فرض اسم المعارض الروسي أليكسي نافالني نفسه على ساحة الأضواء مرة أخرى بعد أن اعتقله الأمن الروسي، أمس الأحد، لدى وصوله إلى موسكو، عائدًا من ألمانيا، وذلك بعد تحويل مسار طائرته إلى نقطة الحدود في مطار شيرميتيوفا بعدما كان مقررًا أن تهبط في مطار فنوكوفو بالعاصمة الروسية.
سلطات السجون الروسية بررت اعتقال نافالني (44 عامًا) بانتهاكه شروط حكم بالسجن مع وقف التنفيذ صدر بحقه عام 2014، لافتة إلى أنه سيظل قيد الاعتقال لحين صدور قرار قضائي من المحكمة، هذا فيما اقتحمت قوات مكافحة الشغب قاعة مطار فنكوفو، وفرقت أنصاره وأخرجت الصحفيين بحسب مراسل “الجزيرة“.
كما اعتقلت قوات الأمن العديد من مؤيدي المعارض البارز بجانب محاميته الخاصة ليوبوف سوبول وشقيقه، وذلك قبل ساعة تقريبًا من وصول طائرته القادمة من برلين، هذا في الوقت الذي استبعد فيه نافالني قبيل صعوده الطائرة التي أقلته إلى موسكو أن تقدم سلطات بلاد على اعتقاله، مؤكدًا أنه بريء وليس هناك ما يدينه.
ويتلقى المعارض الروسي العلاج في إحدى مستشفيات ألمانيا منذ أواخر أغسطس/آب الماضي بعد إصابته بإعياء شديد خلال رحلة عودته من سيبريا إلى موسكو، فيما اتهم السلطات الروسية بمحاولة تسميمه، بعدما ثبت أن المادة التي تسمم بها (نوفيتشوك) تم تطويرها خلال الحقبة السوفياتية، وفق ما أكدته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بجانب 3 مختبرات أوروبية أخرى.
وفي أعقاب خروجه من المستشفى في أوائل سبتمبر/أيلول الماضي شدد على أنه كان ضحية محاولة اغتيال من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي بأمر من فلاديمير بوتين، فيما رفضت موسكو تلك الاتهامات، وعلى العكس أجرت تحقيقًا ضده بتهمة صرف 356 مليون روبل (3.9 مليون يورو) من الهبات لأغراض شخصية، وذلك في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مؤكدة أنها ملزمة بتوقيفه لدى عودته.
ردود فعل منددة من واشنطن والعواصم الأوروبية بشأن اعتقال المعارض الروسي، مطالبة بسرعة الإفراج عنه، الأمر الذي ينذر باحتمالية المزيد من توتير الأجواء بين موسكو والغرب بعد فترة هدوء نسبي خلال الأشهر القليلة الماضية، تزامن ذلك مع تغيرات سياسية غربية من الممكن أن يكون لها صداها على مستقبل العلاقات بين الطرفين.
اعتبر البرلمان الأوروبي أن إقدام موسكو على هذه الخطوة إهانة لأوروبا والمجتمع الدولي
تنديد غربي
في أول رد فعل غربي على الخطوة الروسية، طالب جايك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الفائز في الانتخابات الأخيرة جو بايدن، موسكو بالإفراج عن المعارض المعتقل، مضيفًا في تغريدة له على فيسبوك: “يجب إطلاق سراح السيد نافالني على الفور، وتحميل المسؤولية للمذنبين في التطاول على حياته، اعتداءات الكرملين على السيد نافالني ليست فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل وتعتبر بمثابة تحد للشعب الروسي الذي يريد أن يكون صوته مسموعًا”.
أوروبيًا.. رفض رئيس المجلس الأوروبي اعتقال نافالني، مطالبًا السلطات الروسية بإطلاق سراحه فورًا، فيما اعتبر البرلمان الأوروبي أن إقدام موسكو على هذه الخطوة إهانة لأوروبا والمجتمع الدولي، كما أعربت فرنسا عن قلقها على مصير المعارض الروسي داعية للإفراج الفوري عنه.
وفي المقابل استنكرت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، ردود فعل السياسيين الغربيين حيال تلك الواقعة، مطالبة إياهم بعدم التعليق على التشريعات والقوانين الخاصة ببلادها، موجهة رسالة إليهم عبر صفحتها على فيسبوك قالت فيها: “أريد القول للسيد ساليفان وكذلك للعديد من الشخصيات الأجنبية الأخرى التي تنشر تعليقات معدة بشكل سابق: احترموا القانون الدولي ولا تتطاولوا على التشريعات الوطنية للدول ذات السيادة، وركزوا على المشاكل في بلادكم”.
توتير الأجواء بين موسكو والغرب
تسبب هذا الملف في توتير الأجواء بين موسكو والعواصم الغربية خلال الآونة الأخيرة، حيث اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع لهم في لوكسمبروج 21 من ديسمبر/كانون الأول الماضي على فرض عقوبات ضد روسيا، بسبب تسميم نافالني وفق ما توصلت إليه تحقيقاتهم.
فرنسا وألمانيا قادا حملة الضغط لتوقيع عقوبات على موسكو، فيما أشارت مصادر إعلامية إلى أن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على مسؤولين روس بارزين مقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، وهو ما أثار غضب الجانب الروسي بصورة رصدتها العديد من وكالات الأنباء العالمية.
وردًا على هذا الموقف استدعت السلطات الروسية سفيري فرنسا والسويد ونائب السفير الألماني لدى موسكو، وأعلنت فرض عقوبات على شخصيات أوروبية، ردًا على تلك المفروضة عليها من باب المعاملة بالمثل، هذا فيما كشف موقع “روسيا اليوم” عن اعتزام وزارة الخارجية الروسية إصدار قائمة سوداء بشخصيات أوروبية متورطة في الدعوة وفي فرض العقوبات على روسيا.
