ما زالت تركيا تتحرك بخطى ثابتة لقطف ثمار مرحلة ما بعد معركة ناغورني قره باغ التي انتهت في الـ11 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، فبعد نجاحها في تثبيت وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا، عبر اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته إلى جانب روسيا واحتفاظها بقوة عسكرية في جنوب القوقاز وحصولها على ممر بري يربطها بآسيا الوسطى دون المرور بالأراضي الإيرانية، تنظر اليوم إلى أن إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في منطقة آسيا الوسطى، يجب أن يأتي استكمالًا للاستحقاقات الجديدة التي أفرزتها معركة ناغورني قره باغ، بالإطار الذي يعيد إنتاج تعريف جديد للبيئة الإقليمية يقوم على مسار جيوسياسي جديد.
وفي هذا الإطار، جاء الاجتماع الثلاثي الذي عقد بين تركيا وأذربيجان وباكستان في مدينة إسلام أباد في 13 من يناير/كانون الثاني 2021، ليعبر عن رغبة تركية في تحقيق مزيد من التفاعل بمنطقة آسيا الوسطى، التي كانت حتى فترة قريبة تشهد تعثر النشاط التركي، بسبب تعقيدات جيوسياسية وأمنية شهدتها المنطقة.
فإلى جانب المصدة الإستراتيجية التي مثلتها إيران أمام اندفاعية الدور التركي، كانت التحديات الأمنية المتمثلة بصعود دور تنظيم داعش وحركة طالبان، أحد أسباب غياب هذا الدور، إلا أنه نتيجة لانشغال إيران بمعالجة ملفاتها في العراق وسوريا، واتفاق السلام بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية وتخفيض عدد القوات الأمريكية في أفغانستان، إلى جانب الوضع الجديد في جنوب القوقاز، وجدت تركيا في ذلك فرصة مناسبة للدخول بقوة، وكانت إحدى نتائج هذا الاجتماع الثلاثي، توقيع “إعلان إسلام أباد”.
مسارات إعلان إسلام أباد الثلاثي
سعت تركيا إلى بلورة هذا الإعلان عبر العديد من التحركات الدبلوماسية، رغبة منها في تعميق التعاون الذي نشأ نتيجة الاجتماع الثلاثي الأول الذي عقد في باكو في 30 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، في جميع المجالات ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك السياسية والإستراتيجية والتجارية والاقتصادية والسلام والعلوم والتكنولوجيا والثقافة، إلى جانب مواجهة التهديدات الناشئة، بما في ذلك الهجمات الإرهابية والإلكترونية وحملات التضليل والنزعات المعادية للإسلام التي تؤثر على التعايش السلمي للأقليات المسلمة في العديد من البلدان.
حيث جاء إعلان إسلام أباد الأخير، ليضيف جملة من المسارات التي تهم الدول الثلاثة الموقعة عليه، وكان من أبرزها:
– فهم كامل للتأثيرات الأوسع لتفشي COVID-19 والآثار الضارة لتغير المناخ.
– التضامن مع حكومة وشعب أذربيجان في جهودهما لاستعادة وتحسين المناطق المحررة.
– تأكيد الالتزام بتطوير توافق إقليمي للسلام والتنمية.
– الموافقة على زيادة الجهود المشتركة لمكافحة الإسلاموفوبيا واضطهاد الأقليات المسلمة، لا سيما على المستويين الإقليمي والدولي.
– التأكيد على أن مجموعة “قلب آسيا – عملية إسطنبول”، التي انطلقت في 5 من ديسمبر/كانون الأول 2015، يمكن أن تشكل أساسًا في عملية السلام والاستقرار والازدهار الاقتصادي في أفغانستان والمنطقة، وأشادوا بجهود الحكومة الباكستانية لتوفير حل سياسي للمشاكل الإقليمية، وأعربوا عن دعمهم لعملية السلام التي تقودها الحكومة الأفغانية.
– التأكيد على حل مقبول بشكل متبادل لمشاكل بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط، على أساس القانون الدولي.
وفي مقابل كل ما تقدم، شدد الإعلان الذي وقعه وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو ووزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيراموف ووزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي، على العلاقات الأخوية والتاريخية والثقافية بين دولهم، والعلاقات القائمة على الاحترام والثقة المتبادلين، كما تم الإعلان عن الرغبة في زيادة تعميق التعاون في جميع المجالات ذات الاهتمام المشترك.
أبعاد إستراتيجية تدفع تركيا
وجدت تركيا نفسها مع مطلع الألفية الجديدة، في سياق تفاعل جيوسياسي كبير، تشهده الأقاليم الجغرافية المحيطة بها، فإلى جانب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كانت منطقة آسيا الوسطى الحلقة الثالثة في سياق هذا التفاعل، وذلك لما تتمتع به هذه المنطقة بمركزية مهمة نحو ثلاثة مسارات جغرافية هي (جنوب شرق آسيا والبلقان والقوقاز)، وهي مناطق تشهد فراغ قوة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم تستطع قوى دولية عديدة ملء هذا الفراغ، سواء روسيا بماضيها السوفيتي أم إيران عبر سياسة تصدير الثورة أم الصين بقوتها الاقتصادية، وهو ما أتاح لتركيا بذل جهود كبيرة لإعادة إحياء دورها في هذه المنطقة بالآونة الأخيرة، عبر إعادة إحياء روابطها التاريخية والعرقية والسياسية مع شعوب ودول المنطقة.
