بعد التفوق الذي حققته المسيّرات القتالية التركية مؤخرًا في أكثر من ساحة صراع، أثيرت حفيظة روسيا وبعض الدول الغربية بسبب التفوق التركي في مجال الطائرات المسيّرة، ونادت حكوماتها بضرورة الإسراع من أجل تقليص الهوة بينهم وبين تركيا في هذا النوع من الصناعات العسكرية.
كما دعت الحكومة الألمانية لضرورة تحديث نظامها للدفاع الجوي، بعد نجاح المسيّرات التركية في تخطي وتدمير العديد من الأنظمة خلال المعارك.
وفي أثناء الجدل الدائر في برلمانات الدول الغربية، وبعد عقد أوكرانيا صفقة جديدة بخصوص شراء طائرات من طراز بيرقدار أكينجي الحديثة، أعلن وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي، مصطفى ورانك، عن أن الطائرات المسيّرة التركية ستحلق قريبًا في الأجواء الأوروبية، لحقه تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نية السعودية أيضًا امتلاك أسراب من مسيّرات شركة بايكار التركية.
وفي وقت سابق من يوم السبت الماضي، أعلن وزير الدفاع البولندي، ماريوس بلاشزاك، أن بلاده سوف توقّع رسميًّا على عقد لشراء 4 أسراب من المسيّرات التركية بمجموع 24 طائرة من طراز بيرقدار تي بي 2 سيتم تسليمها عام 2022، لتكون بولندا بذلك أول دولة من حلف شمال الأطلسي “الناتو” التي تملك المسيّرات التركية.
وسيشكل وجود المسيّرات التركية بالقرب من الحدود الروسية تحديًا كبيرًا للعلاقات الاستراتيجية بين كل من روسيا وتركيا، ومن المتوقع أن يؤدي حيازة بولندا للمسيّرات التركية إلى ارتدادات واسعة قد تضر بالمصالح المشتركة بين البلدين.
تركيا من أهم ثلاث دول في صناعة المسيّرات
بعد حظر الدول الغربية بيع السلاح لتركيا خلال حرب قبرص عام 1974، انتهجت تركيا نهجًا جديدًا منذ ثمانينيات القرن الماضي من أجل تعزيز صناعاتها الدفاعية بإمكانات محلية خالصة، وذلك من خلال تسخير جميع إمكاناتها الحكومية لتشجيع القطاع الخاص من أجل النهوض بهذه الصناعة، لتنجح بالتحول التدريجي من اعتمادها الكامل على الخارج إلى الاكتفاء الذاتي، ومن ثم الالتحاق بركب المصدرين لهذه الصناعات.
وشهدت السنوات الـ 5 الماضية إطلاق نحو 350 مشروعًا جديدًا في الصناعات الدفاعية، ونتاجًا لهذه الجهود دخلت 7 شركات دفاعية تركية قائمة أفضل 100 شركة صناعة دفاعية في العالم، بحسب المجلة الأميركية Defense News Top 100 لعام 2020.
وارتفع عدد شركات الصناعات الدفاعية في تركيا من 56 إلى أكثر من 1500، وزادت صادرات أنقرة في هذا القطاع من 248 مليون دولار إلى أكثر من 3 مليارات دولار.
تصنّع تركيا اليوم نوعين من الطائرات المسيّرة
وخلال العقدين المنصرمين قطعت تركيا شوطًا طويلًا في صناعة الطائرات المسيّرة، ما مكّنها من الاستغناء بالكامل عن استيراد هذا النوع من الطائرات من أميركا و”إسرائيل”، وأصبحت من بين أهم 3 دول في صناعة المسيّرات.
وطورت الشركات التركية بالتعاون مع القوات المسلحة التركية طرازات مختلفة من المسيّرات، ذات قدرات حربية واستخباراتية مميزة.
وتصنّع تركيا اليوم نوعين من الطائرات المسيّرة: طائرات مراقبة يطلق عليها اختصار İHA، وطائرات مسلحة تعرف بـ SİHA، وتنتج عدة شركات تركية هذه الأنواع من المسيّرات، حيث تنتج شركة توساش نوعين مهمين هما عنقاء وأكسونغر، فيما تنتج شركة بايكار المملوكة لصهر الرئيس أردوغان كلًّا من بيرقدار تي بي 2 وبيرقدار أكينجي.
