على مدى تاريخ النضال الفلسطيني، ظهرت المقاومة بأشكل مختلفة، ففي البداية اتخذت شكلًا فرديًا وعفويًا قبل أن تتخذ نمطًا أكثر تنظيمًا، وذلك مع بدء الثورة المعاصرة عام 1965، وما تبعها من تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وظهور الفصائل المحسوبة عليها، وما تلى ذلك من حضور الفصائل الإسلامية نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
في ملف “سلاح المقاومة”، نتعرف على تاريخ الكفاح المسلح في فلسطين، ونسرد تاريخ أبرز التنظيمات والحركات التي حملت السلاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبدايةً نلقي الضوء على محاولات المقاومة التي تنوعت أدواتها وأشكالها بين الأعوام 1917 و1948.
الفلاحون: خط الدفاع الأول
على الرغم مما اتسمت به المقاومة الفلسطينية من العفوية، مع بدء التدفق اليهودي إلى فلسطين في الفترة ما بين عامَي 1882-1917، إلا أنها عُرفت بالشراسة في وجه الممارسات الصهيونية التي كانت تتعامل بعداء مطلق تجاه الفلسطينيين، وتنفذ هجمات على أراضيهم وممتلكاتهم. ففي عام 1886 تحول الاحتكاك بين العرب واليهود المستوطنين إلى اصطدام مسلح، عندما هاجم فلاحون مهجرون اليهودَ الذين استولوا على أراضيهم في قريتي الخضيرة والملبس، أو ما يعرف بمستوطنة بتاح تكفا، وهي أول مستعمرة يهودية على الأراضي الفلسطينية.
مرت المقاومة الفلسطينية بعدة مراحل وتطورات ما بين السلاح والوسائل الشعبية والإضرابات والعصيان المدني، في محاولات مستميتة كان يقوم بها الفلسطينيون للمحافظة على أرضهم.
وتشير الوقائع إلى انتهاج الفلاحين مقاومة مادية ضد المهاجرين اليهود، من خلال رفضهم بيع أراضيهم طوعًا، وفي الوقت ذاته تصدى الفلاحون للسماسرة في عدد من القرى القريبة من مدينة طبريا عام 1901، والذين أتوا لإحكام سيطرتهم على أراضٍ سربتها لهم عائلة سرسق اللبنانية.
الانتداب البريطاني: الانتفاضات سيدة الموقف
مع بداية الانتداب البريطاني عام 1917، وتصاعد التدفق اليهودي إلى فلسطين، مرت المقاومة الفلسطينية بعدة مراحل وتطورات ما بين السلاح والوسائل الشعبية والإضرابات والعصيان المدني، في محاولات مستميتة كان يقوم بها الفلسطينيون للمحافظة على أرضهم من “السرطان” الصهيوني الذي كان يتمدد جغرافيًّا على حسابهم، مستغلًّا التسهيلات البريطانية.
ويذكر التاريخ النضالي هبّات عفوية دون تخطيط مسبق كانتفاضة موسم النبي موسى، التي يرجعها مؤرخون كأولى الانتفاضات الشعبية في فلسطين المحتلة، وانطلقت شرارتها في موسم النبي موسى السنوي في مدينة الخليل، قبل أن تتسع لاحقًا لتشمل القدس، وأسفرت عن مقتل 5 من المستوطنين مقابل استشهاد 4 فلسطينيين.
واستمرت حينها المواجهات والاصطدامات بين المهاجرين الصهاينة والفلسطينيين، حتى انتفاضة يافا عام 1921، التي هاجم بها الفلسطينيون بالمئات المستعمرات اليهودية أهمها بتاح تكفا ورحوبوت، وبحسب الإحصاءات الرسمية البريطانية انتهت الانتفاضة بمقتل 47 مستوطنًا واستشهاد 48 فلسطينيًّا.
واتخذت المقاومة في هذه المرحلة أشكالًا متعددة، منها التعبئة الصحفية والثقافية، والعمل السياسي والنضالي عبر مطالبات باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع المهاجرين الصهاينة من التوطن والتملك، وإنشاء الجمعيات والأحزاب لتعبئة الشعب ضد المخاطر الصهيونية، ولبناء الحياة السياسية والاقتصادية بما يكفل القدرة على المقاومة.
وكان الصهاينة عام 1928 قد نظموا احتفالات غير عادية عند حائط البراق، وجاء الرد العربي بإنشاء “جمعية حراسة المسجد الأقصى”، بمبادرة من الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وانتشرت هذه الجمعية في كل أنحاء فلسطين، وأسست فروعًا لها.
الثورة الكبرى: إضراب وسلاح
في بداية هذه المرحلة، ظهرت عصابة الكف الأخضر أواخر عام 1929، وبدأ الحديث يتواتر عن تشكيل خلايا مسلحة وجمع التبرعات لها، لكن موضوع العمل المسلح لم يبرز إلى حيز العمل إلا حين خرج القسّام في أواخر عام 1935 إلى الريف ليبدأ الثورة، وقد اختار منطقة جنين، وصب اهتمامه في الاتصال بالفلاحين والعمل على إشراكهم في الثورة المسلحة.
وعندما لم تتحقق مطالب الحركة الوطنية بوقف الهجرة، وما رافقها من ازدياد في حركة الاستيلاء على الأراضي، والتحديات الصهيونية سواء بتدفق الأسلحة أو بإنشاء حرس للمستعمرات وحاميات صهيونية، دخل النضال الفلسطيني مرحلة الإضراب الكبير والثورة الكبرى.
قوات الثورة قامت بما يزيد عن 9 آلاف عملية خلال عامي 1938 و1939.
