فرض اسم الفرقاطة التركية “كمال ريس” (التي شاركت في عملية درع المتوسط العام الماضي)، نفسه على منصات الإعلام خلال الآونة الأخيرة، كما ألقي الضوء عليها أكثر من مرة خلال مرافقتها سفينة الأبحاث “عروج ريس” في أثناء عمليات التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط، لكن الكثير لا يعرف سبب تسميتها بهذا الاسم.
يوثق اسم الفرقاطة دور أحد أبرز أمراء البحر في تاريخ الدولة العثمانية، كمال ريس (1451-1511)، جنرال أسطول الإمبراطورية، الذي استطاع أن يفرض السيادة العثمانية على البحر المتوسط لما يزيد على مئتي عام، بفضل عشرات الانتصارات التي حققها طيلة حياته التي قضاها في معارك تلو الأخرى.
لم يكن كمال قائدًا بحريًا وحسب، بل كان خبيرًا بعلوم الجغرافيا البحرية، ويعود الفضل في ذلك لابن شقيقه الأميرال الشهير بيري رئيس، رسام الخرائط العالمي الذي رافقه القائد البحري في أغلب بعثاته البحرية التي ساعدته في اكتشاف البحر أكثر وأكثر.
بلغت شهرته الآفاق، فكان حديث الأسماع في أوروبا بسبب الانتصارات التي حققها في معظم المعارك البحرية التي خاضها ضد الأسطول البيزنطي والبندقي على وجه التحديد، التي أعادت رسم خريطة القوى البحرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكان يلقب في أوروبا بـ “كماليكيو” وأحيانًا “كمالي”.
نقطة البداية
كان أحمد كمال الدين الشهير بـ”كمال ريس” المولود عام 1451 شغوفًا بالبحر منذ صغره، فكان بحارًا ماهرًا، وذاع صيته بين أقرانه من بحاري الأناضول، الأمر الذي أهله لأن يصبح قائد الأسطول البحري التابع لباي سنجق (إحدى جزر اليونان) التي كانت تحت قبضة العثمانيين في ذلك الوقت.
فرضت مهارته نفسها على السلطان بايزيد الثاني (1447-1512) الذي كلفه بمهمة الدفاع عن آخر معاقل المسلمين في الأندلس، جزيرة تابعة للأمير أبو عبد الله محمد الثاني عشر حاكم غرناطة، وكانت أول اختبار عملي رسمي للقائد الشاب الذي استطاع أن يبهر الجميع بما حققه من نتائج.
لم يكتف ريس بالدفاع عن غرناطة فقط كما طلب منه، بل واصل السير حتى استولى على القرى والمناطق التابعة للولاية وأسر منها الكثير، ثم توجه بعد ذلك على رأس أسطوله البحري إلى جزيرة كورسيكا، محققًا انتصارات ساحقة حتى استقر قرب بيزا الإيطالية.
لم يمكث أسطول العثمانيين في بيزا كثيرًا حتى توجه إلى الأندلس ليمارس دبلوماسية من نوع آخر، فالرجل ليس قائدًا عسكريًا بالمنظور التقليدي، لكنه سياسي محنك، وخلال الفترة من 1490 إلى 1492 نجح في كسب ثقة وتأييد المورسكيين (هم المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس وأجبروا على اعتناق المسيحية)، الأمر الذي دفعهم لطلب الهروب إلى أي من ولايات الإمبراطورية العثمانية، وكان لهم ما كان، حيث رحب العثمانيون بهم أيما ترحيب.
أميرال البحرية
الانتصارات المتلاحقة على أيدي ريس لاقت استحسان السلطان بايزيد الذي عينه “أميرالًا” للبحرية العثمانية عام 1495، ليبدأ القائد الفذ في وضع اللبنة الأولى نحو تدشين أكبر أسطول بحري في العالم في هذا الوقت، حين شرع في بناء السفن العملاقة “قادس”.
وفي أقل من عام كان الأسطول العثماني يمتلك قادسين كبيرين، يمكن للواحد منهما حمل 700 جندي مدجج بالسلاح، وفي غضون عامين فقط تم تدشين 5 سفن عملاقة بجانب عشرات السفن الصغيرة، وهو ما انعكس بلا شك على أداء البحرية العثمانية في المعارك التي خاضتها.
لم تكن المعارك التي خاضتها البحرية العثمانية بهدف توسيع دائرة النفوذ فحسب كما يحلو لبعض المؤرخين أن يعزفوا، لكن الكثير منها كان دفاعًا عن المقدسات الإسلامية الشهيرة وحماية الطقوس الدينية من الاعتداءات الصليبية عليها في وقت كانت أوروبا تحشد ضد الإسلام والمسلمين.
ومن أبرز الجولات التي خاضها كمال ريس دفاعًا عن الشعائر الإسلامية تكليفه من السلطان بحماية السفن التي تحمل سلعًا للمؤسسات الدينية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، التي كانت تخص مقيمي الشعائر المقدسة هناك، من الهجمات التي يشنها فرسان “القديس يوحنا” الذين يتخذون من جزيرة رودس (إحدى جزر اليونان حاليًّا) قاعدة لهم.
وعلى الفور جهز الأميرال أسطولًا مكونًا من قادسين كبيرين، وبعض السفن الصغيرة، مزودًا بالأسلحة والعتاد والمؤن الضرورية، واستطاع وقف التحرش بالسفن المحملة بالبضائع لمكة والمدينة المنورة، بل أسر سفينة شراعية تابعة لفرسان يوحنا قرب مونتيستراتو (قرب لندن حاليًّا).
