لم تنجح جالية عربية كانت أو أجنبية في مصر على مر تاريخها كما نجح السوريون، ففي أقل من عشر سنوات استطاعوا فرض أنفسهم كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد المصري، اقتصاديًا واجتماعيًا، حتى باتوا رقمًا صعبًا لا يمكن تجاهله مهما كانت التحديات.
جولة سريعة بالسيارة من بداية شارع الهرم بمنطقة الجيزة مرورًا بشارع فيصل الموازي له وصولًا إلى ميدان الحصري بمدينة السادس من أكتوبر، تلفت أنظارك الأسماء السورية المحفورة على لافتات المحال التجارية والمطاعم والمتاجر العامة، كأنك في دمشق أو حلب وليس في بلد يبلغ تعداد سكانه 100 مليون مواطن.
حالة انصهار من الطراز الفريد حققها السوريون المقيمون في المحروسة، في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات، فالمواطنون الفارون من ويلات الحروب ولهيب الدمار والخراب، بعضهم وقتها كان لا يملك نفقات سفره، أصبحوا اليوم من كبار المستثمرين ورجال الأعمال.
وبينما كان الفلسطينيون ومن بعدهم العراقيون يتغنون بأنهم الأكثر امتزاجًا بنسيج المجتمع المصري، نظرًا لأعدادهم الكبيرة في بعض الأوقات والاندماج السريع مع المزاج الشعبي المصري، إذ بالسوريين يسحبون البساط من تحت أقدامهم، بعدما انخرطوا بصورة لافتة للنظر في المجتمع، مصاهرةً واقتصادًا.
وتتباين أعداد الجالية السورية في مصر، بين 242 ألف شخص بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وقرابة نصف مليون وفق رواية السلطات المصرية، لكن الرقم ربما يكون تراجع خلال السنوات القليلة الماضية بسبب بعض التعقيدات في استخراج الإقامات والحصول على تصاريح العمل، هذا بجانب القلق من تسييس هذا الملف ما قد ينعكس سلبًا على السوريين المقيمين في بلاد النيل.
بيت العيلة
في منطقة سكنية لا تبلغ مساحتها بضعة كيلومترات تسمى “بيت العائلة” تقع بحي المستقبل بالسادس من أكتوبر، يستقر عدد كبير من السوريين، يصل عددهم أكثر من 3 أضعاف المصريين، وهو ما جعل البعض يطلق على تلك المنطقة “بيت العائلة السوري”.
استهداف تلك المنطقة على وجه الخصوص يعود لعدد من الأسباب على رأسها انخفاض أسعار الإيجارات بها مقارنة بغيرها في المناطق المجاورة، هذا بخلاف توافر كل الخدمات بها، رغم ما تشهده بين الحين والآخر من فوضى أمنية وانتشار للبلطجة على حد قول أبو مازن.
ويضيف أبو مازن، ذلك الستيني السوري الذي يملك أحد المطاعم الصغيرة بـ”بيت العائلة”: “أتينا إلى هنا منذ 2015 بعد رحلة تنقلنا فيها بين عدة دول عربية، لكن في النهاية وبعد تفكير طويل عقدنا العزم على مصر نظرًا لوجود الكثير من الأقارب والجيران والمعارف بها”.
ويوضح أبو مازن الذي لديه 4 أبناء أن هناك طقوسًا شبه يومية يمارسها السوريون في تلك المنطقة والمناطق المجاورة بهدف الإبقاء على حالة الدفء العائلي والأسري، حيث تتجمع العديد من الأسر في حديقة ما أو مكان مفتوح يتبادلون أطراف الحديث ويتناقشون في آلامهم ومتاعبهم، ويسعى كل منهم إلى تخفيف أعباء الآخرين قدر المستطاع.
