باشرت الجزائر في الأشهر الأخيرة جهودًا حثيثةً للعودة إلى الساحة الإفريقية، فقد استأنف وزير الخارجية صبري بوقدوم تحركاته في القارة السمراء بزيارة قادته منذ أيام إلى الجارة ليبيا والكونغو الديمقراطية، في مسعى إلى المشاركة في صناعة القرار الإفريقي، والاستفادة اقتصاديًا من الانضمام إلى منطقة التبادل الحر الإفريقية التي دخلت حيز العمل بداية العام الحاليّ.
ورغم صعوبة المهمة بعد التغيّب المتعمد من إدارة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عن الساحة الإفريقية، يسعى الرئيس عبد المجيد تبون إلى إحياء علاقات بلاده بالدول الإفريقية لما تمثله المنطقة من عمق للأمن القومي للجزائر المحاط بتوترات أمنية وسياسية في كل من مالي وليبيا والصحراء الغربية.
الاندماج
في الذكرى العشرين لإطلاق الشراكة الجديدة من أجل التنمية في إفريقيا (نيباد) التي كانت الجزائر من مؤسسيها، إضافة إلى جنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر والسنغال، جدد الوزير الأول الجزائري عبد العزيز جراد تمسك بلاده بالسعي لتحقيق الاندماج بين مختلف الدول الإفريقية، قائلًا:
“الجزائر وانطلاقًا من قناعتها الراسخة بضرورة تعزيز مسار الاندماج القاري في إفريقيا، سارعت إلى تبني مقاربة إقليمية، سواء تعلق الأمر بمشاريع البنى التحتية الوطنية أم المشاريع الإقليمية، من أجل دعم التوجه التكاملي والاندماجي في إفريقيا بشكل فعال وملموس”.
سعت الجزائر في عدة مرات إلى إسكات صوت البنادق بعدة دول إفريقية، بداية بالجارتين ومالي ودعمها للتسوية العادلة وفق الشرعية الدولية في الصحراء الغربية
واعترف جراد بأن هدف تحقيق التنمية الإفريقية تعترضه صعوبات كبيرة “على رأسها استمرار مواطن النزاع والتوتر في قارتنا كباقي أرجاء العالم”، لافتًا إلى “أهمية تعزيز التكامل بين دولنا من أجل مجابهة كل التهديدات، وعلى جميع الأصعدة بما في ذلك وبالأخص التحديات المرتبطة بجائحة كورونا وما بعدها وبالتغير المناخي”.
وسعت الجزائر في عدة مرات إلى إسكات صوت البنادق في عدة دول إفريقية، بداية بالجارتين ومالي ودعمها للتسوية العادلة وفق الشرعية الدولية في الصحراء الغربية، انطلاقًا من خبرتها في هذا المجال، فقد كانت المهندس الذي أوقف الصراع بين إثيوبيا وإريتريا، مسخرةً دبلوماسييها لذلك ضمن لجان تابعة للاتحاد الإفريقي أو مبعوثين أممين مثل رمطان لعمامرة وزير الخارجية السابق وإسماعيل شرفي مفوض السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي والدبلوماسي الجزائري سعيد جنيت.
وترى الجزائر في انضمام جميع أقاليم القارة وكل المجموعات الإقليمية إلى مشروع الشراكة الجديدة “دليلًا قاطعًا على رجاحة الرؤية التي حملتها الجزائر كعضو مؤسس ولا تزال تدافع عنها من أجل تحقيق أهداف أجندة القارة لـ2063”.
بالسرعة القصوى
منذ شهر أغسطس/آب الماضي، رفعت الجزائر سرعة تحركها الدبلوماسي في القارة السمراء، خاصة عقب الانقلاب العسكري الذي جرى في جارتها الجنوبية مالي وأطاح بحكم الرئيس السابق إبراهيم أبو بكر كايتا، فقد قال الرئيس عبد المجيد تبون: “90% من الحل في مالي سيكون جزائريًا”.
وساهمت زيارة وزير الخارجية بوقدوم إلى بماكو في تسريع عملية انتقال السلطة، رغم العراقيل التي وضعتها وقتها مجموعة إكواس، غير أن تحرك الجزائر التي أكدت رفضها الوصول إلى السلطة خارج الأطر الدستورية مثلما تنص لوائح الاتحاد الإفريقي، ساهم في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المالية التي أكدت التزامها باتفاقية الجزائر 2015 كأرضية لحل الأزمة في البلاد.
ولحل الخلاف مع مجموعة إكواس، استغل بوقدوم زيارته إلى نيجيريا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي للقاء رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” جان كلود كاسي، وهو اللقاء الأول لمسؤول جزائري من هذا المستوى مع هذا التكتل الجهوي.
وتتكون “إكواس” من 15 بلدًا هم: بنين وبوركينا فاسو والرأس الأخضر وساحل العاج وغامبيا وغانا وليبيريا ومالي والنيجر ونيجيريا والسنغال وسيراليون وتوغو وغينيا وغينيا بيساو.
