين الذين تعرضوا لصدمة كبيرة بسبب هذا السلاح، ما دفع جزءًا كبيرًا منهم لتسليم نفسه فيما هرب آخرون.
وخلال المواجهات غرقت إحدى السفن التي كانت تقل أفرادًا كثر من الأسرة الحاكمة في البندقية، كما تم اعتقال القائد جريماني وإن تم الإفراج عنه بعد ذلك نظير فدية ضخمة، فيما تم أسر العشرات من السفن الحربية التابعة للأسطول البندقي.
لم يستسلم البندقيون للهزيمة النكراء التي تلقونها على أيدي العثمانيين، فحاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذة من خلال مساعي استعادة بعض الأراضي المفقودة في البحر الأدرياتيكي، غير أن أسطول ريس كان لهم بالمرصاد، حيث تعقبهم في أكثر من مستعمرة وألحق بهم الهزيمة تلو الأخرى.
وظل الربان العثماني يعزف ألحان النصر على صفحات ماء أوروبا والمتوسط لعدة سنوات متتالية، أذاق فيها الأوروبيين ويلات الهزائم المتكررة، حتى وافته المنية في 1511 بعد أن تحطمت سفينته مع 26 آخرين بسبب عاصفة شديدة هبت عليهم في البحر المتوسط ليسقط معها عشرات الضحايا كان من بينهم كمال ريس.
ورغم رحيله عن الحياة، فإن اسم القائد ريس ظل خالدًا في سجلات البحرية العثمانية، وتقديرًا لمكانته ودوره التاريخي في تدشين الأسطول البحري للدولة العثمانية أطلق اسمه على العديد من السفن الحربية في البحرية التركية التي لا تزال حتى يومنا هذا تحمل اسمه.
وهكذا يزخر التاريخ الإسلامي بالعديد من الصفحات المضيئة عن الانتصارات العظيمة التي حققها الجيش العثماني والأسطول البحري على إمارات أوروبا في الوقت الذي كانت تهيمن فيه على الخريطة العالمية لما لديها من إمكانات عسكرية هائلة.