على غرار نظام الفصل العنصري الذي شهدته دولة جنوب إفريقيا خلال النصف الثاني من القرن الماضي، يمارس الاحتلال الإسرائيلي نظامًا عنصريًّا بحق الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتنضم بذلك جريمة الأبارتايد أو الفصل والتمييز العنصري إلى سجل جرائم “إسرائيل”، كالتهجير والتطهير العرقي وجرائم الحرب التي كان آخرها العدوان الذي شنته على قطاع غزة المحاصر، فضلًا عن جريمتها الكبرى والجوهرية التي عليها قامت دولة “إسرائيل”: الاحتلال.
ومنذ احتلال فلسطين عام 1948، وما تبعه من جرائم ارتكبها الاحتلال، كان نظام الفصل العنصري واضحًا في ممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين، وهو ما استشعره الفلسطينيون ونادت به بعض الشخصيات الحقوقية، أفرادًا لا كيانات.
ومنذ مطلع العام الحالي، شهد حراك وصف “إسرائيل” بدولة فصل عنصري توسعًا في تحركاته عالميًّا، ففي شهر يناير/ كانون الثاني أصدرت “بتسيلم”، وهي مؤسسة حقوقية إسرائيلية تعنى بحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، تقريرها “التفوق اليهودي من النهر إلى البحر يرقى إلى حد الأبارتايد أو الفصل العنصري”، الذي رفضت فيه الصورة التي يحاول الاحتلال تصديرها عن نفسه كدولة بنظام ديمقراطي.
ولاحقًا في أبريل/ نيسان، جاءت “الصفعة الكبرى” لـ”إسرائيل” بعدما نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرًا من 213 صفحة، اتهمت فيه “إسرائيل” بارتكابها جريمتَي الاضطهاد والفصل العنصري بحق الفلسطينيين، ومحاولة السياسة الإسرائيلية إلى زيادة عدد اليهود والأراضي المتاحة لهم في الأراضي الفلسطينية التي تطمع فيها الحكومة الإسرائيلية للاستيطان اليهودي. وقد لاقى هذا التقرير ردود فعل كانت الأولى من حجم الاستنكار الدولي للممارسات الإسرائيلية، مطالبة بفتح محكمة الجنايات الدولية تحقيقًا في الموضوع.
كيف تصنع “إسرائيل” عنصريتها؟
إن دراسة السلوك الإسرائيلي كنظام تمييز عنصري، يحتاج دراسة متعددة الجوانب، فهناك السلوك التشريعي للإسرائيليين ومن ضمنه قانون القومية الإسرائيلي، وهناك أيضًا قوانين تمييزية ضد فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، وأخرى ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر.
في حديثه لـ”نون بوست”، يقول أستاذ القانون الدولي في جامعة النجاح بفلسطين المحتلة، د. رائد أبو بدوية، إن هناك أوامر يصدرها الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، وهي بمثابة قوانين عسكرية إسرائيلية تميز بين السكان الفلسطينيين، وتساهم في هيمنة العرق اليهودي على الفئة الأخرى المتمثلة بالفلسطينيين، بغض النظر في الداخل المحتل أو في الأراضي المحتلة عام 1967.
تصاعد المجازر والجرائم الإسرائيلية ضد شعبنا في غزة والأغوار والجليل والنقب ويافا واللد وغيرها، والتغطية الإعلامية الضخمة التي جذبها هذا التصاعد المتلفز، سلط الضوء على طبيعة النظام الإسرائيلي القائم، بجميع مؤسساته وأذرعه.
وقبيل نكبة 48، عملت المنظمات الصهيونية على امتلاك أكبر عدد من الأراضي، واستطاعت الضغط على الانتداب البريطاني لمنح امتيازات لليهود المهاجرين على حساب الفلسطينيين -سكان الأرض الأصليين-.
وبعد النكبة، لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى سياسة تهويد الأرض الفلسطينية، وبحسب “بتسيلم” طبّقت “إسرائيل” “سياسة تهويد المكان التي تقوم على تصوّر يعتبر الأرض موردًا مخصصًا لخدمة احتياجات الجمهور اليهودي بشكل شبه حصري”.
وفي عام 2018، بدأت حكومة الاحتلال بشكل رسمي محاولة فرض قانون القومية اليهودية الذي يعتبِر، في المقام الأول، الديانة اليهودية أساسًا لمنح الجنسية والمواطنة في “إسرائيل”، وحول ذلك يشير أبو بدوية إلى أن خطورة هذا القانون القديم الجديد هو تحويله إلى “قانون دستوري وليس مجرد قانون عادي، أي رفع مستوى الفصل العنصري إلى مستوى دستوري لا يقتصر على قرار محكمة أو ما شابه”.