ترى الجزائر أن الوجود العسكري الفرنسي في مالي الذي تتزايد الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيله جزء من المشكلة في منطقة الساحل
كما كانت للوزير الجزائري لقاءات مع نظيره من نيجيريا، ليحط بعدها في النيجر البلد الجار الجنوبي الثاني بعد مالي، الذي يشكل هو الآخر العمق الأمني للجزائر.
وفي شهر يناير/كانون الثاني المنصرم، أجرى رئيس الدبلوماسية الجزائرية جولة إفريقية شملت جنوب إفريقيا الحليف التاريخي وأنغولا ومملكة ليسوتو وكينيا وليبيا والكونغو الديمقراطية التي التقى بها إضافة إلى المسؤولين المحليين بوزير الخارجية السوداني، كما كانت له اتصالات هاتفية مع نظيره التونسي.
وزاد التحرك الجزائري عقب التطبيع المغربي مع الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد أن كان هذا التطبيع مقابل حصول الرباط على اعتراف من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادتها على الصحراء الغربية المدرج ملفها في الأمم المتحدة ضمن قضايا تصفية الاستعمار.
وتتخوف الجزائر من أن تتأزم الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل بشكل أكبر، بعد عودة باريس لدفع فديات للإرهابيين مقابل إطلاق الرهائن، مثلما حدث في صفقة إطلاق الرهينة الفرنسية صوفي بترونين والإيطاليين نيكولا تشياتشيو وبيير لويغي ماكالي، حينما اضطرت مالي تحت ضغوط باريس للإفراج عن 200 متشدد.
وترى الجزائر أن الوجود العسكري الفرنسي في مالي الذي تتزايد الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيله جزء من المشكلة في منطقة الساحل، ولن يكون بأي حال من الأحوال جزءًا من الحل.
للاقتصاد نصيب
لا يقتصر التحرك الجزائري إفريقيًا على الجوانب السياسية والحضور الإقليمي، بل أيضًا على تحقيق أهداف اقتصادية، وبالخصوص بعد دخول اتفاقية منطقة التبادل الحر الإفريقية حيز التنفيذ مطلع هذا العام، إذ تراهن الجزائر على البنى التحتية التي أنجزتها أو برمجتها لهذا الغرض في أن يكون لها نصيب من السوق الإفريقية رغم الاهتمام الأجنبي المتزايد من القارة السمراء كالصين وتركيا وأمريكا وألمانيا، لمزاحمة فرنسا المستنزف التاريخي لخيرات الأفارقة.
مهما كانت الأهداف السياسية للجزائر كبيرة والغايات الاقتصادية ممكنة، إلا أن تحقيقها ينطلق من تهدئة الأوضاع الداخلية وإصلاح البيت الجزائري
وقال الوزير الأول عبد العزيز جراد في كلمة له بمناسبة الذكرى العشرين لإطلاق مبادرة “نيباد” إن مشاركة الجزائر لتحقيق الاندماج الإفريقي “تتجلى إقليميًا من خلال مشروع الطريق العابر للصحراء الرابط بين الجزائر ولاغوس (في نيجيريا)، والمضاعف بخط أنابيب الغاز والربط بالألياف البصرية على نفس المسار، ووطنيًا من خلال العديد من كبريات البنى التحتية، لا سيما ميناء جن جن بولاية جيجل شرق البلاد وميناء الحمدانية في مدينة شرشال وسط البلاد”.
وفي تفاصيل هذه البنى التحتية، نجد على سبيل المثال أن الطريق العابر للقارات الذي أنهته الجزائر يربط ست دول إفريقية هي الجزائر والنيجر ومالي وتونس ونيجيريا وتشاد، أما ميناء الحمدانية الذي أعادت بعث مشروعه باستئناف مفاوضات مع الصين لإنشائه، ينتظر أن يستوعب 6.5 مليون حاوية و25.7 مليون طن من البضائع سنويًا.
وفي الزيارة الأخيرة التي أداها بوقدوم إلى نيجيريا، اتفق الطرفان على إعادة بعض المشاورات بشأن مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء المعروف باسم “نيغال” الذي سيربط لاقوس النيجيرية بالجزائر مرورًا بالنيجر وصولًا إلى إسبانيا.
ويمتد أنبوب الغاز على طول يقارب 4128 كيلومترًا، ويستهدف نقل 30 مليار متر مكعب من الغاز النيجيري سنويًا نحو أوروبا.
وتعتقد الجزائر أن هذه المشاريع ستؤدي بالضرورة إلى تعزيز البنية التحتية القارية وتضاعف الإمكانات اللوجستية وتحفز التجارة البينية في إفريقيا، وهو ما قد يرفع مبادلاتها مع الدول الإفريقية، خاصة أنها ترغب في دخول هذه السوق بالتعاون والشراكة مع دول أخرى، مثل تركيا التي تم اقتراح هذا الهدف عليها.
ومهما كانت الأهداف السياسية للجزائر كبيرة والغايات الاقتصادية ممكنة، فإن تحقيقها ينطلق من تهدئة الأوضاع الداخلية وإصلاح البيت الجزائري سواء على الصعيد السياسي وإرجاع ثقة المواطن في دولته أم بالتخلص من النظام الإداري البيروقراطي الذي أجهض العديد من المبادرات الاقتصادية والاستثمارية.