في الأول من مارس/آذار الماضي رست المدمرة الأمريكية “يو إس إس ونستون تشرشل” (USS Winston S. Churchill) وجهًا لوجه أمام الفرقاطة الروسية “أدميرال غريغوروفيتش” (Admiral Grigorovich) في ميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر.
المشهد بصورته تلك كان سابقة لم تحدث من قبل، أعاد للأذهان الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي خلال الفترة من منتصف الأربعينيات حتى أوائل التسعينيات، كما أنه حمل الكثير من الدلالات التي تكشف حجم وقوة السباق المحموم بين واشنطن وموسكو على سواحل السودان.
إفريقيا خلال السنوات الأخيرة تحولت إلى ساحة كبيرة للتنافس العالمي بين القوى، فالموقع الجيوسياسي المتميز والثروات الهائلة التي تحتضنها القارة، أثارا لعاب الكيانات الدولية التي وجدت في سيطرتها على الجزء الأكبر من تلك الكعكة فرصةً سانحةً لتعزيز نفوذها الدولي، لا سيما أن القارة السمراء تشرف على ممرات الدخول والخروج لمعظم دول العالم.
ومن بين دول القارة يأتي السودان بما يمتاز به من موقع إستراتيجي ليتحول إلى مسرح عالمي لاستعراض القوى، حيث تتبارى أمريكا وروسيا لإيجاد موطئ قدم لهما في ساحل البحر الأحمر، في إطار التنافس التقليدي بينهما من جانب، ولتعزيز نفوذهما في تلك البقعة الحيوية من العالم من جانب آخر.
المستجدات التي شهدها السودان مؤخرًا منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، والتركة المثقلة التي حملتها السلطة الانتقالية الجديدة، تضع البلاد في مأزق حقيقي، فهي في أمس الحاجة لدعم كلتا القوتين، لكن هل تنجح سياسة مسك العصا من المنتصف لا سيما دون تبعات سياسية أو اقتصادية؟ وإلى أي مدى يمكن الاستمرار في تلك السياسة الجديدة؟
روسيا.. تحقيق الحلم القديم
منذ بداية الألفية الجديدة تعزز روسيا جهودها لفرض وجودها في القارة الإفريقية عبر أكثر من نافذة، نجحت في السنوات السبعة الماضية تحديدًا في إيجاد موضع قدم لها في شمال القارة من خلال الملف الليبي الذي كان بمثابة نقطة الانطلاق نحو بقية المناطق الحيوية في إفريقيا.
وبداية من خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم يضع الروس أعينهم على البحر الأحمر، آملين في البحث عن منفذ لهم تحت أي مسمى، لما يمثله هذا الشريط البحري من أهمية محورية لمصالح روسيا في القارات الثلاثة: إفريقيا وآسيا وأوروبا، وعليه لم تمل موسكو من تكثيف تحركاتها لتحقيق هذا الحلم القديم الذي طالما راود رؤساء الدولة الروسية على مدار عقود طويلة مضت، وذلك بعد فشل محاولاتهم السابقة كافة لإنشاء قاعدة لهم فوق أرض إفريقية تطل على ممر مائي بحجم وقيمة البحر الأحمر.
وقد تكللت تلك التحركات بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري بين موسكو والخرطوم لإنشاء قاعدة لوجستية بحرية روسية في بورتسودان على ساحل البحر الأحمر في ديسمبر/كانون الأول 2020، وتهدف تلك الاتفاقية إلى “الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة”، وتبلغ مدتها 25 عامًا.
الاتفاق يمنح روسيا حرية استخدام المطارات السودانية لنقل الأسلحة والذخيرة والمعدات اللازمة لدعم القاعدة، بجانب السماح بإرساء 4 سفن و300 فرد كحد أقصى في الميناء، ويعد هذا المركز البحري هو الأول لروسيا في إفريقيا والثاني خارج الاتحاد السوفيتي السابق.
تحسنت العلاقات الأمريكية السودانية بصورة كبيرة بعد إزاحة البشير عن السلطة، وفي المقابل قدمت واشنطن حزمة من المغريات للدولة الإفريقية لتعزيز الشراكة معها
ورغم ادعاء بعض وسائل الإعلام ومن بينها “العربية” بأن السلطة الانتقالية السودانية الجديدة ألغت هذا الاتفاق بضغوط من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، فإن أحدًا لم يؤكد هذا الخبر الذي نفته موسكو، وعززت نفيها بوصول سفينة حربية جديدة لها في الميناء في الأول من مايو/أيار الماضي.
