في الوقت الذي يجري فيه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، زيارةً قد تكون الأخيرة له على رأس وزارة الخارجية الإيرانية، لدول قطر والعراق وعُمان، انتشر في وسائل الإعلام الإيرانية تسجيل صوتي مسرب يعود لمقابلة سابقة أجراها الوزير ظريف مع سعيد ليلاز، الصحافي المقرب من حكومة الرئيس حسن روحاني، يتحدث فيها عن الصعوبات التي واجهها خلال فترة عمله في وزارة الخارجية، محمّلًا قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني مسؤولية الكثير من الإخفاقات التي واجهها، إلى جانب الضغوط التي تعرض لها.
وفي المقابلة وجّه ظريف انتقادات غير مسبوقة لهيمنة الحرس الثوري على سياسة إيران الخارجية، قائلًا إن بعض هذه السياسات، بما في ذلك تلك المتعلقة بسوريا، كانت بسبب “إرادة روسيا في الحرب السورية”، وقال إن النظام السياسي في طهران فضّل “ميدان” الحرس الثوري على “الدبلوماسية”.
أثارت هذه المقابلة العديد من ردود الأفعال في الداخل الإيراني، حيث أوردت وكالة تسنيم للأنباء، المقربة من الحرس الثوري، عن مصادر لم تسمِّها قولها إن وزير الخارجية محمد جواد ظريف يعتزم تقديم اعتذار علني عما قاله في التسجيل الصوتي المسرب.
وردًّا على نشر المقابلة التي استمرت لثلاث ساعات، أعلن مكتب المدعي العام في طهران عن رفع دعوى قضائية ضد الوزير ظريف، كما طلبت لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى استدعاء الوزير ظريف، وجاء في بيان مدعي عام طهران، الذي نشرت وكالة أنباء فارس نسخة منه، أن “التهمة الرئيسية في هذه القضية هي تقديم معلومات سرية عن البلاد لأفراد غير مؤهلين”، وشدد البيان على “الملاحقة الجنائية لوكلاء ونواب الحادث”، مضيفًا أنه “تم إصدار الأوامر اللازمة للأجهزة الأمنية لتحديد أسباب الجريمة وطريقة ارتكابها”.
صراع الأجنحة داخل النظام
إن مظاهر الصراع الداخلي الإيراني الذي يطفو على السطح مرة أخرى، في ظل افتقاد القيادة الكارزمية المؤثرة التي امتلكها سليماني، والتي كانت تستطيع كتم تذمر إيران الدولة، خاصة إن سليماني كان يتمتع بعلاقات مميزة مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، لا يتمتع بها سلفه إسماعيل قآني؛ هذه الصراعات ظهرت بشكل جلي في التصعيد الأخير لأنشطة أذرع الحرس الثوري في اليمن والعراق. إن القوة التي راكمها الحرس الثوري عبر عقود سيصعب دحرها أو الحد منها من قبل قوى الدولة الإيرانية، والتي باتت تستخدم تكتيكات جديدة للحد من نفوذ الحرس الثوري.
نفهم في هذا السياق المحاولات التي احتضنها العراق للتقريب بين إيران والسعودية، ومحاولات قطر للتوسط بين دول الخليج العربية وإيران، كما نفهم محاولات أوروبا والولايات المتحدة لإظهار بعض المرونة في المحادثات مع إيران لتعزيز حظوظ إيران الدولة.
الدبلوماسية الإيرانية كانت قد استفادت من دور سليماني في العراق وسوريا، من أجل رفع سقف الطموحات الإيرانية في الاتفاق النووي.
في هذا التسجيل الصوتي المسرب، كان أبرز ما وجهه ظريف هو انتقادات بين السطور لقادة الحرس الثوري، وكان الهدف من هذه الانتقادات هو إرسال رسالة للمجتمع الدولي، وتحديدًا الأطراف المتفاوضة في فيينا، بأن هناك تيارًا معتدلًا في إيران، يبذل جهودًا حقيقية في تحقيق الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، بعيدًا عن سلوكيات الحرس الثوري وحلفائه المثيرة للقلق، وهو ما يؤسس لفكرة أن هناك انقسامًا حقيقيًّا بين المعتدلين والمتشددين. ومن خلال تركيزه على فكرة الخلاف المستمر بينه وبين سليماني، أراد أن يؤكد على فكرة أخرى مفادها إن سليماني يمثل مشروع التطرف، وظريف يمثل مشروع الاعتدال، وإن على القوى الدولية أن تؤسس تحركها الخارجي حيال إيران على أساس هذا الانقسام.