أما نورهان تلك الفتاة السورية التي لم يتجاوز عمرها 27 عامًا، فتشير إلى أنه وبعد مرور قرابة 7 سنوات في مصر، ما عادت تشعر بالغربة، وأن الحنين للوطن الذي كان ممزوجًا بالألم بالأمس بات اليوم حنين الغربة وفقط دون أي متاعب، لا سيما بعدما باتت “نصف مصرية” على حد قولها، إذ تزوجت من شاب مصري وأنجبت منه ولدين يحملان الجنسية المصرية.
وتؤكد الفتاة السورية أن المجتمع المصري من أكثر المجتمعات كرمًا وتقبلًا للوافدين، لا سيما العرب، وتابعت “لم يتعامل معنا المصريون يومًا على أننا غرباء في بلادهم، وعلى العكس من ذلك كثير منهم قدم لنا يد المساعدة وسعى لتوفير مسكن وفرص عمل هذا بخلاف المساعدات العينية والمادية الأخرى التي كانت تقدم لنا من بعض الجمعيات الأهلية هنا”.
مصر.. الأكثر احتواءً
“لم نسكن في خيام أو مناطق إيواء ولا داخل كانتونات مخصصة بعيدًا عن الحيز السكاني لأبناء البلد كما هو الحال في بعض الدول لكننا نعيش وسط المصريين بلا أي تفرقة”، هكذا قارنت رؤى بين حال أبناء وطنها المقيمين في مصر وأحوالهم في الدول الأخرى، لافتة إلى أن أوضاع السوريين في مصر قد تكون الأفضل بين الدول التي يوجد بها لاجئون بصفة عامة.
وتضيف الفتاة السورية التي تعمل بأحد مراكز التجميل في منطقة الهرم بالجيزة، أنها ورغم كل المعاناة التي تواجهها سواء في الحصول على إقامات أم تصاريح عمل، فإنها لم تشعر يومًا بالغربة في مصر، لافتة إلى أنها وجدت احتضانًا كبيرًا من جيرانها حتى إنهم وفروا لها فرصة عمل.
وتوضح أنها حين أرادت استئجار شقة (عقار) للإقامة مع والدتها، لم تجد أي مشكلة، “أبرم صاحب العقار عقدًا سنويًا بقيمة إيجارية أقل من السوق نسبيًا، رأفة بوضعيتنا الصعبة حين قدمنا إلى مصر”، على أن يرفع تلك القيمة بعد استتباب الأمر وتوفير فرص عمل والحصول على دخل ثابت.
علاوة على أن الحكومة المصرية سعت قدر الإمكان من أجل تذليل العقبات أمام تعليم السوريين، ففتحت المدارس أمامهم بالمجان أو برسوم رمزية، وهو ما ساعد الكثير من الطلاب السوريين على الالتحاق بالجامعات والمدارس المصرية رغم الصعوبات التي يواجهونها والخاصة بالمناهج وطرق التدريس التي تختلف كثيرًا عن نظيرتها في سوريا.
نجاح اقتصادي باهر
في سنوات معدودة استطاع السوريون أن يحققوا نجاحات باهرة على المستوى الاقتصادي، لم يحققوها في وطنهم الأم، وهو ما أثار العديد من التساؤلات عن سر هذا النجاح في هذا الوقت القصير في وقت يعاني فيه المصريون من البطالة وقلة فرص العمل، فضلًا عن فشل العديد من المشروعات الاستثمارية الصغيرة.
خبرء الاقتصاد سواء من المصريين أم السوريين أرجعوا هذا النجاح إلى سببين: الأول: يتعلق بالوضعية الصعبة التي وجد السوريون فيها أنفسهم منذ 2011 وحتى اليوم، التي كان لا بد من التكيف معها من خلال ترسيخ أقدامهم في البلاد المضيفة لهم، وإثبات أنهم قادرون على النجاح وأنهم ليسوا عالة على المجتمعات الأخرى كما كان يردد البعض على عدد من الجاليات الأخرى.