تركيا تدرك أن مرحلة ما بعد معركة ناغورني قره باغ، تتطلب منها جهدًا إستراتيجيًا لتنويع مسارات تحركها الإقليمي، ونقل مجالات التأثير نحو أقاليم أخرى لا تشهد تزاحمًا إستراتيجيًا كثيفًا كما تشهده منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال، وذلك بسبب فقدان القدرة التركية على توظيف الورقة الطائفية كما تفعل إيران أو توظيف ورقة الابتزاز السياسي كما تفعل الولايات المتحدة.
حيث تجد تركيا أن إعادة تفعيل دورها في منطقة آسيا الوسطى، عبر إعلان إسلام أباد، قد يشكل أرضيةً جديدةً لإعادة تشكيل التوزانات الإقليمية هناك، وعبر عدة مسارات:
– استثمار الوجود التركي في أذربيجان، حيث أفرزت الدروس المستخلصة من الصراع في إقليم ناغورني قره باغ، مدى الخشية الإيرانية من النجاحات الإستراتيجية التي حققتها تركيا، خصوصًا بعد أن حسم الصراع لصالح حليفتها أذربيجان، حيث احتفظت تركيا بقوات في أذربيجان، وتتمتع الآن بوصول مباشر إلى بحر قزوين عبر ممر ناختشيفان – أذربيجان، ويمكنها الآن أيضًا أن تُمارِس تأثيرًا مباشرًا على آسيا الوسطى، وهو واحد من أكثر طموحات الرئيس رجب طيب أردوغان، وتعمل أنقرة منذ فترة طويلة على استخدام ممر ناختشيفان لأغراض جيوسياسية، من خلال سرعة إعلان أنقرة عن خططها لبناء خط سكة حديد إلى ناختشيفان بعد اتفاق وقف إطلاق النار في الـ10 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
– كما أظهرت تركيا دعمًا واضحًا لأذربيجان في معارك إقليم ناغورني قره باغ، وساهمت مُسيرات بيرقدار التركية، في حسم المعركة عسكريًا وتحويل هذا النصر إلى مدخل لاستفادة اقتصادية تركية واسعة، حيث تراهن أنقرة على أن الدعم الذي قدمته لباكو، قد يرسل إشارات إيجابية لدول إسلامية أخرى في القوقاز وآسيا الوسطى، تدفعها إلى الرهان على التحالف مع تركيا والاستفادة من النجاحات التي حققتها الصناعات الدفاعية التركية.
– توظيف التقارب مع باكستان، بثقلها السياسي وقوتها النووية، من أجل فرض واقع جديد يخدم الدور التركي في آسيا الوسطى، وتحديدًا عندما يتعلق الأمر بثلاثة ملفات مهمة هي: التأثير على الدور الإيراني في الشرق الأوسط وتطبيع الأوضاع في أفغانستان وتحقيق التوازن في منطقة الخليج العربي التي شهدت الآونة الأخيرة فتورًا كبيرًا في العلاقة بين باكستان وبعض دول الخليج، وتحاول تركيا توظيف هذه الورقة بما يخدم دورها الإقليمي.
– إلى جانب ما تقدم، تتخوف تركيا من الدور الاستخباري الإسرائيلي في آسيا الوسطى، لهذا تسعى إلى توظيف مزيد من أوراق التقارب مع دول آسيا الوسطى، من أجل تحجيم الدور الإسرائيلي في هذه المنطقة، بما يعطي تركيا موقعًا فريدًا فيما يتعلق بتبادل المعلومات الاستخباراتية المضادة مع باكستان مثلًا، التي تمتلك أقوى الأجهزة الاستخبارية في العالم.
– تنظر تركيا إلى أن امتلاك موقع تأثير مهم في آسيا الوسطى، قد يجعلها ورقة مهمة في مبادرة الحزام والطريق التي تسعى الصين إلى إكمالها، كما أنها ستشكل ورقة تأثير مهمة في رغبة روسيا بتأمين إمدادت الغاز لدول المنطقة، وهو ما يعطي تركيا أكثر من سبب للدخول بقوة إلى هذه المنطقة.
إن الإستجابة التركية للتحديات الإقليمية المتسارعة، بدأت توضح أن استحقاقات المرحلة المقبلة، وتحديدًا مع قرب قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن، تؤشر لرغبة تركيا في المساهمة بصنع المستقبل الذي ترغب أن تكون فيه، لا ذلك المستقبل الذي تنتظر أن يُفرض عليها، وهو أحد أنماط التحول بالتفكير الإستراتيجي التركي، فهي لا ترتبط اليوم بعلاقات مستقرة مع القوى الدولية الفاعلة، وتحديدًا الصين ومشكلة الإيغور، وروسيا والمشكلة السورية، والاتحاد الأوروبي ومشكلة شرق المتوسط، والولايات المتحدة ومشكلة إس 400، ما يوضح حقيقة العقدة الإستراتيجية التي تعيشها تركيا اليوم، التي تفرض عليها التحرك السياسي والإستراتيجي الفاعل على أكثر من مسرح إقليمي.