انزلقت الدول العربية المطبعة إلى ما هو أرذل من التطبيع السياسي والدبلوماسي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ليُصار إلى علاقات تشمل كافة مناحي الحياة الاقتصادية والرياضية والثقافية، بل وصل الأمر إلى حد التماهي والتوأمة بمجال التعليم، ما قد يسفر عن أخطر أنواع التغلغل الصهيوني في مجتمعاتنا العربية، إذ يتيح ذلك لدولة الاحتلال فرصة الولوج إلى كل بيت وكل عقل.
مؤخرًا، ظهر سفير دولة الإمارات في دولة الاحتلال محمد آل خاجة بفيديو، يجلس بين يدَي رئيس ما يُعرف بمجلس حكماء التوراة الحاخام الأكبر شالوم كوهين، حيث تلقى منه “بركة الكهنة”، قبل أن يجول السفير في تل أبيب بقصد إطلاق برنامج لتبادل الطلاب والمعلمين بين “إسرائيل” والإمارات.
ليست أبوظبي السبّاقة من فتح باب التطبيع التعليمي في المنطقة، فقد سبق إلى ذلك دول مثل مصر والمغرب، ولحق بالركب الانهزامي مملكة البحرين، وهو ما نتناوله في هذا التقرير.
نشر “الثقافة الإسرائيلية” من الإمارات
خلال زيارة سفير الإمارات لدولة الاحتلال، جرى الاتفاق بين تل أبيب وأبوظبي على إطلاق برامج لتبادل البعثات الطلابية في مجال التعليم. وذكرت حسابات عبرية أن ذلك “جاء في أول اجتماع بين وزير التعليم الإسرائيلي يوآف غالانت بسفير الإمارات العربية المتحدة محمد الخاجة”.
هذه الخطوة لم تكن الأولى، إذ إن أبوظبي سمحت في آواخر العام الماضي بافتتاح معهد تعليمي إسرائيلي، لتدريس اللغة العبرية ونشر “ثقافة الإسرائيليين” على أراضيها.
وقالت مواقع عبرية إن المعهد سيكون له عدة أفرع في الإمارات، موزعة بين دبي وأبوظبي. بدوره قال جوش ساميت، مدير المعهد، إن مؤسسته لن تقوم فقط بتدريس اللغة العبرية، ولكن أيضًا ستدرّس “الحقائق المتعلقة بالثقافة الإسرائيلية، والمطبخ الإسرائيلي المحلي، وكيفية التعامل مع الإسرائيليين وما إلى ذلك. وسيتم إحضار أفضل مدربي اللغة العبرية من “إسرائيل” إلى الإمارات العربية المتحدة للقيام بتدريب المعهد”.
وكانت هند العتيبة، مديرة الاتصالات الاستراتيجية بوزارة الخارجية الإماراتية، قد نشرت مقالًا بصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إبان توقيع اتفاقية التطبيع، أشارت فيه إلى أن “الإمارات تريد سلامًا دافئًا وحميميًّا مع “إسرائيل”، لدرجة التحاق طلبة إسرائيليين للدراسة بجامعة بن زايد، وسفر طلبة إماراتيين للدراسة في الجامعات الإسرائيلية”.
وقالت إن “الطلاب الإسرائيليين الذين لديهم فضول لمعرفة المزيد عن الإمارات ومنطقة الخليج يستحقون الدراسة في جامعاتنا.. كما ينبغي على الطلاب الإماراتيين أن يجلسوا في فصول إسرائيلية ويتعلموا مع نظرائهم في الشرق الأوسط”، مشيرة إلى ما تراه ضرورة “تفكيك التحيزات القديمة والمحرمات المضللة عبر المجتمعات، ومن قبل كل الفئات العمرية”، وأشارت إلى أن الشباب الذي “يفهم قوة السلام والفرص الاقتصادية التي يوفرها هذا الانفتاح، سوف يقودون الطريق”.
هذا الانخراط الإماراتي المتزايد تجاه عملية التطبيع، لم يلاقِ أية معارضة داخل البلاد، وهو متوقع إلى حد ما في ظل حكم أبناء زايد القمعي، إلا أن الشيخة جواهر القاسمي زوجة حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، انتقدت في الشهر الأول من هذا العام بحث بلادها مع الجانب الإسرائيلي التعاون في عدة مجالات، منها تبادل وفود طلابية ورعاية الطلبة المتفوقين والموهوبين والدراسات الأكاديمية المشتركة. وقالت في تغريدة على تويتر: “مناهجهم.. توصي بقتل العربي واغتصاب العربي”.
البحرين
البحرين بدورها كانت هي الأخرى في هذا الموقع، حيث كشفت صحيفة “جويش نيوز” أن “القائمين على أكاديمية شيموت سيقدّمون دورات لتعليم اللغة العبرية في البداية عبر الإنترنت فقط، وستكون متاحة على تطبيقات الهواتف الذكية المخصصة”.