أما السبب الثاني فيعود إلى طبيعة المواطن السوري نفسه، تلك الطبيعة المحبة للعمل، الراغبة في إثبات النجاح مهما كانت الصعاب، وبدمج هذين السببين كانت النتيجة المنطقية هذا الكم الهائل من المشروعات الناجحة التي سحب السوريون من خلالها البساط من تحت أقدام أصحاب البلد في المقام الأول.
أبو باسل.. صاحب أحد المطاعم التي تقدم الأكل السوري والشامي عمومًا في منطقة فيصل بالجيزة، يقول: “حين قدمت إلى مصر قبل 7 أعوام عانيت كثيرًا لتوفير إيجار العقار الذي أسكن فيه أنا وأولادي، وللأسف لم تسعفنا المفوضية التي ذهبنا إليها لتسجيل أسمائنا على أمل الحصول على أي مساعدات لكن كل هذا دون جدوى”.
وأضاف “ما كان أمامي إلا العمل للتعايش مع هذا الوضع الجديد الذي استقر في يقيني أنه سيطول نسبيًا، وبالفعل شرعت في العمل داخل أحد المطاعم المصرية وبعد عامين فقط، ذاع صيتي لأنني كنت أقدم المأكولات السورية في هذا المطعم، فطلب مني بعض الزبائن أن أفتح مطعمًا للأكلات السورية وفقط.. ومن هنا كانت بداية الفكرة”.
لجأ أبو باسل إلى بعض أقربائه من السوريين المقيمين في مناطق مجاورة له، وطلب منهم مساهمات مادية لافتتاح المطعم، ولم يتأخروا عليه، وبالفعل استطاع في أقل من شهرين أن يكون لديه مطعم خاص به، استطاع أن يكون الأشهر في أقل من عام واحد فقط.
وتحول الشاب الأربعيني السوري من موظف في أحد المطاعم المصرية إلى صاحب سلسلة مطاعم يعمل بها أكثر من 30 شاب مصري وبعض الجنسيات الأخرى، محققًا أرباح كثيرة يصفها قائلًا “لو كنت في دمشق أو حلب ما كانت أستطيع أن أحقق تلك الأرباح”.
وتشير التقديرات إلى أن إجمالي الاستثمارات السورية في مصر تتجاوز 800 مليون دولار، بينما ذهب آخرون إلى أن القيمة أكبر من ذلك بكثير، إذ لا يسجل السوريون أعمالهم أو يسجلونها تحت اسم مصري، فيما يقدر عدد رجال الأعمال السوريين العاملين في المحروسة قرابة 30 ألف، ساهموا مع أول عام لهم في المحروسة 2012 في تأسيس 565 شركةً برأس مال قدره 164 مليون دولار، ثم ارتفع هذا العدد في العام التالي إلى 1254 شركة، برأس مال قدره 201 مليون دولار، بحسب وزارة الاستثمار المصرية.
ويمتلك رجال الأعمال السوريين المقيمين في مصر، بحسب تقرير سابق لـ”نون بوست” رأس مال يقدر بـ23 مليار دولار، ومن أشهر المجالات الاستثمارية التي يعمل بها السوريون، صناعات الإسفنج والورق والصناعات البلاستيكية والمنتجات الغذائية والنشاط التجاري والخدمي.
تساؤلات عن مليارات المفوضية
رغم أن عدد الجالية السورية في مصر يقترب من نصف مليون مواطن، فإن من يحصل على مساعدات من المفوضية السامية لحقوق اللاجئين عدد قليل جدًا، هذا في الوقت الذي توجه فيه الآلاف من أبناء سوريا لمقر المفوضية لتقديم طلبات للحصول على تلك المساعدات التي لا تكفي لأيام معدودة في ظل ارتفاع الأسعار الجنوني في البلاد.
أبو باهر ستيني سوري لديه 4 أبناء، اثنان منهم يعانيان من أمراض مزمنة، يقول إنه منذ قدومه للقاهرة قبل عدة سنوات كان يحمل ما يسمى “كارت غذائي” من المفوضية، هذا الكارت يسمح له بالحصول على معونات غذائية شهرية تعينه على حياته، وكان بجانب ذلك يعمل في أحد محال التسويق العقاري.