الأمر ذاته تكرر في يوليو/تموز 1498 حين أبحر إلى مدينة رشيد بشمال مصر على رأس أسطول مكون من 5 قادسات وسفينتين شراعيتين لنقل وحماية 300 حاج متجهين إلى مكة المكرمة، وكان بحوزتهم 400 ألف دوقة من الذهب أرسلها السلطان العثماني إلى سلطان مصر المملوكي للإعانة على إدارة شؤون البلاد.
وفي طريق العودة اندلعت مواجهات بين الأسطول العثماني وبعض السفن البرتغالية، وكانت النتيجة أن أسر القائد المسلم سفينتين برتغاليتين بعد قتال استمر يومين كاملين، ليواصل انتصاراته البحرية بعدها بأسره لسفينة شراعية أخرى تابعة للبندقية.
سنوات النهضة
وصلت شهرة كمال ريس حدودها القصوى خلال السنوات الأربعة التي اندلعت فيها الحرب البندقية العثمانية التي امتدت من 1499-1503، حيث قدم أداءً أبهر العالم أجمع، وكان له الفضل في تطوير الترسانة البحرية، فهو أول من أدخل المدفعية إلى القوات البحرية.
أثارت فتوحاته العظيمة التي مكنت العثمانيين من السيطرة على مياه المتوسط غضب البندقيين الذين كانوا يحكمون قبضتهم الكاملة على هذه البقعة المائية الحيوية التي تربط أوروبا بقارتي آسيا وإفريقيا، فأحرقوا بعض السفن العثمانية التي كانت راسية في مياه البحر، وهو ما استفز الأستانة.
وعلى الفور أصدر السلطان بايزيد الثاني أوامره بالرد على ما قام به البندقيون، مكلفًا كمال ريس بقيادة أسطول عظيم ليلتقي بالأسطول البندقي في أغسطس/آب 1499 محققا نصرًا ساحقًا عليه، بعدما انضم إليه الأسطول الذي أرسله إليه داود باشا لدعم البحرية العثمانية في مهمتها.
وسميت تلك المعركة بـ”زونكي” وتعرف كذلك بمعركة “سابيينزا” أو “ليبانتو الأولى” وفيها غرقت السفينة التي تقل الأسرة الحاكمة في البندقية، بجانب أسر قائد الأسطول البندقي أنطونيو جريمانى، الذي كانت له شهرة كبيرة في القيادة البحرية بأوروبا في ذلك الوقت.
جرحت تلك المعركة كبرياء أوروبا ووضعت قادتها في موقف حرج أمام شعوبهم، هذا بجانب ما سببته من احتقان شعبي كبير داخل الجمهورية البندقية التي أبت أن ترفع الراية البيضاء، عازمة على الثأر من ريس وأسطوله، فأعادوا ترتيب صفوفهم مرة أخرى وهاجموا العثمانيين في ليبانتو في مايو/أيار 1500م، ثم كورفو في أغسطس/آب من نفس العام، لكنهم منيوا بهزيمة تلو الأخرى.
وفي معركة مودون التي تعرف كذلك بمعركة ليبانتو الثانية، وكانت في نفس الشهر تقريبًا (أغسطس/آب 1500م) نجح أسطول ريس في قصف قلعة مودون والسيطرة عليها، لتسقط معها معظم أملاك وأراضي البندقيين في اليونان بقبضة العثمانيين.
الهيمنة على البحر المتوسط
على مدار 9 سنوات كاملة خاض كمال ريس عشرات المعارك في مياه المتوسط، ففي الغرب نجح في تحقيق العديد من الفتوحات على حساب الأسطول الإسباني الذي لقنه دروسًا عدةً في فنون البحرية القتالية، واستطاع أن يأسر عشرات السفن والقوادس العملاقة.
ثم عاد إلى شرق المتوسط حيث شارك في أكثر من مواجهة مع الأسطول الصليبي واستطاع هزيمة القوات الفرنسية في لسبوس عام 1502، هذا بخلاف المعارك الضارية التي دخلها مع جيوش أوروبا في البحرين الأيوني والأدرياتيكى، كان النصير حليفه في أغلبها.
ومن الشرق إلى الغرب مرة أخرى، حيث هاجم جزيرة صقلية وأسر 3 سفن في سبتمبر/أيلول 1505، وفي العام التالي قصف موانئ ألميرا ومالقة، ثم عاد بعد 8 أشهر إلى بحر إيجة على رأس أسطول هائل مكون من عشرات السفن ومئات الجنود محققًا فتوحات عدة في جزر ليروس والدوديكانيز.
وخلال رحلة له على رأس أسطوله العظيم أوائل 1511 الذي كان موكلًا حينها بتوصيل معدات وخامات للمماليك في مصر من أجل بناء أسطولهم في معركتهم ضد البرتغاليين بالمحيط الهندي، هبت عاصفة شديدة في البحر المتوسط تحطم على إثرها 17 سفينة من أسطول الشحن العثماني، كان بينها سفينة كمال ريس الذي توفي رفقة جنوده في عرض البحر.
وهكذا استطاع كمال ريس، القائد البحري الخالد، بما قدمه من إنجازات ملموسة للبحرية العثمانية، أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، الأمر الذي أبقى اسمه حيًا حتى اليوم رغم مرور أكثر من نصف قرن على رحيله، لتبقى مآثرة قصصًا ودروسًا مستفادة يتعلمها النشئ والمهتمون بفنون القتال البحري.