لم تكن ألمانيا بمعزل عن باقي الدول الأوروبية الاستعمارية التي استعمرت دول إفريقيا ومارست فيها أبشع أنواع الظلم، فرغم عدم بقائها في مستعمراتها أكثر من 25 سنة، فقد تركت وراءها جرائم كبرى بقيت خالدة في أذهان الأفارقة إلى الآن، من ذلك ما حصل من جرائم في ناميبيا التي ما زالت ماثلة في مخيلة شعبها، خاصة الإبادة الجماعية للهيرو والناما، لكن العديد من الوقائع يجهلها الألمان.
الاعتراف بأول إبادة جماعية في القرن العشرين
أخيرًا، اعترفت ألمانيا بارتكاب أعمال إجرامية في ناميبيا، فبعد أكثر من قرن اعترفت برلين بأن الإبادة الجماعية التي حصلت في حق شعبي هيريرو ناما ارتكبتها خلال فترة استعمارها لهذا البلد الإفريقي، فقد قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس أول أمس الخميس في بيان: “اعتبارًا من اليوم سنصنف رسميًا هذه الحوادث بما هي عليه في منظور اليوم: إبادة جماعية”.
هذا الاعتراف جاء بعد مفاوضات طويلة وشاقة استمرت أكثر من خمس سنوات بين البلدين، وتركزت حول الأحداث التي جرت إبّان الاحتلال الألماني للبلد الواقع في جنوب غرب إفريقيا، وكانت ألمانيا قد احتلت ناميبيا في الفترة الممتدة بين 1884 و1915.
في ذات البيان قال هايكو ماس: “في ضوء المسؤولية التاريخية والأخلاقية لألمانيا، سنطلب الصفح من ناميبيا ومن أحفاد الضحايا عن الفظائع التي ارتكبت بحقهم”، مضيفًا “في بادرة اعتراف بالمعاناة الهائلة التي لحقت بالضحايا، فإن ألمانيا ستدعم إعادة الأعمار والتنمية في مشاريع متنوعة عبر برنامج مالي قيمته 1.1 مليار يورو، لكن ماس شدد على أن هذه الأموال ليست تعويضات على أساس قانوني.
يوجد في العديد من المتاحف والجامعات والمؤسسات الألمانية المختلفة، مجموعات من العظام التي استخدمت في التجارب العلمية ذات الطبيعة العرقية
يتعلّق هذا الاعتراف بالجرائم التي راح ضحيتها أبناء شعبي هيريرو وناما، فبين عامي 1904 و1908 قُتل عشرات الآلاف من أبناء الشعبي في مذابح ارتكبها مستوطنون ألمان واعتبرها العديد من المؤرخين أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
تعود تلك الأحداث إلى سنة 1904، تحديدًا حين ثار شعب هيريرو ضد المستوطنين الألمان بعد أن حرمهم هؤلاء من أراضيهم وماشيتهم، وعهدت ألمانيا القيصرية بمهمة إخماد الانتفاضة إلى الجنرال الألماني لوثار فون تروثا الذي أمر بإبادة الأهالي، بعد سنة واحدة انتفض شعب ناما فلقوا المصير نفسه.
أمر لوثار فون تروثا الجنرال لوتار فون تروتا في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1904 بقتل أي فرد من شعب قبيلة هيريرو، سواء كان مسلحًا أم من دون سلاح، يملك غنمًا أم لا، وقال: “لن أقبل أبدًا بالمزيد من النساء والأطفال”.
أسفرت هذه المذابح بين سنوات 1904 و1908 عن مقتل ما لا يقل عن 65 ألفًا من أبناء شعب هيريرو البالغ عددهم 80 ألف شخص، ونحو 10 آلاف من أبناء شعب ناما البالغ عددهم 20 ألف شخص، أي أن قوات ألمانيا النازية أبادتهم بالكامل.
في تلك الأحداث، استخدمت الإمبراطورية الألمانية التي عُرِفَتْ باسم “الرايخ الألماني” تقنيات إبادة جماعية لإخماد هذه الانتفاضات، شملت ارتكاب مذابح جماعية والنفي إلى الصحراء حيث قضى آلاف الرجال والنساء والأطفال عطشًا وإقامة معسكرات اعتقال أشهرها معسكر “جزيرة القرش”.
حشدت القوات الألمانية في معسكر “جزيرة القرش” كل المقاومين الذين ينتمون إلى هيريرو وناما، وتقول العديد من المصادر التاريخية إن هذا المعتقل هو الأول في التاريخ الحديث، حيث سجن فيه قرابة 3 آلاف شخص، لم يبق منهم على قيد الحياة إلا 10%، وتمّت إبادة الباقين، وحتى من نجوا بعد هروبهم عبر الصحراء فقد فقدوا كل ممتلكاتهم الشخصية وسبل العيش، نتيجة ذلك أن الهيريرو أصبحوا لا يمثلون إلا 7% من سكان ناميبيا اليوم وقد كانوا في بداية القرن العشرين يمثلون 40%.
سرقة بقايا بشرية
لم تكتف ألمانيا الاستعمارية بذلك فقط، فخلال الفترة القصيرة التي قضتها في هذه الدولة الإفريقية، ارتكبت جرائم كبرى أخرى، منها سرقة بقايا بشرية، تم جلبها إلى ألمانيا بصورة غير قانونية، ثم تم تخزينها في مجموعات أنثربولوجية.