السفير الألماني السابق في السودان رولف فيلبرتس الذي سبق له أن ترأس مركز معلومات الناتو في موسكو، علق على هذا الاتفاق بقوله إن روسيا “تُعرِّف نفسها على أنها ممثل حاضر في هذه المنطقة المهمة من العالم”، لافتًا إلى أنه من المسيئ لصورتها خارجيًا أن يكون لأمريكا وفرنسا والصين قواعد على البحر الأحمر فيما لا يمتلك الروس قاعدة خاصة بهم، وذلك من أجل الحفاظ على هيبة الدب وصورته الدولية.
النفوذ العسكري لم يكن الهدف الوحيد لمساعي موسكو تدشين قاعدة لها في السودان، فبحسب الصحفي العسكري الروسي ألكسندر غولز، فإن السيطرة على ثروات السودان المعدنية لا سيما الذهب، بجانب موارد الطاقة الهائلة والإمكانات الزراعية المميزة، كانت أهداف حاضرة بقوة على طاولة تحركات الروس لتعزيز نفوذهم سودانيًا، لافتًا إلى أسباب أخرى منها أن تلك القاعدة ستعزز من قدرات روسيا على “قطع طرق التجارة في حالة حدوث صراع مع الغرب”.
ومن المتوقع أن تواجه إستراتيجية الروس في السودان التي تستهدف مزاحمة النفوذ الأمريكي والصيني الذي يتصاعد يومًا تلو الآخر، معارضة قوية من المكون المدني للسلطة الجديدة، الذي يتهم موسكو بالدعم المتواصل لنظام البشير، في مواجهة الثورة.
الأمريكان.. استعادة النفوذ الإفريقي
السنوات الأربعة التي قضاها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، على رأس السلطة في بلاده، قلصت كثيرًا من النفوذ الأمريكي داخل إفريقيا، ما فتح الباب على مصراعيه أمام منافسيه الدوليين وعلى رأسهم الصين وروسيا لتعزيز وجودهم بما يمتلكونه من أدوات ضغط ورصيد كافٍ من الدبلوماسية الناعمة.
هذه السياسة أحدثت شروخات عدة في جدار الوجود الأمريكي إفريقيًا، الأمر الذي وضعه جو بايدن على قائمة أولوياته بعد توليه مقاليد الحكم، فمع الأيام الأولى لدخوله البيت الأبيض بدأ تحركاته لاستعادة حضور بلاده داخل القارة، على أكثر من مسار.
وفي يناير/كانون الثاني، أجرى نائب القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) للتواصل المدني العسكري أندرو يونج، رفقة مدير المخابرات الأدميرال هايدي بيرج، زيارة للعاصمة السودانية، الخرطوم، في محاولة لتوسيع نطاق الشراكة بين السودان والولايات المتحدة.
يسعى السودان لإنعاش خزائنه من خلال تلك العلاقة الروسية، خاصة في ظل الأرضية المشتركة بين البلدين في هذا المجال، إذ بلغت التجارة الثنائية 500 مليون دولار عام 2018
العلاقات الأمريكية السودانية تحسنت بصورة كبيرة بعد إزاحة البشير عن السلطة، وفي المقابل قدمت واشنطن حزمة من المغريات للدولة الإفريقية لتعزيز الشراكة معها، فكان رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب والتدخل لدى المنظمات المالية الدولية لإنهاء عزلة السودان الاقتصادية، هذا بخلاف إسقاط جزء كبير من الديون الخارجية على السودان الغارق في أزماته الاقتصادية طيلة السنوات الماضية.
تسعى أمريكا من خلال تحركاتها الأخيرة لاستعادة نفوذها المفقود إفريقيًا، كذلك فرض سيطرتها على الممرات المائية الأهم في القارة، هذا بجانب قطع الطريق على موسكو لتعزيز حضورها في السودان، مستفيدة بالدروس المتلقاة مما حدث في سوريا وليبيا، حيث استطاع الروس فرض كلمتهم في هذين الملفين على حساب الأمريكان.
السودان: مكاسب بالجملة.. ولكن
تنافس روسيا وأمريكا على الكعكة السودانية منح السودانيون العديد من المكاسب والأرباح في ظل الأزمة الخانقة التي تواجهها، فعلى المسار الروسي نجح الجيش السوداني في تعزيز قوته العسكرية من خلال التسليح الروسي المجاني، بجانب تنمية قدرات قوته العسكرية والبحرية البشرية من خلال توفير فرص للتدريب داخل القاعدة على منظومات متطورة، في ظل ازدياد الحاجة السودانية لهذا التسليح في هذا التوقيت الذي تواجه فيه تحديات عدة داخليًا وخارجيًا.
وعلى المستوى الاقتصادي يسعى السودان لإنعاش خزائنه من خلال تلك العلاقة الروسية، خاصة في ظل الأرضية المشتركة بين البلدين في هذا المجال، إذ بلغت التجارة الثنائية 500 مليون دولار عام 2018، ما يجعل السودان ثالث أكبر شريك تجاري لروسيا جنوب الصحراء الكبرى.