رغم تأكيد الوزير ظريف في لقاءات سابقة على أن الدبلوماسية الإيرانية كانت قد استفادت من دور سليماني في العراق وسوريا، من أجل رفع سقف الطموحات الإيرانية في الاتفاق النووي المبرم في أبريل/ نيسان 2015، إلا إنه عاد ليوضح في التسجيل الصوتي المسرب إنه رغم هذا التنسيق كان سليماني حريص على أن يطّلع ظريف على ما يريد أن يطّلع عليه فقط، وليس كل شيء، وهنا أصل الخلاف، هذه الطريقة في التعامل أوقعت إيران في مشاكل كثيرة مع الآخرين. كما أشار الوزير ظريف أنه بعد توقيع الاتفاق النووي، لم يتمكن أبدًا من إقناع سليماني، كقائد لساحة المعركة الإقليمية الإيرانية، بتقديم تنازلات أو مساعدة للدبلوماسية، وشدد بنبرة مؤسفة على أن أعلى هيئات صنع القرار في إيران، بإشارة إلى خامنئي، تتبع في نهاية المطاف “الميدان” وليس “الدبلوماسية”.
الخلاف في وجهات النظر الخارجية
الخلاف الآخر الذي تحدث عنه الوزير ظريف هو أنه في السنوات الأخيرة تبنى المرشد الأعلى نموذج “الاستدارة نحو الشرق”، وتحديدًا الصين وروسيا، وثماره التعاون الإيراني الروسي في سوريا و”وثيقة التعاون الإيرانية الصينية التي تبلغ مدتها 25 عامًا”، اللذان أصبحا بالنسبة إلى خامنئي بديلًا فاعلًا عن إعادة إحياء الاتفاق النووي، حيث أرسل خامنئي رسائل سرية عديدة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل شهرين من وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السلطة، عبر رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، قائلًا “إن استراتيجية إيران لن تشهد أي تغيير مع روسيا مع وصول الإدارة الديمقراطية الجديدة”، وفي هذا الإطار يتحدث الوزير ظريف عن هيمنة روسيا على الدبلوماسية الإيرانية في سوريا والقوقاز، وإن توجه خامنئي نحو روسيا ليس نتاج إرادة، بل نتاج الفرض.
التسجيل الصوتي المسرب، ورغم ردود الأفعال التي أثارها في الداخل الإيراني، وتحديدًا من قبل قادة الحرس الثوري، إلا إنه بالمقابل قد يخدم النظام سياسيًّا.
وقال الوزير ظريف إن الحجة القائلة بأن سليماني أدخل بوتين إلى الحرب في سوريا غير صحيحة، ومضى موضحًا أن بوتين وافق على لقاء سليماني بعد أن اقتنع بإمكانية سقوط نظام بشار الأسد.
ومع ذلك يمكن القول إنه رغم كل الانتقادات التي وجهها الوزير ظريف لسلوكيات الحرس الثوري، إلا إن خلاف ظريف وسليماني حول سياسة إيران المتمثلة في “مناهضة الاستكبار”، لا يمكن اختزاله في ثنائية معتدلة ومتطرفة. ظريف بالطبع له أذواق مختلفة عن الحرس الثوري في التعامل مع الخارج، وكما قال في كتابه “السفير”: “إن القيام بثورة لا يعني إصدار المدافع والبنادق، وإنما إصدار القيم”، وهي الأفكار ذاتها التي يعبّر عنها النظام مرارًا وتكرارًا، عندما وضع استراتيجية المقاومة الثقافية موضع التطبيق.
إن التسجيل الصوتي المسرب، ورغم ردود الأفعال التي أثارها في الداخل الإيراني، وتحديدًا من قبل قادة الحرس الثوري، إلا إنه بالمقابل قد يخدم النظام سياسيًّا، كون هذا التسجيل سيخلق صورة مشوشة أمام الخارج حول طبيعة المستوى الذي وصل إليه صراع الأجنحة داخل النظام الإيراني، ويبدو إن تسريب هذا التسجيل جاء ليشكل محاكمة تاريخية للقيادة الإصلاحية في إيران، وإظهارها بمظهر ضعف أمام الرأي العام الإيراني. فالجهود التي يبذلها خامنئي اليوم من أجل إعادة هندسة الحياة السياسية الإيرانية، في إطار يحفظ استمرارية مؤسسة ولاية الفقيه والنظام السياسي، قد تدفع به للتضحية بالكثير من الأسماء المحسوبة على التيار الإصلاحي. فبعد نجاحه بإقناع نجل مؤسس الجمهورية الإسلامية حسن الخميني بالانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية، يبدو أن الاختيار وقع هذه المرة على الوزير ظريف الذي تصاعدت حظوظه الانتخابية بعد انسحاب الخميني، وهو ما يضع التيار الإصلاحي أمام حالة تاريخية صعبة للغاية.