برزت الحضارة الإسلامية قبل قرون، مازجة بين العقل والروح لتتميز عن كثير من الحضارات السابقة، ذلك أن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، الذي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وبالتالي تنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية.
أسهمت الجامعات العلمية في بناء النهضة الإسلامية، وتبلورت عن ذلك طفرة علمية وعمرانية لم يشهد العالم القديم لها مثيلًا في العصور الوسطى أو عصور الظلام في أوروبا الغربية.
كما أنارت الجامعات للعالم القديم ظلمات الجهل ولا تزال منارات مضيئة إلى اليوم، فلا عجب أن تصنف جامعة القرويين في المغرب كأقدم جامعة في العالم، وهي أول مؤسسة أكاديمية تمنح شهادة في الطب.
من هنا مرَّ ابن خلدون وابن رشد
منذ نحو 12 قرنًا من تأسيسها على يد امرأة عظيمة تسمى فاطمة الفهرية، ولا يزال إشعاع هذا المعلم التاريخي في مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب وعاصمته الإدارية سابقًا، حيث لا تزال جامعة القرويين تؤدي دورها كواحدة من أقدم الجامعات في العالم، ودخلت موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأول جامعة في العالم لم تتوقف عن العمل إلى اليوم، باعتبارها السبّاقة في اختراع الكراسي العلمية المتخصصة والدرجات العلمية في العالم.
مرَّ منها ابن خلدون، وابن رشد، والشريف الإدريسي، وموسى بن ميمون، وليون الأفريقي، وكذلك الفقيه المالكي أبو عمران الفاسي، وابن البناء المراكشي، وابن العربي، وابن رشيد السبتي، وغيرهم كثير.
ثم تحولت جامعة القرويين من مسجد صغير إلى منشأة ضخمة متعددة المرافق بفضل عمليات التوسيع والترميم الكثيرة، ابتداء بالأدارسة ووصولًا إلى الدولة العلوية.
امرأة جمعت بين الزهد والغنى
قبل حوالي قرن من إنشاء جامعة الأزهر، بنيت جامعة القرويين عام 245 هجري الموافق لعام 859 ميلادي، على يد فاطمة الفهرية، وهي ابنة مهاجر وتاجر ثري ينحدر من عرب الحجاز، اسمه محمد بن عبد الله الفهري.
بعد وفاة الرجل قررت ابنته بناء جامع يقتصر على العبادة، لتقرر فيما بعد إنفاق ثروتها على توسعته ليتحول من مسجد صغير إلى جامعة كبيرة، وبفضل عناية الدول المتعاقبة على حكم المغرب، تطورت الجامعة لتصبح رافدًا علميًّا ينهل منه طلاب المعرفة في شتى التخصصات، من طب وفلسفة وعلوم طبيعية وفلك وغيرها.
يفيد كتاب “جامعة القرويين تمنح أول إجازة في الطب” لصاحبه محمد زين العابدين، أن هذه الشهادة العلمية منحتها الجامعة لعبد الله بن صالح الكتامي، في العام 603 هجري الموافق لعام 1207 ميلادي، وذلك على يد الخليفة الموحدي أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الملقب بالناصر. وسلمت هذه الإجازة بحضور القاضي الموثق عبد الله طاهر إلى جانب الأطباء ضياء الدين المالقي الملقب بأبي البيطار، وأبي العباس بن مفرج المعروف بالنبطي، وأبي عمر أحمد بن محمد بن الحجاج الملقب بالإشبيلي.
نواة الثورة
علاوة على مهمتها العلمية، أدت جامعة القرويين دورًا بارزًا في المسار السياسي للمغرب، على مر القرون الماضية، بالنظر إلى المكانة التي كان يحظى بها علماء الجامعة لدى العامة، والذين شكلت بيعتهم للملوك حدثًا جوهريًّا في تثبيت الحكم.