إلا أنه فجأة ودون سابق إنذار تم سحب الكارت منه، دون إخباره بالسبب، رغم أن ظروفه لا تسمح بذلك، ما دفعه لتقديم طلبات ومناشدات عدة لكنها باءت بالفشل، ليجد نفسه مرغمًا على مضاعفة ساعات العمل حتى يستطيع علاج ولديه، فيما يحرص الولدان الآخران على العمل من أجل مساعدة الأسرة.
وهنا يتساءل أبو باهر: أين تذهب مليارات الدولارات التي تتلقاها المفوضية كتبرعات باسم اللاجئين السوريين؟ مستطردًا: هناك حالة من غياب الشفافية والموضوعية في عملية توزيع تلك الأموال، كون معظمها يتم توجيهه إلى جمعيات أهلية بعينها تتولى بمعرفتها توزيع تلك المساعدات على اللاجئين، بينما هي لا تعرف عنهم شيئًا، ما يجعل هناك شبهة مجاملات في عملية التوزيع بما ينعكس سلبًا على آلاف الأسر المحتاجة، على حد قوله.
معاناة مستمرة
في الوقت الذي حقق فيه الكثير من السوريين نجاحات اقتصادية متميزة هناك شريحة كبيرة من الجالية تعاني من أوضاع معيشية صعبة، لا سيما الآونة الأخيرة منذ تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، فقد أغلقت الكثير من المشروعات التي كان يعمل بها سوريون وعرب.
هذا بخلاف حزمة اللوائح والقوانين البيروقراطية التي تجعل التصريح بعمل السوريين مسألة غاية في الصعوبة وتحتاج إلى تراخيص رسمية، الأمر الذي يدفع الكثير من أبناء الجالية للعمل في الأعمال الحرفية الخاصة التي لا تحقق العائد المادي الكافي.
وقد دفع هذا الوضع المعيشي الصعب العديد من الأسر إلى الدفع بأبنائها الصغار للعمل في المحال وبعض المتاجر، حتى باتت عمالة الأطفال السوريين أحد أبرز المشكلات التي تواجه الجالية في مصر، نظرًا لتجريم القانون المصري عمل الطفل ما دون 16 عامًا.
ثم تأتي أزمة تصاريح الإقامة لتتصدر قائمة التحديات التي تواجه السوريين، إذ يواجه معظمهم صعوبات كبيرة من أجل الحصول على تلك التصاريح، فضلًا عن المراجعات الأمنية المتتالية وهو أمر مرهق جدًا، ما دفع بعض العائلات السورية إلى إلحاق أبنائها في المدارس المصرية من أجل الحصول على الإقامة ومن ثم الحصول على إقامة أفراد الأسرة بالتبعية، رغم أن هذه الطريقة هي الأخرى تواجه بعض العراقيل، فهناك بعض المدارس تتطلب إقامة الوالد من أجل السماح للابن باللحاق بالمدرسة.
وقد أوقعت تلك الإجراءات البيروقراطية في الحصول على الإقامة السوريين ضحايا للعديد من عمليات النصب والابتزاز من بعض المصريين الذين يوهمونهم بإمكانية توفير تلك الإقامات بمبالغ تتراوح بين 20 و30 ألف جنيه (1300 – 1900 دولار)، إذ تنتهي معظم تلك العمليات بالنصب.
وبين الحين والآخر قد تطفو على السطح مسألة “التوظيف السياسي” للوجود السوري في مصر، وفقًا لمنسوب التوتر في المنطقة، والعلاقات بين القاهرة وجيرانها، لكنه التوظيف الذي لا ينعكس على الجالية في الداخل، التي استطاعت أن تمتزج بالمجتمع المصري بشكل تجاوز كل التوقعات، حتى بات من الصعب التفرقة بين المصري والسوري.