تتجه العلاقات الجزائرية التركية شهر بعد شهر نحو مزيد من المتانة والقوة، بالنظر لتوسع مجالات التعاون بين البلدين التي لم تصبح اليوم محصورة في الجانب الاقتصادي رغم أهميته الكبيرة والتشاور الدبلوماسي، إنما يتجه البلدان نحو تعاون يشمل الجانب الثقافي، خاصة أن ماضيهما المشترك يفتح فروعًا متعددةً للتعاون في هذا الشأن.
ولم يعد اليوم التشاور المتواتر بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره رجب طيب أردوغان حدثًا استثنائيًا في كلا البلدين، إنما أصبح من التقاليد الدبلوماسية المعتادة التي تربط البلدين حتى إن وجدت بعض القضايا التي قد يختلفان فيها لكنها لا تفسد شراكة متميزة، إنما تنشئ آفاقًا جديدة للتشاور.
تعاون جديد
التعاون الجزائري التركي لم يعد اليوم مقتصرًا على تبادل الآراء بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك التي تفرضها التطورات الدولية والإقليمية، إنما يتجه نحو تعاون يتعدى حتى المجال الاقتصادي إلى ميدان الثقافة والاجتماع والتعليم العالي، وهو ما يعكس علاقات صارت تتعزز أكثر فأكثر، وجعلت الرئاسة الجزائرية تصف المباحثات التي تجمع رئيسي البلدين بـ”الأخوية”، وهي عبارة لا تطلقها الدبلوماسية الجزائرية عادة إلا على الأشقاء العرب، غير أن التعاون المتصاعد مع تركيا جعلها تحظى هي الأخرى بهذا المصطلح الدبلوماسي.
في هذا الخصوص، قال السفير الجزائري بتركيا مراد عجابي، إن بلاده وتركيا لديهما فرصة تاريخية لترقية العلاقات كنموذج يحتذى به “في ظل الإرادة السياسية لقيادتي بلدين يحتلان مكانة مهمة في العالم الإسلامي”، وقال عجابي: “آن الأوان لأن نعيد كتابة تاريخنا المشترك بأنفسنا معتمدين على مؤرخينا ومراجعنا وخاصة الأرشيف العثماني خلال الفترة بين 1516-1830”.
تصريحات السفير، جاءت خلال ندوة افتراضية لمركز “أورسام” لدراسات الشرق الأوسط بتركيا بشأن آفاق العلاقات الجزائرية التركية، وأضاف “التاريخ المشترك للبلدين، كانت كتابته حكرًا على المؤرخين الغربيين”، ولفت إلى أن هناك علاقات متميزة تجمع الجزائر وأنقرة على مختلف الأصعدة، مضيفًا إلى أن البلدين يعملان على تثمين إرثهما الثقافي المشترك، مثل ترميم بعض المعالم التاريخية التي تعود إلى الحقبة العثمانية.
وعلى غير المجالات المعتادة، ينتظر أن تعرف سنة 2021 آفاقًا جديدة للتعاون التركي الجزائري تمتد للشق الثقافي، فقد كشفت منذ أسبوع السفيرة التركية في الجزائر ماهينور أوزدمير كوكتاش عن مباحثات جارية لتصوير أجزاء من مسلسل “بربروس” في الجزائر، بالنظر إلى أنها كانت محطة مهمة في حياة البحار العثماني الشهير.
وترتبط الفترة العثمانية في مخيلة الجزائريين بالأخوين عروج وخير الدين بربروس، حيث قاد الأخير حملة مواجهة الغزو الإسباني للجزائر عامي 1516 و1517، وتمكن من السيطرة على المنطقة، ليعينه بعدها السلطان العثماني حاكمًا عليها.
قالت كوكتاش، في مقابلة مع قناة الشروق نيوز الخاصة إن لأنقرة والجزائر موروثًا ثقافيًا تاريخيًا قديمًا وثريًا بدأ مع قدوم الإخوة بربروس عام 1516، ويجب تثمينه من خلال أعمال سينمائية مشتركة، وأوضحت أن تركيا تعمل حاليًّا على أن تكون الجزائر ضمن سيناريو مسلسل بربروس الذي يكتب حاليًّا، وأن تُصور أحداث منه في الجزائر، لكي تكون جزءًا من هذا العمل التاريخي الكبير.