وأثبتت مسيّرات بيرقدار تفوقها بشكل ملحوظ لما تملكه من قدرات قتالية وتكنولوجية، خصوصًا بعدما حلقت في ساحات المعارك التي خاضها الجيش التركي حديثًا.
أثبتت كفاءتها في ساحات القتال
لعبت المسيّرات التركية دورًا مهمًّا في تعزيز مكانة تركيا العسكرية، ومكنتها من حسم عملياتها العسكرية بأقل الأضرار والتكاليف، محدثة بذلك صخبًا عالميًّا.
فقد نجحت المسيّرات التركية بتخطي الحظر الجوي المفروض في الشمال السوري، وعملت ضمن مجموعات لقصف وتدمير الأهداف العسكرية للنظام السوري في مدينة إدلب ومحيطها، وأظهرت في ليبيا كفاءة عالية في التصدي لهجوم قوات خليفة حفتر، وتمكنت من قلب سير المعركة، وساعدت في فك الحصار عن العاصمة طرابلس، وأخيرًا وليس آخرًا فقد ألحقت المسيّرات التركية خسائر فادحة في صفوف ومعدات الجيش الأرميني، في إقليم قره باغ الأذربيجاني.
وتعد شركة بايكار التركية المصنعة لطائرات بيرقدار المسيّرة من أهم اللاعبين في مجال صناعة المسيّرات، على المستويين المحلي والعالمي. فقد بدأت بمرحلة تطوير النموذج الأولي من طائراتها المسيّرة من نوع بيرقدار تي بي 2 عام 2007، وبحلول يناير/ كانون الثاني 2012 بدأت الشركة بالإنتاج، وأجرت أولى تجارب الطيران في 29 أبريل/ نيسان 2014.
حيث سلمت أول 6 طائرات للقوات البرية التركية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، وفي يونيو/ حزيران 2015 تم تسليم 6 طائرات أخرى، لتدخل بذلك مسيّرات بيرقدار الخدمة رسميًّا في القوات التركية منذ ذلك الحين.
وبالإضافة إلى مسيّرات بيرقدار تي بي 2، دخلت مسيّرات شركة توساش من طرازي عنقاء وأكسونغر المسلحتين، إلى جانب الطائرات المسيّرة غير المسلحة، ضمن عتاد القوات المسلحة التركية.
وتتمتع المسيّرات التركية بقدرتها على التحليق حتى ارتفاعات شاهقة لأكثر من 24 ساعة بشكل متواصل، والتخفي من الرادارات، وحملها لصواريخ وقنابل ذكية فعالة، فضلًا عن إمكاناتها المتطورة لتزويد قواعد الجيش بصور وفيديوهات آنية، ترصدها خلال تحليقها فوق أرض المعركة، وإمكاناتها العالية على المناورة وإصابة الأهداف الثابتة والمتحركة.
دول المنطقة تتسابق لاقتنائها
عقب النجاحات التي حققتها المسيّرات التركية في الصراعات العسكرية بدءًا من سوريا مرورًا بليبيا وانتهاءً بحرب تحرير إقليم قره باغ الأذربيجاني، وإسهامها الكبير في القضاء على العديد من عناصر تنظيم حزب العمال الكردستاني؛ نجحت الطائرات المسيّرة التركية من ترك بصمتها في ميادين المعارك، حيث فتحت أعين دول المنطقة على إمكاناتها الهائلة، ما دفع ببعضها إلى التسابق من أجل حجز أسرابها الخاصة من المسيّرات التركية.
وباعت شركة بايكار التركية مجموعة من طائرات بيرقدار بي تي 2 لقطر أوائل عام 2017، وفي عام 2019 فازت الشركة بعقد توريد 6 طائرات أخرى من الطراز نفسه إلى أوكرانيا إضافة إلى ذخيرة مسلحة، وبلغت قيمة الصفقة وقتها قرابة الـ 69 مليون دولار.
وكالة الأناضول كانت قد اوردت أن صربيا والمجر قد عبّرتا عن رغبتهما في شراء هذا الطراز، وهناك أنباء عن نية بريطانيا التخلي عن الطائرات المسيّرة الأميركية من نوع بروتيكتر كبيرة الحجم، واستبدالها بالتركية من نوع بيرقدار أكينجي الأكثر كفاءة والأرخص ثمنًا.