وما إن عم الإضراب فلسطين، حتى انفجرت الثورة المسلحة وعادت جماعة القسّام إلى الميدان، وكان الهدف من الإضراب شل الحياة السياسية والاقتصادية، أما الثورة المسلحة فقد هدفت إلى إثارة الذعر في المعسكرات البريطانية والتجمعات الصهيونية، وتخريب ما أمكن تخريبه من المرافق والمصالح البريطانية والصهيونية.
واستمرت الثورة المسلحة، واستطاعت في ربيع 1938 أن تقود كل فلسطين، وأن تنشئ مراكز وقيادات، وأن تفرض سلطة الثورة على الريف وقطاعات واسعة من المدن، وحينها اعتمد مقاتلو الثورة أساليب حرب العصابات الحديثة، فكانوا يتجمعون في زمر صغيرة، ويبادرون بالهجوم ثم ينسحبون، وينظمون الكمائن التي تشل تحركات العدو.
وذكرت المصادر البريطانية أن قوات الثورة قامت بما يزيد عن 9 آلاف عملية خلال عامي 1938 و1939، وعلى طول فترة وجوده على أرض فلسطين، نسف الانتداب البريطاني ما يزيد على 5 آلاف منزل وحانوت، انتقامًا من الفلسطينيين وبحثًا عن الأسلحة في المدن والقرى، وما رافق ذلك من ممارسة شتى أنواع التعذيب والضرب، حيث أنشأ الانتداب خلال هذه الفترة 14 معتقلًا.
النكبة: مقاومة العرب أيضًا!
بوقوع النكبة عام 1948، واحتلال الأرض وتهجير الفلسطينيين بقوة السلاحَين الصهيوني والبريطاني، تأثرت المقاومة الفلسطينية بالعامل العربي والتفاعلات الدولية سلبًا وإيجابًا، مجسدة بذلك منعطفًا حادًّا امتزج فيه البعد الفلسطيني مع العربي، وانتزع من سياقه الفردي إلى روحه القومية مع بدء مرحلة الصراع العربي الصهيوني.
وفي سبيل المواجهة، أنشأت الهيئة العربية العليا غرفة قيادة العمليات، وقسمت فلسطين إلى 7 قيادات عسكرية، وأخذت تتكون القوى العسكرية في هذه الظروف تحت ضغط العجلة، ونتيجة الحاجة إلى وجودها، ودون إعداد مسبق.
وكانت تجهيزات كل القوى العربية -بما فيها الفلسطينية- بدائية ومحدودة، وكانت بمجموعها من حيث العدد قليلة إذا قيست بالمهمات المنوطة بها، ورغم ذلك فقد كان هناك ما يمنعها من تحقيق أهدافها حتى الدفاعية، ومن ذلك عدم التنسيق بينها، لأن القوات النظامية كانت تتبع لقياداتها السياسية، وكانت الأهداف السياسية للدول المشاركة غير موحدة.
وتشير الوثائق إلى أن الهيئة العربية العليا قدمت 5396 بندقية فقط، و499 مدفعًا رشاشًا، و364 بندقية تومي، و309 مسدسات، و124 مدفعًا مضادًّا للمصفحات، و66 مدفعًا مضادًّا للدبابات، و33 مدفع هاون، وصناديق من المتفجرات والقنابل والألغام الجاهزة، وكميات من الذخيرة.
في عام 1959 بدأ ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني الراحل، التحرك من أجل تأسيس تنظيم مسلح لمقاومة الاحتلال من مصر، حتى تمكن عام 1965 من القيام بذلك.
وفي المقابل، كانت القوات الصهيونية المسلحة في الميدان أكثر عددًا في كل مراحل الحرب، إذ بلغت 151 ألف جندي، وأكثر قدرة على الحشد والهجوم والدفاع، وهكذا خسر شعب فلسطين الحرب، وخسر العرب المعركة.
ما بعد النكبة وحتى الثورة المعاصرة
شهد النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، عمليات فردية فلسطينية، أو ضمن مجموعات صغيرة تشكلت من وسط اللاجئين، كما ظهرت مجموعات أكثر اتساعًا وتنظيمًا تتبع رموزًا وهيئات، مثل الحاج أمين الحسيني والهيئة العربية العليا التي كانت برئاسته، أو كانت محسوبة على الإخوان المسلمين الذين نشطوا خصوصًا في قطاع غزة.
ففي الخمسينيات، بدأ الفدائيون الفلسطينيون بشنّ هجمات على الاحتلال من قواعدهم في مصر وقطاع غزة بتشجيع مصري، وأخذت الهجمات تتصاعد بعد نجاح الضباط القوميين في الإطاحة بالنظام الملكي في مصر عام 1952.
ومع الزمن، بدأت المقاومة تأخذ طابعًا أكثر تنظيمًا، ففي عام 1959 بدأ ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني الراحل، التحرك من أجل تأسيس تنظيم مسلح لمقاومة الاحتلال من مصر، حتى تمكن عام 1965 من القيام بذلك، وفي عام 1964 أعلنت جامعة الدول العربية عن تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني تحت قيادة أحمد الشقيري.
إن الدفع باتجاه تأسيس الكيانات والفصائل الفلسطينية، لتصبح أجساماً حقيقية أكثر تنظيماً وقدرة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بكيانات سياسية وعسكرية، لم يغيّب المقاومة الفلسطينية الشعبية عن الساحة، بل استمرت لاحقًا بالمقاومة والتظافر مع الجهود المنظمة في الانتفاضات والهبات الفلسطينية منذ مطلع الثمانينيات وحتى يومنا الحالي، على الرغم من تغيُّر الرؤى الثورية لبعض التنظيمات والقوى السياسية.