هذه البقايا البشرية المنهوبة (جماجم وهياكل عظمية وبقايا شعر)، من ضحايا الألمان في ناميبيا، تم استعمالها في العديد من الدراسات العلمية من جانب علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وكان الألمان يعتقدون أن السكان الأصليين لناميبيا مجرّد أتباع لا حقوق لهم.
بالكاد يتناول بعض المدرسين موضوعات التاريخ الاستعماري الألماني، وإن حصل ذلك فبإجهاد منهم
إلى الآن، يوجد في العديد من المتاحف والجامعات والمؤسسات الألمانية المختلفة، مجموعات من العظام التي استخدمت في التجارب العلمية ذات الطبيعة العرقية، وكان أغلب هذه التجارب تهدف إلى إثبات أن الأوروبيين البيض يتفوقون على باقي الأعراق، وخاصة تفوق الألمان على باقي الأجناس كما روّج لذلك أدولف هتلر، ووفقًا لبعض الباحثين، فإن هذه التجارب أصل النظريات العنصرية الأولى لألمانيا النازية.
يذكر أن ألمانيا، بدأت قبل سنوات في إعادة بعض البقايا البشرية إلى ناميبيا، في إطار سعيها لمحو مسؤوليتها عمّا حصل في مستعمراتها السابقة، بعد أن أصبح من غير المقبول من الناحية القانونية أو الأخلاقية بقاء هذه الممتلكات على ذمة السلطات الألمانية لوقت إضافي.
الأعمال الفنية المنهوبة
بالإضافة إلى البقايا البشرية، تم سرقة أشياء أخرى تعود للناميبيين منها الأعمال الفنية دون احترام المعتقدات الثقافية والدينية، وإحضارها إلى ألمانيا وغالبا ما تم تخزين هذه الأشياء في المتاحف ومؤسسات البحث.
توجد في المتاحف الألمانية المختلفة العديد من المجموعات الفنية الناميبية، ويقدّر عددها بما لا يقل عن 1400 قطعة، أعادت برلين عددًا قليلًا منها لناميبيا منها صليب كاب كروس المصنوع من الحجر الذي شُيّد بمبادرة من بحارة برتغاليين في ناميبيا عام 1486، وكان يشكّل وقتها دليلًا للبحارة في ساحل إفريقيا الجنوبي.
ويبرر الألمان عدم إرجاع كل القطع الأثرية إلى أصحابها، إلى نقص تمويل المتاحف، فالمتاحف الألمانية – وفق قولهم – لا تملك الوسائل الكافية لإجراء بحث حقيقي عن مصدر الأعمال الموجودة لديها والسياق الذي تم الحصول عليه فيه.
ازدواجية ألمانية
الازدواجية الألمانية تظهر من خلال الاكتفاء بتقديم بعض الأموال لناميبيا لكن دون أن تكون تعويضات قانونية، فهي لم تقرب بالتعويضات على عكس ما حصل مع اليهود، إذ التزمت الحكومة الألمانية بمقتضى الاتفاقية التي وقعتها في سبتمبر/أيلول 1952 بدفع ثلاثة مليارات مارك (1.5 مليار يورو) خلال 12 عامًا لـ”إسرائيل” باعتبارها “وارثة حقوق اليهود ضحايا المحرقة”.
كما تعهدت ألمانيا في اتفاقية لوكسمبورغ بدفع معاش شهري لكل اليهود الذين يثبتون تعرضهم للملاحقة في أوروبا من النظام النازي خلال الفترة الواقعة بين عامي 1933 و1945، ومثلت الأموال التي تعهدت ألمانيا بسدادها بمقتضى اتفاقية لوكسمبورغ ثلثي أموال التعويضات المقررة لليهود، فيما ألقت الاتفاقية مسؤولية دفع الثلث الباقي على جمهورية ألمانيا الشرقية التي رفضت دفع هذه التعويضات.
بعد سقوط سور برلين عام 1989 وزوال جمهورية ألمانيا الشرقية في العام التالي تم توقيع اتفاقية تعويضات جديدة في 29 من أكتوبر/تشرين الأول 1992 تحملت فيها ألمانيا الموحدة سداد تعويضات جمهورية ألمانيا الديمقراطية الآفلة، وبلغ عدد اليهود الجدد الذين استفادوا من هذه الاتفاقية الثانية 375 ألف شخص سددت لهم الحكومة الألمانية مبلغ 3.6 مليار يورو حتى عام 2011.
وفي سنة 2012، تم توقيع اتفاقية جديدة بين ألمانيا ومنظمة التعويض اليهودي تمنح بموجبها برلين تعويضات تناهز نصف مليار يورو لثمانين ألف ضحية جديدة لما يسمى المحرقة اليهودية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق.
الازدواجية تظهر أيضًا في مناهج التعليم، فالكثير من الطلاب الألمان لا يعرفون شيئًا عن ماضي بلادهم الاستعماري في ناميبيا، ذلك أن الكتب المدرسية الرسمية والمناهج التعليمية في المدارس الألمانية تتجاهل بشكل شبه كامل تاريخ الاستعمار الألماني.
بالكاد يتناول بعض المدرسين موضوعات التاريخ الاستعماري الألماني، وإن حصل ذلك فبإجهاد منهم، على الرغم من أن ماضي ألمانيا الاستعماري وحشي ويجب على الناشئة الألمان أن يعلموا ذلك فجرائم بلادهم لم تكن حكرًا على هتلر والعهد النازي فقط.