أسبوع بالتمام استمر جنوح سفينة الحاويات العملاقة “إيفر غيفن” في قناة السويس، لتقطع أحد أهم الممرات المائية للتجارة العالمية بين الشرق والغرب، قبل أن تنجح أخيرًا، فجر اليوم الإثنين، جهود تعويمها حسب ما أعلنت شركة “إنتش كيب” لخدمات الشحن، مشيرة إلى أن الاستعدادات جارية لإبحارها إلى منطقة البحيرات، بعد خضوعها لفحص مبدئي.
جنوح الحاوية -التي تحمل علم بنما وتديرها شركة تايوانية- هذه المدة أثار حالة من القلق لما يمكن أن يترتب على ذلك من خسائر بمئات المليارات جراء توقيف عشرات السفن وتجميد مسارات عدة لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا، الأمر الذي دفع البعض للحديث عن وجود بدائل للقناة.
Greetings and appreciation to the Egyptian administration and the Suez Canal Authority for this work pic.twitter.com/dfS8AdDbmn
— مًحًـمًدٍ إبرآهّيَـمً Fathelbab (@IbrahemFthelbab) March 29, 2021
حالة الترقب التي خيمت على الأوساط الدولية مردها إلى ما تمثله قناة السويس من أهمية عالمية، كونها أحد أهم الممرات المائية في العالم، فمن خلالها تمر قرابة 10% من بضائع العالم التي يتم توزيعها في أوروبا وأمريكا، كما أن 40% من بضائع العالم من حيث الحجم والوزن تمر من القناة بشكل عام.
في هذا التقرير نستعرض أبرز الدول المتضررة من هذه الأزمة، وكيف ألقت بظلالها القاتمة على خريطة التجارة العالمية، وفي الوقت ذاته هناك دول بدت رابحة من تفاقم الوضع وإطالة أمد الأزمة، وسعت لتوظيفه لصالح حسابات وأجندات أخرى.
400 مليون دولار.. خسائر في الساعة
منظومة التجارة العالمية قد تكون الخاسر الأكبر جراء إغلاق القناة الأيام الماضية، فوفق تقديرات شركة التأمين الألمانية “اليانس” فإن الإغلاق يكلف أسبوعيًا من 6 إلى 10 مليارات دولار، هذا بخلاف ما يحدثه من قفزة في أسعار النقل وتكاليف الإنتاج والتأمين.
أسعار النفط هي الأخرى أحد ضحايا الغلق، إذ ارتفع سعر المادة الخام بنسبة 6% بعد أقل من 48 ساعة على حادث جنوح السفينة، وهو ما ينطبق على أسعار السلع الأخرى، إذ يشكل المرور عبر القناة 10 إلى 15% من مجمل السلع التي تنقلها الحاويات إلى مختلف أنحاء العالم.
أما مجلة لويدز ليست (Lloyd’s List)، المختصة بالشحن، فتذهب إلى أن حجم الخسائر يفوق تقديرات الشركة الألمانية، لافتة إلى أن تعطل “إيفر غيفن” في القناة يتسبب في خسائر تبلغ نحو 9.6 مليار دولار كل يوم، أي ما يعادل 400 مليون دولار في الساعة.
وأوضحت المجلة أن قناة السويس تعد الممر الأكثر تأثيرًا بين الشرق والغرب، كاشفة أن حركة المرور المتجهة غربًا عبر القناة تقدر بنحو 5.1 مليار دولار في اليوم، وحركة المرور المتجهة شرقًا بنحو 4.5 مليار دولار في اليوم.
مصر.. سلاح ذو حدين
تعد قناة السويس واحدةً من أركان الاقتصاد المصري الثابتة، فهي المصدر الأكثر استدامة للدخل القومي من العملات الأجنبية، إذ تصل إيراداتها قرابة 5.6 مليار دولار سنويًا، وهو العائد الأكثر استقرارًا في أوقات الأزمات والطوارئ، مقارنة بالقطاعات الأخرى التي قد تتأثر بأي مستجدات كما هي السياحة التي تراجعت بشكل كبير منذ جائحة كورونا وغيرها من القطاعات التي تدر العملة الصعبة على البلاد.
تذهب التقديرات إلى أن خسائر مصر نتيجة تعطل حركة المرور عبر القناة تتجاوز 15 مليون دولار في صورة رسوم على مرور السفن لم تحصل بعد بسبب توقفها، هذا بخلاف التكاليف المترتبة على توقف حركة المرور وخدمات الشحن والتفريغ وما حولها، وهي المجالات التي كانت تنعش حالة التجارة في المدن المطلة على الممر المائي العالمي.