وسيؤدي دور خير الدين بربروس في المسلسل الممثل التركي الشهير إنجين إلتان المعروف في الجزائر والوطن العربي بشكل كبير بعد تأديته دور البطولة في مسلسل قيامة أرطغرل.
من شأن التعاون الجزائري التركي في المجال السمعي البصري أن يساهم في إعادة بريق السينما الجزائرية الذي كانت تعيشه في الثمانينيات
وأشارت السفيرة التركية إلى أن فضاء التعاون السينمائي مع الجزائر قد يتوسع إلى سيرة الأمير عبد القادر الذي عاش ببورصة، إضافة إلى قصص أخرى عن التاريخ المشترك بين البلدين.
ومن شأن التعاون الجزائري التركي في المجال السمعي البصري أن يساهم في إعادة بريق السينما الجزائرية الذي كانت تعيشه في ثمانينيات وسبعينيات القرن الماضي، وسمح لها بأن تبقى حتى اليوم البلد العربي الوحيد الحاصل على السعفة الذهبية عام 1975 عن فيلم “وقائع سنين الجمر” للمخرج لخضر حمينة.
السوق الإفريقية
تتفق الجزائر وتركيا على أن إفريقيا هي السوق الواعدة في الاقتصاد العالمي خلال السنوات المقبلة، لذلك كثف البلدان في الأعوام الماضية من حجم تبادلاتهما مع دول القارة السمراء، فالجزائر لم تتردد مطلقًا في الانضمام إلى منطقة التبادل الحر الإفريقية التي دخل اتفاقها حيز التنفيذ مطلع العام الحاليّ.
وقال الوزير الأول عبد العزيز جراد إن منطقة التبادل الحر الإفريقية خيار إستراتيجي للجزائر، وباشر وزير الخارجية صبري بوقادوم سلسلة من الزيارات إلى الدول الإفريقية، بدأها قبل أسابيع بنيجيريا أين تم الاتفاق مع أبوجا على بعث خط أنبوب الغاز لاغوس – الجزائر العابر نحو أوروبا، واجتمع لأول مرة مع مجموعة إكواس، ثم سافر إلى النيجر، كما بدأ هذا الاثنين جولة جديدة بدأها بالحليف الإفريقي التاريخي جنوب إفريقيا ثم مملكة ليسوتو، والأربعاء حل بأنعولا، والأمر لا يختلف أيضًا بالنسبة لأنقرة التي أطلقت في 2016 منتدى الأعمال التركي الإفريقي.
وشكل ملف السوق الإفريقية المحادثات التي جمعت السفيرة التركية بالجزائر بوزير التجارة الجزائري كمال رزيق والوزير المنتدب المكلف بالتجارة الخارجية عيسى بكاي شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي قبل أيام فقط من دخول منطقة التبادل الحر الإفريقية حيز التنفيذ.
وخلال هذا اللقاء، عبر الوزير رزيق عن ارتياحه للشراكات الاقتصادية التجارية الثنائية التي تم تحقيقها، مذكرًا بالتسهيلات والمناخ الخصب للاستثمار في الجزائر مما يفتح المجال واسعًا أمام زيادة حجم المبادلات التجارية بين البلدين.
وقال رزيق إن كل الظروف مهيأة لرفع حجم المبادلات التجارية بين الجانبين خاصة بعد دخول منطقة التبادل الحر الإفريقية حيز التنفيذ، مؤكدًا ضرورة تفعيل مجلس الأعمال الجزائري التركي بالتنسيق مع الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة والاعتماد على وسائط التواصل الحديثة في التواصل حتى تجاوز الأزمة الصحية العالمية.
واقترح عيسى بكاي إنشاء تكتل للشركات المشتركة الجزائرية التركية من حيث ولوجهم للعديد من الأسواق العالمية ومرافقة باقي الشركات الجزائرية المشتغلة في الميدان نفسه للاستفادة من خبرتهم في مجال التصدير.
تركيا تريد الاستفادة من ميناء الحمدانية بتيبازة غرب العاصمة الجزائر الذي يربط ست دول إفريقية
وأبدت السفيرة ماهينور أوزديمير كوكتاش استعداد بلادها لمواصلة الجهود وتوسيع التعاون في شتى المجالات، مشيرة إلى ضرورة تنظيم لقاءات بين رجال أعمال البلدين لبحث فرص شراكة جديدة بعد جائحة كورونا، وحسب كوكتاش، فإن أهم ما يميز إمكانات التعاون بين البلدين أن الجزائر هي بوابة ولوج السوق الإفريقية وتركيا بوابة دخول السوق الآسيوية.
