في العادة، كان الحديث عن الجاسوسية المصرية مرتبطًا بحقبةٍ تاريخية معينة وسياقٍ تاريخي محدد، حيث عُرف أبرز رجال المخابرات المصريين، ممن سمحت الأرشيفات الأمنية بذكرهم، من خلال مغامراتهم خلف خطوط العدو الصهيوني، في الفترة التالية للنكسة والسابقة لقرار العبور والحرب.
لكن يبدو أنه بعد السلام مع الاحتلال الإسرائيلي وتعاقب الأنظمة العسكرية على حكم مصر، بات هناك نمط جديد من الأنشطة الاستخبارية، لا يستهدف حماية أمن البلاد أو الحصول على معلومات سرية من قلب الكيان العبري، وإنما ينشط في أوروبا والخارج، لأسبابٍ جديدة تمامًا بالنسبة للكثيرين، وهو ما كشفته القضية التي نتناولها في هذا التقرير.
10 أعوام من التجسس
لم تكشف السلطات الألمانية أو الإعلام المحلي في برلين صورته، ولم تغط القنوات التليفزيونية وقائع محاكمته، لكنها عرفته من خلال بعض الإشارات: “أمين. ك”، هو اسمه، رجلٌ طاعن في السن (66 عامًا)، ألماني الجنسية، لكن أصوله مصرية.
لم تقل السلطات الألمانية الكثير عن جذوره أيضًا، لكنها أشارت إلى معلومتين مهمتين: الأولى، أنه التحق بالعمل في أحد أهم المقرات ذات الرمزية في ألمانيا، وهو المركز الإعلامي للصحافة، الذي يتصل وثيقًا بالحكومة الاتحادية ومكتب الاستشارية في برلين منذ عام 1999، وأنه عمل سابقًا لسنوات لأحد الأجهزة الأمنية المصرية الرفيعة، قبل أن يحصل على الجنسية الألمانية.
وبعد قضائه 11 عامًا تقريبًا من العمل في المركز الاتحادي الألماني، بحلول يوليو/تموز عام 2010، أي قبل شهور بسيطة من الإطاحة بمبارك في ثورة يناير/كانون الثاني، حيث كان الجاسوس يعمل حينئذ في قسم “الزيارات” الذي يلتقي من خلاله زوار المركز ويتصل مع وسائل الإعلام، استطاعت الأجهزة الأمنية التابعة للسفارة المصرية في برلين الإيقاع به لكي يتعاون معها في أنشطةٍ غير مشروعة وفقًا للقانون الألماني.
المهمة الرئيسية التي كلف بها الجاسوس المصري الألماني منذ تجنيده كانت أن يستغل موقعه الوظيفي لإعداد تقارير لعناصر أمنية مصرية تابعة للسفارة بخصوص السياسة الداخلية والخارجية لألمانيا
قد يتبادر إلى ذهنك أن الأجهزة الأمنية المصرية، المخابرات تحديدًا كما ذكرت وسائل الإعلام الألمانية ووقائع التحقيق، قد جندته في هذا التوقيت من أجل غرضٍ نبيل ما كأن تحبط عملية أمنيةً عابرة للحدود تتورط فيها دول أوروبية من بينها ألمانيا ضد مصر، أو لكي تتعاون مع الجهات الألمانية لكشف مصريين متطرفين ينوون تهديد المصالح الألمانية، لكن الحقيقة أنه جند لكي يستغل منصبه الوظيفي المرتبط بدورة إنتاج المواد الإعلامية الرسمية، والمقرب من الحكومة الألمانية لأغراضٍ سياسيةٍ وليست أمنية!
تعقب المعارضين
المهمة الرئيسية التي كلف بها الجاسوس المصري الألماني منذ تجنيده كانت أن يستغل موقعه الوظيفي لإعداد تقارير لعناصر أمنية مصرية تابعة للسفارة بخصوص السياسة الداخلية والخارجية لألمانيا، وطريقة تناول الإعلام المحلي في ألمانيا للشأن المصري، ومن ثم تذهب هذه التقارير إلى السلطات المصرية في الداخل.
وخلال محاولته الوفاء بهذه المهمة، كان الجاسوس المصري يقدم بعض المعلومات المهمة التي يمس بعضها الكادر البشري الذي يعمل معه في المركز الإعلامي الاتحادي كإدلائه بالبيانات الرئيسية عن جذور 5 من زملائه في العمل كانوا قد ولدوا في سوريا.
في الفترة الممتدة من 2014 إلى 2015، أي في ذروة عهد السيسي، كلف رجال الأجهزة المخابراتية المصرية المتعاملون مع السفارة المصرية في برلين الجاسوس المصري بمحاولة تجنيد مترجم معني بتغطية الأنشطة البرلمانية، لكنه فشل في المهمة.