وعلى صعيد الضفة الغربية المحتلة، يشير تقرير هيومن رايتس ووتش إلى مجموعة القوانين المتنامية، التي تعزز وجود المستوطنين على حساب الفلسطينيين، والتوسع الهائل في المستوطنات في السنوات الأخيرة والبنية التحتية المصاحبة لها، وما أفرزه التوسع الاستيطاني من مصادرة أكثر من ثلث أراضي الضفة الغربية المحتلة، والظروف القاسية التي تشهدها والتي أدت إلى الترحيل القسري لآلاف الفلسطينيين من ديارهم، وحرمان مئات آلاف الفلسطينيين وأقاربهم من حق الإقامة، وتعليق الحقوق المدنية الأساسية لملايين الفلسطينيين.
وفي قطاع غزة المحاصر، تفرض السلطات الإسرائيلية قيودًا مشددة بدأت في أعقاب انتفاضة الأقصى عام 2000، وتمثلت في وقف التصاريح الخاصة بالعمال واقتصار الحركة إلى الداخل المحتل على فئة ضيقة، سواء المرضى أو رجال الأعمال، شريطة أن تحصل هذه الفئة على موافقة أمنية مسبقة ومقابلة قد تنتهي في كثير من الأحيان إما بالرفض وإما بالاعتقال المباشر، كما تمنع سكان قطاع غزة المحاصر من العيش في الضفة الغربية المحتلة.
وتضع سلطات الاحتلال عشرات المزاعم لعرقلة مرور السلع، عدا القيود البحرية المفروضة، ومنع مرور الصيادين لمساحات مسموح بها وفقاً للاتفاقيات والبروتوكولات المبرمة بين الاحتلال ومنظمة التحرير، وتنعكس هذه القيود بالسلب على أكثر من 4500 صياد ونحو 1000 عامل آخرين يعيلون أكثر من 50 ألف أسرة، ما يحرم الأسر الفلسطينية من مصدر رزقها الوحيد، في الوقت الذي يمارس فيه الصيادون الإسرائيليون أعمالهم بشكل اعتيادي، على مسافة ليست بعيدة عن شواطئ القطاع.
وإلى جانب ذلك كله، تجمد “إسرائيل” فعليًّا سجلّ السكان الذي تديره في الأراضي المحتلة، وتستخدم الأمن ذريعة لتحقيق مآرب ديموغرافية أخرى، وتمنع لم شمل العائلات الفلسطينية التي تعيش هناك بشكل شبه تام، وبحسب هيومن رايتس ووتش تمنح السلطات الإسرائيلية امتيازًا للمستوطنين على حساب الفلسطينيين، بما في ذلك حرية التنقل، وتخصيص الأراضي والموارد، والحصول على المياه والكهرباء وغيرها من الخدمات، ومنح تصاريح البناء.
وبينما يفترض للبرلمان أن يكون أساسًا للديمقراطية وواجهتها الساطعة، أقر الكنيست الإسرائيلي عام 2016 قانون “الإقصاء“، الذي يتيح لغالبية أعضائه إقصاء عضو في الكنيست بدواعي “تحريضه على العنصرية“، أو دعمه الكفاح المسلح ضد “إسرائيل“، ويستهدف القانون في الأساس، وفق مراقبين، الأعضاء العرب، في محاولة لمنع وجود أي صوت عربي في مركز صنع القرار.
وفي ظل ما تشهده الأراضي الفلسطينية مؤخرًا في المسجد الأقصى، وقضية تهجير أهالي حي الشيخ جراح والأحياء المقدسية الأخرى، يرى أبو بدوية أن الأحداث الأخيرة يمكن قراءتها تحت مظلة الفصل العنصري، فـ”قضية الشيخ جراح وفكرة استبدال الفلسطيني باليهودي، تندرج تحت سلسلة من التمييز العنصري في القدس الشرقية، والهدف إفراغ سكان القدس من الفلسطينيين وإحلال المستوطنين اليهود محلهم”.
وبحسب حركة المقاطعة (BDS)، فإن تصاعد المجازر والجرائم الإسرائيلية ضد شعبنا في غزة والأغوار والجليل والنقب ويافا واللد وغيرها، والتغطية الإعلامية الضخمة التي جذبها هذا التصاعد المتلفز، سلط الضوء على طبيعة النظام الإسرائيلي القائم، بجميع مؤسساته وأذرعه، وعلى العنصرية والاضطهاد والتطهير العرقي، ودفع ذلك الكثيرين لتبني مصطلح “الأبارتايد” في توصيف هذا النظام، إلى جانب الاستعمار الاستيطاني والاحتلال العسكري.
