“نحن لا نهدد أحدًا، لكن لا يستطيع أحد أخذ نقطة مياه من مصر، وإلا ستشهد المنطقة حالة عدم استقرار لا يتخيلها أحد”، أثار هذا التصريح للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حالة من الجدل والترقب لدى نخب المحللين والمراقبين لما يحتوي عليه من لغة جديدة غير معتادة من القاهرة بعد أكثر من 10 سنوات من المفاوضات العقيمة بشأن سد النهضة.
تصريحات السيسي بهذه الطريقة، المستخدمة لأول مرة من الرئيس المصري، على حد قوله، تشير إلى أن القاهرة ربما تتخلى عن لغتها الدبلوماسية التقليدية وتتنحى جانبًا عن هدوئها في التعامل مع هذا الملف الذي يهدد الأمن المائي لقرابة مئة مليون مصري.
الخطاب التصعيدي المصري يأتي في ظل التقارب الواضح مع السودان على المستوى العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي، وهي النقلة التي من المتوقع أن يكون لها تأثيرها القوي على ملامح خريطة الأزمة بعد سنوات طويلة كانت الخرطوم أميل فيها لأديس أبابا من القاهرة.
وبعيدًا عن كون تلك التصريحات رسالة تهديد لإثيوبيا أو محاولة لتبريد الأجواء الداخلية المشتعلة على خلفية أزمات وكوارث متعددة خلال الآونة الأخيرة على رأسها حادث قطاري سوهاج (جنوب)، إلا أن صداها كان أكبر من المتوقع، فقد وضعت العديد من الدول الحليفة لمصر في مأزق لا تحسد عليه.
البيانات الصادرة عن الدول العربية بشأن تلك التصريحات تباينت فيما بينها بشأن درجة وسقف الدعم والتأييد للحليف القاهري، فبينما أعلنت السعودية والأردن والكويت أن أمن مصر المائي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، خرجت الإمارات لتعزف على وتر “الالتزام بالقوانين الدولية بما يؤمن حقوق الدول الثلاثة” دون الإشارة إلى دعم مصر بصورة مباشرة في هذا الملف الحيوي.
الموقف الإماراتي الذي وصفه سياسيون مصريون بـ”الغامض” أثار الكثير من التساؤلات عن العلاقة بين البلدين، فيما ذهب آخرون إلى ضرورة إعادة تقييمها بشكل جذري، لا سيما أن أبو ظبي كانت الداعم لحكومة آبي أحمد في الوقت الذي كانت تعاني فيه القاهرة من ضعف موقفها التفاوضي في أعقاب التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 2015.
اللغة التصعيدية التي شهدها الخطاب الرسمي المصري حيال أزمة السد، تضع أبناء زايد أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانحياز إلى الحليف المصري كالسعودية والأردن والكويت، وإما التغريد خارج السرب والاستمرار في سياسة مسك العصا من المنتصف وما لذلك من تبعات على مستقبل التحالف (المصري السعودي الإماراتي) الذي بدأت عراه تنفك عروة تلو الأخرى.. فإلى أي الفريقين تنحاز الدولة النفطية الخليجية؟
تعاون مثير للجدل
اللافت للنظر أن الإمارات عززت علاقتها بإثيوبيا في خضم نزاع الأخيرة مع مصر، ففي 2019 وبينما كانت تعلن أديس أبابا موعد الملء الأول للسد، وهي الضربة القوية التي تلقتها القاهرة على أيدي آبي أحمد، إذ بأبناء زايد يوقعون مذكرة تفاهم عسكرية لتعزيز التعاون في المجالات العسكرية والدفاعية مع الحكومة الإثيوبية.
مذكرة التعاون سبقها دعم مالي هو الأول من نوعه بهذا الحجم، فقد قدمت الدولة الخليجية لنظيرتها الإفريقية 3 مليارات دولار عام 2018 كمساعدات واستثمارات، فيما عززت استثمارتها لتصل إلى أكثر من 90 مشروعًا منها 33 مشروعًا عاملًا و23 مشروعًا قيد الإنجاز.
كما حصلت 36 شركة إماراتية على التراخيص اللازمة للعمل في إثيوبيا، في عدد من المجالات أبرزها الزراعة والصناعة والعقارات وتأجير الآلات والإنشاءات وحفر الآبار والتعدين والصحة والفندقة، بحسب بيانات هيئة الاستثمار الإثيوبي، وفق ما نشرت وكالة “الأناضول“.