وكُشف عن مذكرة تفاهم أبرمها مركز حمد للتعايش السلمي مع الجامعة العبرية، خلال زيارته للكيان الصهيوني أواخر عام 2020، وبموجب هذه المذكرة سيتم العمل على تبني ورعاية المركز لطلبة من الجامعة العبرية، ممن سيتم اختيارهم للمشاركة في كرسي حمد للحوار بين الأديان والتعايش السلمي في جامعة سابينزا الإيطالية.
المغرب: توأمة يرفضها
وإلى المغرب، اتفق وزيرا التعليم المغربي والإسرائيلي، منتصف الشهر الثاني من هذا العام، على إطلاق برامج لتبادل الطلاب و”توأمة مدارس ثانوية”.
وكشف وزير التعليم المغربي سعيد أمزازي أنه اتفق مع نظيره الإسرائيلي، يوآف غالانت، على إطلاق عدد من البرامج المشتركة بين الدولتين في مجال التعليم، وأوضح أمزازي أنه طُرح على جدول الأعمال التوأمة بين مدرستين ثانويتين، واحدة في “إسرائيل” والأخرى في المغرب، إضافة إلى تبادل الطلاب.
ويشمل برنامج آخر إنتاج طلاب في “إسرائيل” والمغرب لمقاطع فيديو حول تجربة التعليم في كل بلد. وتم الاتفاق أيضًا على إجراء مسابقات تعليمية باللغتين العربية والعبرية في مدارس كلا البلدين.
ووفقًا لمصادر عبرية، فإن الملك المغربي محمد السادس أعطى أمرًا بخصوص دمج التعليم حول الهولوكوست في المناهج الدراسية لبلده، ما أثار موجة ترحيب من شخصيات إسرائيلية، وأكد السادس أنه “لا بد للتعليم الجيد الذي ننشده، أن يعلم أبناءنا التاريخ برواياته المتعددة، من خلال استعراض اللحظات المشرقة في ماضي البشرية، لكن دون إغفال صفحاته الأكثر قتامة”.
التطبيع التعليمي مع الاحتلال في المغرب لاقى رفضًا شعبيًّا واسعًا، إذ وجّهت الجامعة الوطنية للتعليم، وهي كبرى النقابات التعليمية في البلاد، رسالة إلى وزير التربية الوطنية، أعربت فيها عن “رفض تجنيد نساء ورجال التعليم واستخدامهم بأي شكل من الأشكال لتمرير المشاريع التطبيعية مع الكيان الصهيوني”، رافضة “تزييف وعي الأطفال المغاربة وتحريف التاريخ الحقيقي للصراع ضد الصهيونية، باعتبارها شكلًا من أشكال العنصرية والاستيطان”.
واعتبرت الجامعة الوطنية أن ما يحدث من تطبيع تعليمي، “سيحول منظومتنا التربوية والتعليمية وبلادنا إلى مرتع لتطبيع عقول بنات وأبناء شعبنا من تلاميذ وطلبة ومتدربين ومدرسين من الأولي إلى العالي… عبر اعتماد أخطر أشكال التطبيع، وهو التطبيع التربوي”.
التطبيع التربوي المصري
كانت مصر قد سبقت الإمارات والبحرين والمغرب في خطوات التطبيع التربوي والتعليمي مع الاحتلال، عبر عدة إجراءات بدأت بالليونة في ذكر “إسرائيل” وتخفيف اللهجة تجاهها في الدروس المدرسية، بالإضافة إلى حذف دروس عن أبطال من التاريخ الإسلامي كانوا قد انتصروا في معارك كبيرة وحرروا بيت المقدس، كصلاح الدين الأيوبي.
في مقال لصحيفة “معاريف” العام الماضي، كتب جاكي حوجي، المحلل الإسرائيلي للشؤون العربية، يقول فيها إن “مناهج التعليم المصرية الحديثة باتت تنظر إلى “إسرائيل” على أنها حقيقة واقعة، ولم تعد تسميها دولة عدوة، وحين يتم عرض الخرائط الجغرافية يتم ذكر مدن بئر السبع وتل أبيب بأسمائها العبرانية، بجانب أورشليم وحيفا وغزة وعكا”.
وقال: “بمناسبة عيد الفصح الذي يحتفل به اليهود حاليَّا، ويؤرخ لخروج بني إسرائيل من أرض العبودية في مصر، فإنه حصل على نسخة من كتاب “الدراسات الاجتماعية: جغرافيا العالم وتاريخ مصر الحديث” للصف الثالث الإعدادي”.
وأكمل: “ذلك الكتاب الصادر عن وزارة التربية والتعليم المصرية لعام 2018، ويشمل 4 وحدات موزعة على 150 صفحة، يتناول الجوانب الاقتصادية المصرية، والسياسية المصرية، والصراع العربي الإسرائيلي، والمجتمع المدني المصري”.