دغدغة ناعمة أم احتمالية تغيير؟
على الرغم من كل الضجة التي أحدثها تقرير هيومن رايتس ووتش، فهل يمكن تكثيف الحراك القانوني الدولي لإدانة “إسرائيل” بتهمة الفصل العنصري، أن يغير شيئًا حقًّا على أرض الواقع؟ أم أنها دغدغة ناعمة لا تتعدى حد الاستنكار والشجب الدولي، خاصة في ظل ما رآه الفلسطينيون على مر العقود من تحالف دولي وراء الكواليس، رغم الدموع الإعلامية التي تصدرها الدول لاتخاذ موقف إنساني أمام شعوبها، إضافة إلى عدم التزام “إسرائيل” بأي من قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي وغياب القوة الدولية لإنفاذه؟
“إن ردة الفعل الدولية لن تكون بالقوة نفسها فيما لو أثبتنا أن هذا ليس مجرد نظام ينتهك حقوق الإنسان، بل نظام تمييز عنصري قائم على اضطهاد الفلسطينيين بالكامل، وهو ما أثار المجتمع الدولي من أجل جنوب إفريقيا حتى تم تفكيك هذا النظام، كما أن إقناع العالم بعنصرية النظام من شأنه تزويد الفلسطينيين على الساحة الدولية والدبلوماسية الفلسطينية بأدوات سياسية مهمة جدًّا”، يقول أستاذ القانون الدولي.
يتداخل قانون التمييز العنصري مع أكثر من قانون دولي.
من جانبه، يرى المنسق العام لحركة المقاطعة (BDS) محمود النواجعة، أنه ونظرًا إلى كون جريمة الأبارتايد جريمة ضد الإنسانية، فإن دول العالم ستكون أمام المسؤولية القانونية، عدا عن الأخلاقية، للعمل لتفكيك هذا النظام العنصري، فعند ثبوت وجود نظام أبارتايد لدى دولة ما، يستوجب ذلك التزامات قانونية من كافة الدول والمنظمات الدولية الأخرى؛ أي الالتزام بالتعاون لإنهاء نظام الأبارتايد، والالتزام بعدم الاعتراف به أو المساعدة في الحفاظ عليه.
وثقافيًّا، يشير النواجعة في حديث لـ”نون بوست”، إلى أن نظام الأبارتايد يعتبر عالميًّا جريمة عنصرية خطيرة لا يجب التسامح معها، بما في ذلك من قبل المؤسسات الأكاديمية والثقافية والشركات، ما يصعّب مهمة البروباغاندا الإسرائيلية، ومحاولة التقليل من شأن الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة للقانون الدولي وحقوق الإنسان الفلسطيني.
وبينما لا يزال مجلس الأمن موصدًا أمام فلسطين المحتلة، بسبب فيتو الإدارات الأميركية المتعاقبة والمعادية لشعبنا وحقوقه، “فقد توفّر الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأجسام الأممية وآليات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، فرصًا لإدراج نظام الأبارتايد الإسرائيلي على جدول الأعمال، كما أنها تمكّن الفلسطينيين والدول الداعمة والمجتمع المدني من إعادة الاتصال بإرث الأمم المتحدة، ودورها في إنهاء الأبارتايد في جنوب إفريقيا، والبناء عليه”، يقول النواجعة.
ويتوقع المنسق العام لحركة المقاطعة أن تخلق الجهود المستدامة في الأمم المتحدة، لإنفاذ حظر الأبارتايد بموجب القانون الدولي العام، بيئةً أكثر ملاءمة للمحكمة الجنائية الدولية والمحاكم المحلية، لملاحقة والتحقيق مع المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، المرتكبة ضد الفلسطينيين.
ويتداخل قانون التمييز العنصري مع أكثر من قانون دولي، فهو يتداخل مع “القانون الدولي الجنائي” الذي أنتجته اتفاقية روما، وكذلك “اتفاقية القضاء على التمييز العنصري”، وهي اتفاقية دولية غير مرتبطة بالصراعات المسلحة.
وحتى يتم توصيف نظام دولة ما بمصطلح الفصل العنصري، لا بد أن يتم مأسسة ذلك، وهو في “إسرائيل” مطبّق في كل مؤسساتها، وتترجمه السياسات الإسرائيلية على أرض الواقع.