في السنوات الثلاثة الأخيرة حتى عام 2019، كان تواصل الجاسوس الألماني المصري مع السفارة المصرية يتم عبر رجلٍ معروف بأنه مستشارٌ معتمدٌ لدى السفارة المصرية، لكنه يعمل في الواقع موظفًا بالمخابرات العامة المصرية، وكان التواصل بينهما “يتم بطريقةٍ تآمريةٍ جزئيًا”، على حد وصف تحقيقات الادعاء العام الألماني.
استطاعت الاستخبارات الداخلية الألمانية (هيئة حماية الدستور) أن توقع بـ”أمين” نهاية عام 2019، وظل الأمر طي الكتمان والتحقيقات الأمنية الداخلية حتى الـ9 من يوليو/تموز 2020 عندما نشر التقرير الألماني، لكن ما قد يكون مثيرًا في هذه القصة أن الرجل – فيما يبدو – لم يكن لديه أي مطالب مادية، فلم تثبت جهات التحقيق أي منحٍ أو إكرامياتٍ أو قفزات مادية في رحلته، وإنما كان يطمح فقط إلى أن تحصل والدته المصرية على معاش تقاعدي لائق، بالإضافة إلى حضور بعض الأنشطة شبه الرسمية في السفارة المصرية في برلين، مثل حفل وداع السفير المصري عام 2019، كما ورد في عريضة الاتهام نوفمبر/تشرين الماضي.
أذرع النظام في الخارج
في البداية، كان المتوقع بحسب قناة NTV الألمانية أن يكون حكم المحكمة غرامةً ماليةً وعقوبة مشددة 5 سنوات أو 10 سنوات، إذا كانت المعلومات المسربة غاية في الحساسية، لكن الحكومة الألمانية على لسان نائبة المتحدث باسم الحكومة قالت إن عمل المتهم في وظيفةٍ متوسطة بقسم “الزيارات” حال دون وصوله إلى معلومات مهمة.
هناك دلائل تفيد بأن أجهزة أمنية مصرية، من المخابرات العامة والأمن الوطني تحاول جذب مواطنين يعيشون في ألمانيا لأغراضٍ استخبارية، من أجل تتبع حركة المعارضين بالخارج
كما عقد الدفاع صفقةً بين المتهم والمحكمة، يقوم خلالها أمين بالاعتراف بالتهم ومعاونة القضاء في الحصول على معلوماتٍ كاملة مقابل تخفيف العقوبة، وهو ما أدى إلى أن يكون الحكم النهائي في مارس/آذار الحاليّ بالحبس 21 شهرًا مع إيقاف التنفيذ، خاصة أن المتهم قال إنه شعر بالارتياب قبل القبض عليه، وكان قد أوقف التعامل مع المتعاونين مع السفارة المصرية قبل القبض عليه بمدة.
لكن تقرير الاستخبارات الألمانية عن القضية كان قد خلص إلى أن هناك دلائل تفيد بأن أجهزة أمنية مصرية، من المخابرات العامة والأمن الوطني تحاول جذب مواطنين يعيشون في ألمانيا لأغراضٍ استخبارية، من أجل تتبع حركة المعارضين بالخارج، وجمع معلومات عن الأقباط المنخرطين في الجمعيات الأهلية والصحفيين المصريين، ومتابعة طلبات اللجوء السياسي.
وهو ما دفع معارضين مصريين إلى توثيق تجاربهم مع أذرع النظام المصري في الخارج، حيث كتب عمرو خليفة: “معلومة على الماشي: هم موجودين هنا في نيويورك كمان ومكشوفين، في مرة من المرات في قهوتي المفضلة العام الماضي، واحد منهم كان بيتأكد أنا مين، العبقري راح سأل القهوجي، اللي بدوره جيه قالي”.
وقالت مها الهسي أستاذة الأدب الألماني في تغريدةٍ لها على “تويتر” تعليقًا على الواقعة: “كلنا عارفين أن السفارة المصرية في برلين وكمان في لندن بيجمعوا معلومات عن المصريين، وخاصةً المعارضة والأقليات، الخبر المرة دي مفاجأة لأن التجسس من داخل Federal Press Office في ألمانيا!”.
فيما أشار تقادم الخطيب، مبتعث مصري في ألمانيا ومعارض للنظام برز اسمه مع أزمة بيع تيران وصنافير، إلى قصته الشخصية مع واقعة مشابهة قائلًا: “بمناسبة تقرير المخابرات الألمانية عن إلقاء القبض على جاسوس مصري وكذلك عن نشاط أجهزة مخابرات مصرية تجمع معلومات عن المعارضين في برلين، سأنشر تقريرًا أمنيًا كتبه ضدي الملحق الثقافي للسفارة المصرية في برلين، طالبًا من الأجهزة الأمنية اتخاذ إجراءات عاجلة ضدي”.