وفي الجهة الأخرى هناك من يرى أن الأزمة الحاليّة وضعت القناة تحت مجهر الاهتمام العالمي، فهي بمثابة دعاية مجانية لهذا الممر، ما يمكن استغلال هذا الظرف لإعادة تسويقه مرة أخرى بصورة أفضل وبما يحقق عائد أكبر، في حال توافر العقلية القادرة على ذلك، غير أن آخرين شككوا في هذه الرؤية بسبب حالة التخبط في إدارة الأزمة في ساعاتها الأولى، التي أثارت سخرية الكثير من وسائل الإعلام العالمية والمهتمين بالنقل البحري، وإن تم تلافيها فيما بعد.
العالم العربي.. الخاسر الأكبر
اعتماد الدول العربية، لا سيما الخليج العربي وشمال إفريقيا، على قناة السويس، كممر رئيسي لنقل البضائع والسلع والوقود، بوصفها أحد أكبر الأسواق المستوردة في المنطقة، يجعلها على رأس الدول الخاسرة من حالة الإغلاق طيلة الأيام الماضية.
وتتفاوت نسب الخسارة من دولة لأخرى حسب اعتمادها على الممر المصري، فدولة كالمغرب تمر ما نسبته 10% من قيمة البضائع القادمة إليه من الدول الآسيوية لاسيما الصين عبر قناة السويس، أما مصر فترتفع النسبة إلى 18% خاصة البضائع القادمة من الصين.
أكثر من ثلثي البضائع المتبادلة بين ألمانيا والصين التي تعد أهم شريك تجاري لها يتم نقلها عبر قناة السويس
أما فيما يتعلق بدول الخليج فتذهب التقديرات إلى أن ما بين مليون إلى مليون ونصف برميل نفط يوميًا تُشحن عبر قناة السويس إلى الأسواق الأوروبية والتركية وأسواق دول أخرى، وفي المقابل فإن الخليجيين يعتمدون على السلع الاستهلاكية القادمة من أوروبا وشمال إفريقيا التي تأتي عبر القناة المصرية بنسب تتراوح بين 20-30% وهو ما يعمق الأزمة بالنسبة لهم.
هناك دول أخرى تفاقمت فيها الأزمة بصورة أكبر، خاصة تلك التي تعتمد بصورة يومية على حركة التجارة عبر القناة، مثل سوريا، الذي أدى غلق الممر الملاحي إلى تأخير الشحنات الحيوية وتفاقم نقص النفط في البلاد، ما دفع النظام هناك لترشيد توزيع المنتجات النفطية لضمان استمرارية الخدمات الأساسية مثل المخابز والمستشفيات، فيما ألمح بيان لوزارة النفط أن هناك شحنة من المتوقع أن تصل الجمعة القادمة، وفي حال تأخرها فقد تغير السفينة مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
أوروبا والصين
أوروبا والصين والولايات المتحدة على رأس المتضررين كذلك من إغلاق القناة التي تعد الممر الرئيسي لهم لمسار قطارهم التجاري سواء إلى بعضهم البعض أم إلى منطقة الشرق الأوسط والدول العربية.
الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر للبلدان العربية، إذ بلغ حجم التجارة بينهما 377 مليار دولار في العام الماضي، وتعد ألمانيا على رأس الدول الأوروبية المتضررة، إذ إن 8 إلى 9% من صادراتها ووارداتها تمر عبر القناة، بحسب تقديرات معهد الاقتصاد العالمي.
هذا بخلاف أن أكثر من ثلثي البضائع المتبادلة بين ألمانيا والصين التي تعد أهم شريك تجاري لها يتم نقلها عبر قناة السويس، وهو ما يبعث على القلق وفق ما ذهب نائب المدير التنفيذي للاتحاد الأوروبي، هولغر لوش، الذي قال: “السلاسل المتعثرة بين آسيا وأوروبا مهددة بالتوقف التام”، مضيفًا “هذا يمثل مشكلة خاصة لفروع الصناعة ذات الإنتاج المبرمج مثل صناعة السيارات”.
وتشير الإحصاءات إلى أن حجم التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي بلغ نحو 150 مليار يوان أي 22 مليار دولار أمريكي في النصف الأول من عام 2018، بزيادة 11% على أساس سنوي، فيما بلغ حجم التبادل بين بكين والدول العربية 7 مليارات دولار في النصف الأول من العام الحاليّ، بزيادة 12% على أساس سنوي، بحسب وزارة التجارة الصينية.
سفير إيران لدى موسكو، كاظم جلالي، طالب في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” مساء السبت، “تفعيل ممر شمال – جنوب بدلًا عن قناة السويس”
البحث عن بدائل
اليومان الماضيان بدأت الأخبار تتناقل بشأن البحث عن بدائل لمرور الناقلات العملاقة العالقة في قناة السويس، خاصة أن التأخر في إيصال الشحنات يكلفها المزيد من الخسائر اليومية، هذا بخلاف أن بعض الشحنات ربما تتعرض للتلف حال استمرارها فترات طويلة في المياه.