يبدو أن الميكافيللية الإماراتية في تعزيز النفوذ وتغليب المصالح لا تراعي في الجهة الأخرى مصالح الحلفاء التي باتت مهددة بسبب السياسات الجديدة لأبو ظبي
وكانت أبو ظبي الداعم الأكبر لحكومة آبي أحمد في صراعها مع جبهة تحرير تيغراي عبر مسارات ثلاث، الأول: اقتصادي من أجل مواجهة الاحتقان الشعبي الداخلي، الثاني: عسكري، للتصدي لأي تهديدات داخلية أو خارجية، أما الثالث: الدعم السياسي في عدد من الملفات بعضها يتقاطع مع دول عربية شقيقة كمصر والسودان.
وفي الوقت الذي كان يؤمل فيه المصريون أنفسهم بحدوث انشقاقات في صفوف حكومة آبي أحمد تثنيها قليلًا عن موقفها المتعنت حيال ملف السد، إذ بأبو ظبي كانت حائط الصد الذي استند عليه رئيس الوزراء الإثيوبي لدحر أي تهديدات محتملة، وهو ما ألمحت إليه الجبهة المعارضة حين اتهمت الإمارات بقصف قواتها في الإقليم بطائرات مسيرة انطلاقًا من قواعد لها في إريتريا، حسبما جاء على لسان المستشار السياسي لحاكم إقليم تيغراي، في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ميكافيللية إماراتية
تبرر الإمارات دعمها لحكومة آبي أحمد بأنه يأتي من منطلق “الحرص على أمن واستقرار إثيوبيا” وفق ما جاء على لسان وزير الخارجية الإماراتية عبد الله بن زايد خلال اتصال هاتفي، الأربعاء 11 من نوفمبر/تشرين الثاني، مع نظيره الألماني هايكو ماس.
تسعى الإمارات لتعزيز نفوذها داخل القارة الإفريقية عبر مسارات عدة، كان على رأسها طيلة السنوات الخمسة الماضية، تعزيز الوجود العسكري من خلال بناء قواعد واستئجار موانئ، مستغلة الحالة الاقتصادية المتردية للكثير من الحكومات التي كان يسيل لعابها أمام المال الإماراتي.
لكن هذا المسار قوبل بتحديات كبيرة فرضتها مناسيب الوعي المرتفعة لدى بعض الشعوب الإفريقية، ما تسبب في تهديد هذا المسار، حيث ألغت بعض الدول اتفاقيات لبناء قواعد عسكرية إماراتية فوق ترابها كما هو الحال مع الصومال، ما دفع أبناء زايد للبحث عن أدوات أخرى أقل صخبًا وأكثر تأثيرًا.
وعليه وجدت أبو ظبي في دعم الحكومات سياسيًا واقتصاديًا هو الحل السحري للتوغل داخل مفاصل القارة، ووقع الاختيار على إثيوبيا تحديدًا لما لها من ثقل إقليمي وقاري كبير، فهي مفتاح إفريقيا وبابه الكبير خاصة في السنوات العشرة الأخيرة، بعدما سحبت البساط من تحت القاهرة التي تخلت عن عمقها القاري لأسباب عدة.
ومن ثم كان الحضور الإماراتي قويًا في إنهاء الصراع الإريتري الإثيوبي في محاولة لإزالة المخاطر المحتملة عن حليفها الجديد، بجانب تقليم أظافر الجبهة المعارضة الداخلية التي شكلت تهديدًا كبيرًا لحكومة آبي أحمد، وهو ما انعكس على تقوية نفوذ أديس أبابا وعبورها للمأزق الذي أوقعها فيه شطحات رئيس وزرائها.
السير عكس الاتجاه
يبدو أن الميكافيللية الإماراتية في تعزيز النفوذ وتغليب المصالح لا تراعي في الجهة الأخرى مصالح الحلفاء التي باتت مهددة بسبب السياسات الجديدة لأبو ظبي، وهو ما يمكن قراءته من خلال التحركات الإماراتية الأخيرة في عدد من الملفات التي تتقاطع فيها مصالحها مع القاهرة والرياض.
فمع القاهرة توغلت الإمارات بشكل غير مقبول، عكس الخط المتفق عليه مع الحلفاء، في أكثر من مسار، أبرزها المسار الليبي الذي حرصت أبو ظبي على تنفيذ أجندتها بعيدًا عما تحمله من تهديد للأمن القومي المصري، وهو ما دفع القاهرة لضبط البوصلة مع الحليف الخليجي، الأمر الذي وسع الهوة بينهما.