تزامنت هذه الخطوة مع اقتراب تنصيب الرئيس الأمريكي الفائز جو بايدن والمقرر في الـ20 من الشهر الحاليّ، بجانب التغييرات المحورية التي شهدتها الخريطة السياسية الأوروبية، سيضع هذا التحرك تحت مجهر الاهتمام الإعلامي العالمي، وهو ما يمكن أن يؤثر على مستقبل العلاقات الروسية الغربية خلال ولاية بايدن.
يتبنى الرئيس الأمريكي الجديد وحزبه الديمقراطي توجهًا مناوئًا إلى حد ما تجاه موسكو، لا سيما بعد موقفها من الانتخابات الرئاسية في 2016، إذ بحث بايدن وفريقه قبل أيام (20 من ديسمبر/كانون الأول الماضي) خيارات معاقبة روسيا – بمجرد توليه منصبه – بسبب تورطها في أعمال القرصنة غير المسبوقة للوكالات والكيانات الحكومية الأمريكية، وفق وكالة “رويترز“.
العودة ومأزق بوتين
تمثل قضية نافالني صداعًا في رأس بوتين، حيث اكتسب هذا السياسي الشاب الذي يعمل محاميًا شهرته من خلال مقاطع الفيديو المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي التي فضح من خلالها جرائم الفساد في حكومة بوتين، الأمر الذي وسع من قاعدته الشعبية.
وفي 2011 نجح نافالني في فرض اسمه على دائرة الأضواء حين دعا لمظاهرات من عشرات الآلاف احتجاجًا على التجاوزات التي شابت الانتخابات البرلمانية في البلاد التي وصفها بـ”الفاضحة” وبعد عامين فقط ترشح للانتخابات البلدية في موسكو لكنه خسر أمام حليف بوتن، سيرغي سوبيانين.
حكم على المحامي الروسي بالسجن مع إيقاف التنفيذ عام 2014 فيما أدين شقيقه في قضية عرفت إعلاميًا بـ”احتاجز الرهائن” وهي الإدانة التي قيل وقتها إنها ضغوطًا سلطوية عليه من خلال شقيقه، ومنذ العام 2017 شن المعارض الروسي هجومًا حادًا على كبار رجالات الدولة في البلاد، متهمًا إياهم بالفساد وإجهاض الديمقراطية وتفكيك مرتكزات الدولة، البداية كانت باتهام رئيس الوزراء، وقتئذ، ديميتري ميدفيدف، ما أسفر عنه احتجاجات شعبية واسعة قوبلت بالقمع وقتها.
ربما يحاول بوتين مسك العصا من المنتصف باستمرار اعتقال المعارض الشهير لحين صدور حكم قضائي بتبرئته أو إيقاف تنفيذ الحكم، وبذلك يتم الإفراج عنه استجابة لضغوط الخارج بعد محاكمته أمام القضاء الروسي استجابة لضغوط الداخل
واصلت السلطات الروسية استهدافها للمعارض الذي بات محط أنظار الجميع بعدما زادت شعبيته جراء مواقفه المناوئة للفساد، وفي سبتمبر 2020، أصدرت المحكمة العليا قرارًا يقضي بحل حزب “روسيا المستقبل” الذي أسسه نافالني، وكان يحلم من خلاله بخوض غمار العمل السياسي العام عبر منصة شرعية، بدعوى تشابه اسم الحزب مع حزب آخر مسجل لدى وزارة العدل.
مثلت عودة المعارض الروسي معضلة كبيرة أمام الكرملين الذي بات مطالبًا باتخاذ إجراء فوري حياله، وهنا وجد بوتين نفسه في مأزق حقيقي، ففي حال تركه حرًا فإن ذلك ربما يعكس صورة الرئيس الضعيف الذي رضخ أمام إملاءات الغرب، وفي حال استمرار اعتقاله وتقديمه للمحاكمة مرة أخرى فإن ذلك سيحول قضية نافالني لقضية رأي عام عالمي ويضع مستقبل علاقات موسكو مع قوى الغرب على المحك.
تحد آخر تطرحه تلك العودة المفاجئة يتعلق بمحاولة توظيف هذا الملف لتحسين صورة بوتين داخليًا واستعادة شعبيته المتراجعة في السنوات الأخيرة، فالرئيس المقبل حزبه (روسيا الموحدة) على انتخابات تشريعية مقررة هذا العام يسعى للفوز بأغلبية المقاعد بما يعزز نفوذه خلال المرحلة المقبلة، وربما يجد في قضية نافالني فرصة جيدة لتعزيز قاعدته الجماهيرية، من خلال العزف على أوتار سيادة الدولة واستقلالية القرار وعدم الرضوخ لإملاءات الخارج.
ربما يحاول بوتين مسك العصا من المنتصف باستمرار اعتقال المعارض الشهير لحين صدور حكم قضائي بتبرئته أو إيقاف تنفيذ الحكم، وبذلك يتم الإفراج عنه استجابة لضغوط الخارج بعد محاكمته أمام القضاء الروسي استجابة لضغوط الداخل، ويحافظ الرئيس على شخصيته القوية التي يحاول دائمًا تصديرها بين الحين والآخر كأحد أدوات القوة الناعمة التي يعتمد عليها.
على كل حال ومهما كان مصير المعارض الروسي إلا أن عودته سيكون لها – بلا شك – تداعياتها على الداخل الروسي، لكن التداعيات الأكبر من المتوقع أن تكون على مستقبل العلاقات بين موسكو من جانب وأمريكا وأوروبا من جانب آخر.