يضيف حوجي: “لن تجدوا في الفصول المخصصة لـ”إسرائيل” أي عبارات تحقير أو تشهير تجاهها. وعندما وُصفت بعدو كان السياق مفهومًا كونه وصف معركة أو حربًا في الماضي، كما ظهرت “إسرائيل” باسمها، دون إصرار على تسميتها فلسطين، والتشكيك في وجودها”.
يُذكر أنه في عام 2016، قررت وزارة التربية والتعليم المصرية حذف درس صلاح الدين الأيوبي، القائد العسكري الذي حرر القدس ومؤسس الدولة الأيوبية، من دروس اللغة العربية بالصف الخامس الابتدائي. وقالت المتحدثة باسم وزارة التربية والتعليم أماني ضرغام: “الوزارة ارتأت أن الأجزاء المحذوفة تحرض على العنف”.
كما حذفت الوزارة اسمي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب والصحابي عبد الله بن الزبير، من درس يحكي عن “شجاعة الأخير وقت كان طفلًا أمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب”.
وبعد انقلاب عبد الفتاح السيسي، باتت المناهج الدراسية تأتي على ذكر اتفاقية السلام بين القاهرة وتل أبيب، وتذكر أهميتها في استقرار مصر.
كما احتوى كتاب جغرافيا العالم العربي وتاريخ مصر الحديث للصف الثالث الإعدادي على 4 صفحات عن عملية السلام بين مصر والكيان الصهيوني، ووصف الكتاب العلاقة بالكيان بأنها “علاقة شراكة في السلام وصداقة”.
يرى الكاتب الإماراتي المعارض أحمد الشيبة النعيمي أن الجيل من مواليد عام 2010 وما بعده هو الجيل المستهدف من التطبيع التربوي، حيث يقول في مقال له إن “هذا الجيل الذي يراد له أن يكون مجرد سخرة لخدمة المشروع الصهيوني، وفقًا للمناهج الجديدة وكل خطط التربية والتعليم المرسومة بأيدٍ صهيونية”.
وأضاف: “ولا يمكن للمجتمع أن يقف عاجزًا صامتًا أمام سرقة عقول ونفوس أبنائه ليكونوا أدوات في يد مشروع إجرامي بغيض، بل وجب على الجميع الوقوف أمامه وشحذ الهمم نحو إفشاله وطرده من مجتمعنا، وأول المسؤولين عن ذلك هي الأسرة التي هي المحضن الأول والأساسي لكل طفل”.
لطالما سعت دولة الاحتلال للدخول إلى البيوت العربية، وتحاول إعادة رسم صورتها أمام الأجيال الجديدة كدولة منفتحة لا ككيان غاصب، والمعلوم أن المجتمعات العربية تتوارث عداوة “إسرائيل” جيلًا عن جيل، وهو ما يمثل عقبة كبيرة أمام “إسرائيل”.
لا تنكر دولة الاحتلال أن معركتها مع الشعوب هي معركة وعي لا معركة سلاح فقط، وأن المشكلة مع الشعوب لا مع الأنظمة، وهنا نستذكر ما قاله بنيامين نتنياهو: “العقبة الكبرى أمام توسيع السلام لا تعود إلى قادة الدول حولنا، وإنما إلى الرأي العام السائد في الشارع العربي”.
تحاول “إسرائيل” جر المنطقة إلى التطبيع التعليمي والتربوي والثقافي لأنه الباب الأوسع لدخولها إلى عقول الأجيال الجديدة، وبهذا تستطيع تليين حدّة الخطاب تجاهها والقبول بها جسمًا طبيعيًا ضمن هذه الجغرافيا التي تلفظها منذ 73 عامًا. يعرف نتنياهو هذا، وهو يرى أن المناعة الذاتية المستديمة لدى العرب خلقت صورة ذهنية “على غرار الطبقات الجيولوجية؛ يصعب جداً التحرر منها”، بحسب وصفه، ولأجل ذلك فإنه -طبقًا له- بدون “اختراق الرأي العام العربي فإن السلام سيظل باردًا”.
بالمحصلة.. أثبتت الهبة الفلسطينية الأخيرة، التي شارك فيها أطياف واسعة من الجيل زد والشباب الناشىء على أن عمليات غسل الدماغ لم تجد نفعًا حتى لو جرت في مدينة أغرقت بالمستوطنين كاللد، فخرج شبابها الفلسطيني -الذي تعلم في مدارس وجامعات عبرية وتربى تحت سلطة الاحتلال- ثائرًا ضد “إسرائيل” وأثبت أنه ينتمي لقضيته ولم يمكن نزعها من قلبه ووجدانه، ما يعني أن الانبطاح الرسمي لا يمكنه سلب شعوب منطقتنا إرادتها ولا تزييف وعيها، ولو كان ممكنًا، لنجح الاحتلال في كي وعي الأجيال الفلسطينية.. لكنه خاب وخسئ!