كذلك اللعب الانفرادي للإمارات في خاصرة مصر الجنوبية، حيث القرن الإفريقي، والتوغل داخل مفاصل حكومات تلك المنطقة، والسعي للسيطرة على الشريط الساحلي المطل على البحر الأحمر، الأمر الذي أثار قلق القاهرة لا سيما أن التحركات الإماراتية المتزامنة مع تحركات أمريكية وروسية وصينية وإيرانية مماثلة، كانت مثار شك وريبة لدى شريحة كبيرة من المصريين.
الضربات التي تلقتها الدولة الخليجية في القارة الإفريقية خلال الآونة الأخيرة ستجعلها أكثر تمسكًا بعلاقتها بالحكومة الإثيوبية، لا سيما أنها تتمتع بعلاقات جيدة مع بقية دول القارة
هذا بخلاف العديد من الملفات الأخرى كالمصالحة الخليجية والتقارب مع تركيا، وكلها ملفات ساهمت في توسيع الهوة، حتى وصل الأمر الذي عرض الوساطة لحل التوتر الحدودي السوداني الإثيوبي وأزمة سد النهضة دون استشارة الجانب المصري، وهي الخطوة التي كان لها تأثيرها الخطير على مستقبل العلاقات بين البلدين.
الموقف ذاته مع السعودية، حيث تغليب الأجندة الإماراتية في اليمن على حساب مصالح التحالف، وهو ما أدى إلى إضعاف الموقف السعودي وتكبده العديد من الخسائر في الأرواح والماديات، هذا بخلاف استهداف المملكة دوليًا بسبب الانتهاكات الممارسة فوق التراب اليمني، التي يرجع كثير منها إلى التحركات الأحادية الإماراتية.
كذلك فتح قنوات اتصال مع نظام الأسد في سوريا، ومقاومة الضغط السعودي في واشنطن وفي باريس للإطاحة السريعة بالرئيس السوري، في الوقت الذي تشير فيه التقارير إلى وقوف أبو ظبي حجر عثرة أمام محاولات الرياض لتأسيس تحالف سني إسلامي في اليمن لتولي زمام الأمور في أعقاب الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح في الأشهر الأولى من الربيع العربي.
أبو ظبي في مأزق
بعد التصريحات التصعيدية للقاهرة تجاه إثيوبيا، باتت أبو ظبي في موقف حرج، وعليها أن تختار بين القاهرة وأديس أبابا، خاصة بعدما جاءت مواقف الدول العربية الأخرى داعمة وبقوة للموقف المصري فيما جاء البيان الإماراتي رماديًا، حريصًا على مسك العصا من الوسط.
الفتور في العلاقات مع القاهرة والميكافيللية سالفة الذكر ربما يدفعان الجانب الإماراتي إلى تغليب مصالحه التي تتطلب الوقوف على مسافة واحدة من البلدين، مصر وإثيوبيا، وهو ما بات واضحًا من تصريحات مسؤوليها التي تعزف على وتر الالتزام بالقانون الدولي والحرص على مصالح الدول الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا).
الضربات التي تلقتها الدولة الخليجية في القارة الإفريقية خلال الآونة الأخيرة ستجعلها أكثر تمسكًا بعلاقتها بالحكومة الإثيوبية، لا سيما أنها تتمتع بعلاقات جيدة مع بقية دول القارة فيما عدا طرفي النزاع في أزمة السد، لكن هل تقبل القاهرة هذا الموقف الضبابي من الدولة التي من المفترض أنها على رأس حلفائها؟
لا شك أن العلاقات القوية التي تجمع بين السيسي ومحمد بن زايد، ستدفع الطرفين إلى الحفاظ على منسوبها الأدنى على الأقل بما لا يهدد مستقبلها بالشكل الكامل، وعليه ستتعاطى القاهرة مع الموقف الإماراتي بشيء من التحفظ على أمل إعادة النظر فيه مع الضغوط العربية الأخرى، لا سيما أن أبو ظبي كانت الداعم الأكبر لنظام السيسي منذ 2013 وحتى اليوم، فكانت قاطرة الثورة المضادة التي أطاحت بنظام الإخوان وجاءت بالسيسي على رأس السلطة.
وفي الجهة الأخرى ربما تجد الإمارات في الانخراط العربي مع الموقف المصري في هذا الملف، تهديدًا لمصالحها المستقبلية في الشرق الأوسط من جانب، وعلاقاتها بدول المنطقة من جانب آخر، وهو ما قد يدفعها لإعادة النظر في سياستها تجاه أديس أبابا، على الأقل يكون هناك نوع من التوازن وأن تتخلى نسبيًا على الدعم الكامل لحكومة آبي أحمد، في محاولة لتسكين الموقف العربي ومغازلته.