العلاقات الثنائية
بعد نشر تقرير المخابرات الألمانية، وقبل المحاكمة، قال المتحدث باسم الخارجية الألمانية إن بلاده لم تتحدث مع نظيره المصري بخصوص هذه القضية، انتظارًا للتحقيقات، في إشارة إلى احتمال طرح القضية على النظام المصري لاحقًا.
العلاقات الثنائية بين البلدين ازدهرت كثيرًا في السنوات الأخيرة، حيث زار السيسي برلين 4 مرات، وزارت ميركل القاهرة مرتين، كما زار رئيس الوزراء الحاليّ لمصر مصطفى مدبولي وحده العاصمة الألمانية مرتين، ويتشعب التعاون بين البلدين من السياحة إلى صناعة السيارات وتدوير المخلفات.
لكن جانبًا مظلمًا من العلاقة كان يتفجر بين الحين والآخر بإرادةٍ خارجة عن الإدارتين، ففي يونيو/حزيران 2015 خلال وجود السيسي في برلين، اشتبكت طالبة مصرية معارضة رمزيًا مع السيسي خلال المؤتمر الصحافي مع ميركل، ووصفته بالنازي والقاتل وهتفت ضد حكم العسكر، ورفعت شعار رابعة في وجهه، ما أدى إلى هرج في القاعة، وتدخل الأمن الألماني ومؤيدي السيسي لإسكات صوتها.
العديد من الشركات الألمانية تستثمر في مصر، وبالتالي يوجد اهتمام كبير بعدم المخاطرة بهذه العلاقات، والانتقادات من الجانب الألماني لا يتم التعبير عنها إلا بصوت خافت
وفي عام 2019، تبين أن الموافقة التي منحها نتنياهو للألمان لبيع غواصات متقدمة لمصر وأخرى أكثر تقدمًا لبلاده، تحصل عليها البلدان من شركة “ثيسن كروب” الألمانية ربما تكون متعلقة بحصوله على رشوة من وكيل الشركة في “إسرائيل” ميكي غانور، وبسبب امتلاكه أسهم في شركة ابن عمه ناتان ميليكوفسكي، سي دريفت للحديد في تكساس، التي تورد المعادن للشركة الألمانية.
وفي نفس العام، أثار تشكيل وزارة الكهرباء المصرية لجنةً لدراسة العروض المقدمة لشراء محطات الكهرباء التي أنشأتها شركة “سيمنز” الألمانية في مصر بقيمة 6 مليارات يورو، 85% منها قروض، لتوليد طاقة تعادل 14 ألف ميجاوات عام 2016، تساؤلاتٍ عن الأسباب التي دعت إلى بناء محطات بهذه الكميات التي تفوق حاجة السوق المصرية من الطاقة ابتداءً، رغم أن حاجة السوق المصرية من الطاقة الكهربائية معروفة لأي فني أو اقتصادي متخصص في الطاقة، فضلًا عن القيادة السياسية للبلاد، في إشارة إلى جانب الاقتصاد السياسي الموجود في هذه التعاقدات الكبرى.
وفي مطلع 2020، اعتذر رئيس دار أوبرا “زيمبر” في دريزدن هانز يواخيم فراي عن تكريم السيسي ومنحه وسام القديس سان جورج، بعد حملة ضغوط وانسحابات قام بها فنانون ورعاة وبرلمانيون ومذيعون، احتجاجًا على منحه الوسام وغض الطرف عن استبداده، ومقاطعةً لمهرجان فبراير الذي تقيمه الدار.
وفي يوليو/تموز من نفس العام، هاجمت سيڤيم داغديلين المتحدثة باسم حزب اليسار لشؤون التسليح وممثلة الحزب في لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الحكومة الألمانية بسبب الموافقة على بيع الغواصة الرابعة من طراز 209/ 1400 لمصر، على خلفية ما أسمته “تورط الحكومة بهذه المبيعات منعدمة الضمير في تأجيج الحرب في اليمن وليبيا”.
ويلخص البروفيسور غونتر ماير مدير مركز البحوث حول العالم العربي بجامعة ماينز في حوار مع بشير عمرون سياسة بلاده نحو النظام في مصر قائلًا: “تحتل المصالح السياسية والاقتصادية الصدارة، بدءًا من الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم النظام منذ سنوات بالمليارات لشراء أسلحة أمريكية لضمان استقرار الوضع مع “إسرائيل”، إلى الدول الغربية، ومنها ألمانيا، التي تهتم كثيرًا بالسوق المصرية، العديد من الشركات الألمانية تستثمر في مصر، وبالتالي يوجد اهتمام كبير بعدم المخاطرة بهذه العلاقات، والانتقادات من الجانب الألماني لا يتم التعبير عنها إلا بصوت خافت، وتترك مصر كصديق تتحرك كما تريد”.