أما على المسار الأمريكي فالحوافز التي قدمتها الولايات المتحدة للسودان خلال الأشهر القليلة الماضية من المتوقع أن يكون لها تداعياتها الإيجابية على منظومة الاقتصاد، لا سيما ما يتعلق بإعادة الانفتاح على المنظمات الاقتصادية الدولية والضغط للتعاطي مع الوضعية السودانية الحرجة بشيء من المرونة.
العلاقات الجيدة مع واشنطن ربما تمثل نقطة انطلاق قوية للسودان لتعزيز حضوره دوليًا، سياسيًا وأمنيًا، بجانب المساعدة على مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية، من خلال حزمة من الاتفاقيات التي تعزز التعاون المشترك بين الجانبين، هذا بخلاف استعادة العلاقات السودانية مع حلفاء أمريكا في المنطقة عافيتها مرة أخرى بعد فترة التوتر التي شهدتها مؤخرًا، وهو ما ينعكس على الواقع الاقتصادي والمعيشي بصورة أو بأخرى.
بين كفي الرحى
رغم المكاسب المتوقع أن يجنيها السودان من خلال تقوية علاقاته مع الأمريكان والروس على حد سواء، فإن الحصاد الإيجابي لهذه المعادلة لن يستمر طويلًا في ظل رغبة كلتا القوتين في الاستئثار بالولاء السوداني منفردة، وذلك لتحقيق أجنداته من جانب وتقليم أظافر المنافس من جانب آخر.
مراقبون يرون أن السودان خلال المرحلة الانتقالية الحاليّة سيحاول جاهدًا تحقيق أقصى استفادة من صراع النفوذ الأمريكي الروسي، وأن هذا الهدف ربما يتحقق بنسبة كبيرة في ظل التوليفة الحاليّة للسلطة الحاكمة، التي تشهد تنوعًا أيديولوجيا بين مكونيها المدني والعسكري.
هذا الرأي أكده الباحث الأمريكي صموئيل راماني من جامعة أكسفورد، الذي يرى أن الخرطوم ستسعى للحفاظ على سياسة خارجية متوازنة بين واشنطن وموسكو، غير أن ذلك سيعتمد بصورة أو بأخرى على مشهد الحكم الحاليّ في البلاد والقائم على أساس تقاسم السلطة بين ذوي الخلفية الثورية والعسكرية.
يرى الأمريكان في السودان ساحة معركة واسعة النطاق في صراعهم الأكبر ضد صعود الروس الجيوسياسي في إفريقيا، لكن يبقى السؤال: هل تنجح واشنطن في إقناع الخرطوم بتقليص شراكتها مع موسكو بعد الثورة؟
راماني يشير إلى أن المكون العسكري يميل بطبيعة الحال للتقارب أكثر من موسكو، في ضوء العلاقات القوية التي تجمعهما عبر عقود، وفي المقابل فإن المكون المدني، القادم من رحم الثورة، يرى في في دعم الروس لنظام البشير خيانة للثورة، وعليه فهو أقرب إلى الجانب الأمريكي، الذي منحهم العديد من المكاسب التي رسخت حكمهم رغم القيود والتضييقات المفروضة عليهم من العسكر.
الباحث الأمريكي يرى أن الولايات المتحدة تحت حكم بايدن تسعى لإغراء الخرطوم بالتقرب من واشنطن مع استغلال الديناميكيات الجديدة في العلاقات بين البلدين، وفي الجهة الأخرى تحاول الإدارة الجديدة تمييز سياستها الخارجية تجاه روسيا عن إدارة ترامب السابقة التي وصفها الديمقراطيون بأنها كانت 4 سنوات من الخضوع لبوتين.
وعليه يرى الأمريكان في السودان ساحة معركة واسعة النطاق في صراعهم الأكبر ضد صعود الروس الجيوسياسي في إفريقيا، لكن يبقى السؤال: هل تنجح واشنطن في إقناع الخرطوم بتقليص شراكتها مع موسكو بعد الثورة؟ وفي المقابل هل تنجح روسيا في ترسيخ أركان المكون العسكري بما يسمح بالإبقاء على نفوذها داخل البلد الإفريقي بمعزل عن الضغوط الأمريكية المتوقعة؟
وفي الأخير فإن السؤال الأبرز يتمحور حول قدرة السودان على الإبقاء على سياسته المتوازنة بين واشنطن وموسكو دون الاضطرار لدفع فاتورة التخلي عن إحداهما.. تساؤلات تحمل المرحلة القادمة ملامح الإجابة عنها فيما يتعلق بالتغيرات المحتملة في خريطة السلطة السودانية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية الحالية الممتدة حتى يوليو/تموز 2022.