من هنا قاد المولى الرشيد -المؤسس الفعلي للدولة العلوية- تمرده ضد الطاغية اليهودي هارون بن مشعل، الذي كان حاكمًا على منطقة تازة، فطغى وتجبّر على العامة من مسلمين ويهود، فكان طموحه تأسيس “دولة إسرائيلية” بتازة ويحتل بعدها مدينة فاس ومن ثم يبسط سيطرته على باقي البلاد، إلى أن أتى المولى الرشيد ليضع حدًّا نهائيًّا لمخططه هذا.
كما كانت جامعة القرويين نواة للثورة ضد الاستعمار الفرنسي الذي احتل البلاد في الفترة الممتدة بين عامي 1912 إلى 1956، وعملت على إحباط المخططات الاستعمارية الهادفة إلى إشعال فتيل النزاع بين العلماء والملوك، لدرجة أن المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي كان يتمنى إقفالها، ويكرر عبارة: “متى سيغلق هذا البيت المظلم”، لأن منبر الجامع شكّل حينها آلية لتشجيع الفدائيين ومصدرًا لإطلاق شرارة الاحتجاجات المطالبة بإنهاء الاحتلال.
العريقة الأكبر
جامعة الأزهر في القاهرة هي المؤسسة العلمية الإسلامية العريقة الأكبر في العالم حاليًّا، وتعتبر ثاني أقدم جامعة عالمية ما زالت موجودة إلى يومنا هذا، فقد كان صحن الجامع موطن حلقات العلماء للتدريس في شتى التخصصات.
تأسس جامع الأزهر عام 359 هجري الموافق لعام 972 ميلادي، ليصبح منبرًا لتعليم المذهب الشيعي الذي كان مذهب الدولة الفاطمية التي تأسست في مصر في نفس توقيت بناء المسجد الأزهر، وصلى فيه الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ثاني خلفاء الدولة الفاطمية صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان سنة 361هـ/ 972م، إيذانًا باعتماده الجامع الرسمي للدولة الجديدة، ومقرًّا لنشر الدين والعلم في حلقات الدروس التي انتظمت فيه.
توجيه سياسة الحكم
بعد قيام الدولة الأيوبية على يد صلاح الدين الأيوبي، الذي هزم الفاطميين وطردهم من مصر عام 567هـ/ 1174م، عادت مصر تحت حكم الخلافة العباسية مرة أخرى، وعمل صلاح الدين على نشر المذهب السنّي بدلًا من المذهب الشيعي الذي كان سائدًا في البلاد، وبطبيعة الحال تم طمس رسوم الدولة الفاطمية في جامع الأزهر وإحلال مذهب أهل السنّة.
تصاعدت مكانة الأزهر في عهد المماليك، إذ اتجهت همة سلاطين الدولة إلى إعمار الجامع، ورعاية علائه وطلابه بالمنح والهبات والأوقاف، لم يحظَ هؤلاء الأزهريون فقط بفرصة للمشاركة في النهضة العلمية والاجتماعية والثقافية في الدولة فقط، بل كان لهم أيضًا دور أساسي في توجيه سياسة الحكم.
نابليون تودّد للأزهريين
بعدها حصل ركود نسبي في عهد الخلافة العثمانية، بعدما قام السلطان سليم الأول بترحيل عدد من علماء الأزهر إلى أستانة، والتي كانت عاصمة للدولة العثمانية آنذاك.
كان لشيوخ الأزهر تأثير قوي في نفوس العامة، وهو ما أدركه نابليون بونابرت بعدما وصول بحملته إلى مصر عام 1798، فكان أن حاول التودد إلى طائفة منهم، منتهزًا الفرصة تلو الأخرى للاجتماع بهم لتداول مواضيع علمية حول القرآن، ليشعرهم باحترامه للإسلام ونبيه، فراح الشيوخ يشيعون ذلك بين الناس ويثنون عليه.
بين الأزهر والقرويين قصة خالدة شاهدة على العصور، تحكي عن همة المسلمين إبان نهضتهم العلمية والفكرية عندما كانوا يشيّدون صروح العلم وأبراج المعرفة، في وقت كانت أوروبا تائهة في الظلام.