بعض الشركات ومنتسبيها بدأوا في الترويج لطريق رأس الرجاء الصالح، الذي يزيد طوله بنحو 10 آلاف كيلومتر إضافية، كحل بديل ومؤقت للأزمة الراهنة، لا سيما بعد تجاوز تراكم السفن المعطلة حتى الآن 200 حاوية، فقد امتد طابور السفن المعطلة إلى الهند شرقًا وإلى ما وراء مضيق جبل طارق غربًا!
لكن هذا الحل ربما لن يكون عمليًا في الوقت الراهن، فبجانب طول المسافة والكلفة العالية، لا تزال أعمال القرصنة في الطريق الموازي للساحل الإفريقي ماثلة في الأذهان وتمثل خطرًا محدقًا، وهنا تجد السفن نفسها في مأزق قد يكلفها كثيرًا خاصة إن اضطرت لتعيين حراسات إضافة لكل سفينة، وهو ما يعني أن تكلفة الناقلة الواحدة قد يصل في بعض التقديرات إلى 300 ألف دولار.
وفيما كانت القاهرة تبذل جهودها لإنهاء الأزمة في أسرع وقت، كان هناك من يتحدث عن تفعيل ممرات دولية بديلة للقناة، غير طريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما يعكس مساعي بعض الأطراف لتوظيف الأزمة من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب وتنفيذ أجندات إقليمية أخرى، وإن كانت في ثوب اقتصادي.
سفير إيران لدى موسكو، كاظم جلالي، طالب في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” مساء أمس السبت، بـ”تفعيل ممر شمال – جنوب بدلًا عن قناة السويس”، وهو الممر الذي يربط العاصمة التجارية الهندية مومباي بإقليم أوراسيا مترامي الأطراف.
يتألف هذا الممر من شبكة طرق عملاقة لمرور السفن والسكك الحديدية والطرق البرية، تبلغ 7200 كيلومتر، ويهدف إلى نقل البضائع والمرور عبر أراضي أكثر من دولة، الهند وإيران وأفغانستان وأرمينيا وأذربيجان وروسيا وآسيا الوسطى، ثم منها إلى دول أوروبا الشرقية.
جلالي كتب يقول: “في ضوء توقف حركة الملاحة البحرية في قناة السويس خلال الأيام الأخيرة بسبب جنوح سفينة إيفر غيفن العملاقة والخسائر الناجمة عن توقف حركة الملاحة للاقتصاد العالمي التي تقدر بنحو 9 مليارات دولار يوميًا، إن الإسراع في إكمال البنى التحتية وتفعيل ممر شمال-جنوب كبديل عن ممر قناة السويس يحظى بالأهمية أكثر مما مضى”.
اكد سفير الجمهورية الاسلامية #الايرانية لدى موسكو كاظم جلالي ضرورة تفعيل ممر “شمال-جنوب” بدلا عن قناة السويس https://t.co/6rC430MDiC pic.twitter.com/uz5jewuT7y
— ارنا العربیة (@irna_arabic) March 28, 2021
ويعد هذا الممر حلمًا يداعب أذهان إيران والهند طيلة السنوات الماضية، في إطار منافسة “طريق الحرير” الصيني، الذي يمتد في مساره البحري من الساحل الصيني عبر سنغافورة والهند باتجاه البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا، أما في امتداده البري يغطي 66 دولة في ثلاث قارات، هي آسيا وأوروبا وإفريقيا.
الطريق الإيراني – الهندي لاقى ترحيبًا من بعض الدول التي تسعى لمناهضة النفوذ الصيني وعلى رأسها اليابان كما ذكرت صحيفة “ذي إيكونوميك تايمز” الهندية في تقرير لها نشر في 8 من سبتمبر/أيلول 2016، اهتمام طوكيو بهذا المشروع لمنافسة “المد الصيني”.
وتسعى موسكو وطهران لترجمة هذا المشروع الذي بلا شك سيعزز العلاقات بينهما بجانب أنه سيفتح الطريق أمام روسيا للسيطرة على الأسواق الأوروبية، فيما يمثل لإيران الباب الكبير لكسر العزلة التي فرضتها العقوبات الدولية الموقعة عليها لعقود طويلة.
وعليه فإن استمرار حالة الجدل والتشكيك في قدرة مصر على الإسراع بحلحلة الأزمة ربما يصب في صالح إيران وروسيا والهند، وإن كان بشكل غير مباشر، وفي المسار ذاته ينطبق الأمر على “إسرائيل” الساعية إلى تعزيز نفوذها الإقليمي عبر مشروعات عدة تتعلق بتدشين ممرات بديلة للقناة المصرية تجعل من دولة الاحتلال حلقة الوصل بين آسيا وأوروبا.