تنافس أسعار الطائرات المسيّرة التركية نظيراتها العالمية.
وفي وقت سابق من هذا العام، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن المملكة العربية السعودية طلبت شراء طائرات مسيّرة من تركيا. ويذكر أن تونس قد اشترت طائرات مسيّرة من طراز عنقاء، وسط أنباء عن قرب توقيع المغرب على صفقة لشراء مسيّرات تركية.
ومؤخرًا، وبحسب وكالة الأنباء الرسمية البولندية PAP، التي نقلت عن وزير الدفاع قوله إن بلاده ترغب بشراء 24 طائرة مسيّرة من تركيا، من طراز بيرقدار تي بي 2 المسلحة، وأضاف أن هذه المسيّرات فعالة للغاية، حيث “أثبتت جدارتها في الحرب شرق أوروبا، كما تم استخدامها بالشكل ذاته في منطقة الشرق الأوسط”، لافتًا إلى أنه من المنتظر التوقيع على اتفاقية الشراء بين البلدين، خلال زيارة الرئيس البولندي أندريه دودا إلى تركيا، الأسبوع المقبل.
وتنافس أسعار الطائرات المسيّرة التركية نظيراتها العالمية، ففي حين تبلغ تكلفة طائرة أميركية واحدة من طراز ريبر 16 مليون دولار، تبلغ تكلفة بيرقدار تي بي 2 التركية 6 ملايين دولار فقط، الأمر الذي يتيح للدول الأقل ثراءً إمكانية تعزيز قواتها العسكرية بطائرات متطورة، أثبتت كفاءتها في مختلف الميادين والظروف.
روسيا ممتعضة
سيشكل وجود المسيّرات التركية بالقرب من الحدود الروسية تحديًا كبيرًا للعلاقات الاستراتيجية بين البلدين. ومن المتوقع أن يؤدي حيازة كل من أوكرانيا وبولندا لهذا النوع من السلاح إلى ارتدادات واسعة تضرب وتضر بالمصالح المشتركة بين البلدين.
ومما لا شك فيه أن روسيا منزعجة من تواجد المسيّرات التركية بالقرب من حدودها وعلى مختلف الجبهات التي تخوضها، كما تخشى على سمعة دفاعاتها الجوية بعد فشلها للتصدي لهجمات المسيّرات التركية في سوريا وليبيا وأذربيجان.
ومن الواضح وجود منافسة عسكرية تجري بالخفاء بين السلاح الدفاعي الروسي من ناحية، والهجومي التكتيكي التركي من الناحية الأخرى، أثبت فيها التركي تفوقًا ملحوظًا لغاية الآن.
وترى روسيا المساعي الأوكرانية للاستفادة من قدرة المسيّرات التركية التي أثبتت كفاءتها ضد الأسلحة الروسية في سوريا وليبيا وقره باغ، وخاصة ضد الأنظمة الدفاعية من نوع تور وبانتسير، حيث تخطط لاستخدامها في استعادة أراضيها المحتلة من قبل روسيا في منطقة دونباس، من خلال تطبيق السيناريو نفسه الذي استخدمته أذربيجان في معارك تحرير إقليم قره باغ.
وتعد مسيّرات بيرقدار التركية الورقة الرابحة في مواجهة روسيا، خصوصًا بعد تفوقها في معارك سابقة على السلاح الروسي، الأمر الذي يثير قلق موسكو، لا سيما مع وقوف أميركيا وبعض الدول الأوروبية إلى جانب أوكرانيا في صراعهما الدائر حاليًّا.
ومن جانبها تستشعر أنقرة الفخ الأميركي في أوكرانيا لضرب الشراكة التركية الروسية في ملفات دولية وإقليمية، لذلك فإنها لن تغامر بعلاقتها التجارية والعسكرية والاستراتيجية مع روسيا، بل تسعى لتشكيل ضغط من نوع معين على الساحة الأوكرانية من أجل تحقيق مكاسب في ملفات تشكل أهمية قصوى لها، وخصوصًا في شمال سوريا، لمنع قيام كيان كردي انفصالي على الحدود التركية، وفي ليبيا من أجل تهيئة المناخ للحفاظ على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، التي قطعت الطريق على اليونان وحلفائها من تقييد تركيا في شرق المتوسط.