وأصبح ظاهرًا أن تركيا تريد الاستفادة من ميناء الحمدانية بتيبازة غرب العاصمة الجزائر الذي أعلنت الحكومة إعادة بعثه حيث يربط الطريق العابر للقارات الذي يربط ست دول إفريقية هي الجزائر والنيجر ومالي وتونس ونيجيريا وتشاد.
وسيسمح ميناء الحمدانية الذي سيستوعب 6.5 مليون حاوية و25.7 مليون طن من البضائع سنويًا، بتسهيل دخول المنتجات التركية إلى القارة الإفريقية دون رسوم جمركية في حال ما سوقت ضمن شراكة مع الجزائر.
شراكة إستراتيجية
وحسب ما يفهم، فإن البلدين يتجهان في الأشهر القادمة لرفع الشراكة بينهما إلى المستوى الإستراتيجي، بالنظر إلى أن التعاون بينهما يسير بمبدأ رابح رابح، إذ إن الميزان التجاري بين البلدين متقارب، ويصل التبادل التجاري بينهما إلى 4.2 مليار دولار، مع وجود استثمار تركي في الجزائر بقيمة 3.5 مليار دولار في الوقت الحاليّ.
وتسعى الجزائر وتركيا إلى رفع التبادلات التجارية بينهما إلى 5 مليارات دولار، وكهدف أسمى إلى 10 مليارات دولار، بالنظر إلى أن الواقع الحاليّ رغم أهميته لا يعبر بتاتًا عن إمكانات البلدين وفرص الاستثمار المتاحة وحجم العلاقات التاريخية التي تجمعهما.
وتقول السفيرة التركية بالجزائر إن دخول منطقة التبادل الحر الإفريقية حيز العمل يحتم على أنقرة أن تصبح شراكتها مع الجزائر إستراتيجية، وأعلنت كوكتاش أن البلدين يعملان هذه السنة على إعادة بعث اجتماع اللجنة الجزائرية التركية المختلطة التي ستعمل على تحضير اجتماع الحوار الإستراتيجي الثنائي الذي سيرأسه الرئيسان تبون وأردوغان.
ومن شأن هذه الخطوات الدبلوماسية التي أجلتها جائحة كورونا، التمهيد لتوقيع اتفاق منطقة التبادل الحر الجزائرية التركية التي دعا إلى إنشائها أردوغان قبل نحو عام من الآن خلال زيارته للجزائر.
وقال أردوغان وقتها: “من الضروري البدء دون تأخير في مفاوضات لإنشاء منطقة تبادل حر بين الجزائر وتركيا”، مبينًا “تم التحادث بين الوزراء بشأن هذا الموضوع وسيتم اتخاذ إجراءات في هذا الشأن بشكل سريع، لأنه من شأن منطقة التبادل الحر أن تزيل العقبات بين المستثمرين من البلدين لإنجاز مشاريع مشتركة سواء في الجزائر أم تركيا”.
وتبدو كل الشروط مهيأة لتحقيق ذلك، فالجزائر تحتضن اليوم نشاط 1245 شركةً تركيةً مستثمرةً بها توظف 25 ألف جزائري، إضافة إلى أن الجزائر تموّل تركيا بالغاز وتحتضن مصنع لسوناطراك الجزائرية بأضنة في مجال البيتروكيماويات.
وعن آفاق هذه العلاقات شدد عجابي على أنه “أمام البلدين فرصة تاريخية لترقية العلاقات كنموذج يحتذى به في ظل الإرادة السياسية لقيادتي بلدين يحتلان مكانة مهمة في العالم الإسلامي”.
يضاف إلى كل ما سبق، التقارب السياسي الذي تميز به البلدين، وهو العامل الذي لعب دورًا جوهريًا في تشكيل العلاقات البينية، فهما يدعمان القضية الفلسطينية، ولهما نفس الموقف تجاه الأزمة الليبية، إذ إن تبون ونظيره التركي اتفقا على بذل الجهود من أجل فرض وقف إطلاق النار، كمقدمة لا بد منها لتسهيل الحل السياسي في ليبيا، وبالنظر إلى تلك الملفات، فإن العلاقات التركية الجزائرية تسير في اتجاهات متوازنة تلائم تطلعات ومصالح كلا الطرفين.