بدأ تدفق السوريين إلى تركيا عام 2011 هربًا من جور نظام الأسد وبحثًا عن دولة توفر لهم الحد الأدنى من البنية التحتية التي تراعي فيها الأمن والمسكن والغذاء والطبابة. وبحسب إحصائية العام الماضي، بلغ عددهم نحو 4 ملايين في الجمهورية التركية.
ولا بد مع وصول هذه الأعداد الكبيرة من السوريين إلى تركيا، أن تنشأ علاقات بين الشعبين، وفق ما تمليه طبيعة الحياة اليومية ومتطلباتها، لكن هناك ظروفًا أثرت على تلك العلاقة بمؤثرات هددّت النسيج الاجتماعي.
مراحل العلاقة بين الأتراك والسوريين
مرت العلاقة بين السوريين والأتراك بخمس مراحل، وفقًا لما جاء به بحث “مهددات الانسجام الاجتماعي بين السوريين والمجتمع التركي”، هي: الاحتواء والترحيب، الانزعاج الداخلي واللفظي، التحريض السياسي، التمييز والرفض الاجتماعي، الاستهداف المباشر.
أبرز تلك المراحل التي أثرت على الرأي العام للجمهور التركي، هي التحريض السياسي، وقد بدا واضحًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، إذ يوضح البحث أن “بعض الجهات التي تعارض سياسة الحكومة في الملف السوري أدركت تنامي حالة الانزعاج الداخلي لدى المجتمع التركي، ووجدت في هذا الانزعاج فرصة لمضايقة الحكومة التركية، لا سيما مع ظهور استحقاقات انتخابية، فعملت على إشاعة أن السياسة الحكومية التركية تجاه ملف اللاجئين السوريين غير ناجحة وأضرت بالمواطن التركي وذلك بهدف كسب شرائح جديدة من الناخبين وتقديم نفسها كجهة تتابع الشارع التركي وتهتم بمشاكله وذلك كان واضحًا في عام 2017”.
هذا الأمر تُرجم عبر التحريض على وسائل التواصل “الذي ظهر على شكل حملات منظمة تحت هاشتاغات متكررة، استخدمها أنصار بعض الأحزاب السياسية المعارضة بشكل واضح، دعوا فيها إلى طرد السوريين وإعادتهم إلى بلدهم”.
وأيضًا أصبح الوجود السوري في تركيا كما بينت الدراسة “أحد بنود البرامج السياسية لأحزاب المعارضة، استثمر في مخاوف المجتمع التركي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وعمل على تضخيمها من خلال بث العديد من المعلومات أو التهويل من شأن حجم ومصدر المساعدات التي يتلقاها السوريون”.
ويذكر البحث في البند الأخير (الاستهداف المباشر): “بدأت حالات الاستهداف المباشر تلاحظ بتواتر متزايد في أواخر عام 2019، حيث تزايدت أعداد الحوادث التي غطتها بعض وسائل الإعلام التركية أو تلك التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويؤكد بعض الخبراء تزايد حالات استهداف السوريين بالضرب أو الاعتداء عام 2020 مقارنة بالأعوام السابقة”.
ترجمة المغالطات المنتشرة عن السوريين
نتيجة لذلك، كان الدافع عند بعض النشطاء السوريين في توضيح ما يتعلق بالقضية السورية بجهود ذاتية، ومحاولة التأثير على الرأي العام التركي، حرصًا منهم على رأب الهوّة بين الشعبين وتضييق حلقة الاختلافات والمغالطات والمساهمة في توثيق حلقة المتشابهات من خلال نشر الحقائق باللغة التركية عبر منصات التواصل الاجتماعي.
السياسيون المعارضون للدولة التركية هم الذين يريدون تحريك الشارع وحشد الأتراك ضد السوريين في السوشيال ميديا
الناشط الصحفي أحمد حَمُو، له تجربة فعّالة في ترجمة بعض ما يتعلق بالقضية السورية إلى اللغة التركية، فقد وجد من مخالطته للأتراك وكذلك ما يكتبونه عبر منصات التواصل الاجتماعي، أن بعضهم لديهم معلومات مغلوطة سواء عن الثورة السورية أم عن السوريين أنفسهم وحالة اللجوء.
يقول: “هم يظنون أن كل السوريين خرجوا من دون مقاومة أو أنهم مجرد تمردوا على بشار الأسد دون سبب، هذا الأمر جعلني أشرح لهم وأنشر عن هجرة السوريين منذ الثمانينيات، وعن الخدمة العسكرية لدى نظام الأسد، وأبين لهم أن النظام يفرق بين سني وعلوي، ويعامل السوريين بطائفية، والأصل نحن عامة شعب لا يوجد لدينا هذا الأمر”.
ويبين حَمُو عبر الترجمة للغة التركية، أن هناك مغالطات أخرى وضّح حقيقتها للأتراك بأن “السوريين ليسوا كلهم سيئين، وأنهم لا يتقاضون رواتب شهرية، وأسباب إنجابهم أعداد كبيرة من الأطفال خلافًا لما تعودت عليه العائلات التركية بقلة عدد أفراد الأسرة الواحدة”، بالإضافة إلى التأكيد أن للسوريين عادات وتقاليد كما لهم (الأتراك) عاداتهم.
وبرأيه أن أسباب انتشار المعلومات الخاطئة تعود إلى أن السياسيين المعارضين للدولة التركية هم الذين يريدون تحريك الشارع وحشد الأتراك ضد السوريين في السوشيال ميديا، فالمعلومة الخاطئة تبدأ من سياسيين مؤثرين ثم تستمر في الانتشار.
لفت أنظار الأتراك
يحرص حَمُو على نشر المعلومة الصحيحة عن القضية السورية والمعتقلين باللغة التركية على منصات السوشيال ميديا على شكل فيديو بطريقة تلفت نظرهم، موضحًا “استخدم أسلوب يفهمه الأتراك لأستطيع كسب تعاطفهم معنا وإيصال المعلومة الصحيحة”.
Bu videoda Esad rejimi tarafından öldürülen 5000 çocuğun yüzünü göreceksiniz…
Aynı sayıda annenin de yüreği yanmıştır! pic.twitter.com/EwK0UjwAYu
— Ahmet Hamo (@AhmetHamou) June 15, 2020
ومن الأمثلة التي لاقت قبولًا وانتشارًا لدى الأتراك على منصة “تويتر” فيديو به 5 آلاف صورة لأطفال استشهدوا على يد نظام الأسد، يقول حَمُو: “الفيديو لاقى تفاعلًا عاليًا وتعاطفًا من الأتراك ثم تساءلوا كيف يكون نظام الأسد بكل هذه الوحشية، كما أن الكثير من الأتراك أرسلوا لي عبر الرسائل الخاصة أننا ما كنّا نعلم حقيقة الأمر”.
وفي الاتجاه الآخر، يقول أحمد إنه نشر منشورًا باللغة التركية يوضح فيه حقيقة موقف الممثلة السورية جيني آسبر بأنها داعمة لنظام الأسد، إثر زيارتها لمدينة إسطنبول والتقاطها صورة على متن سفينة “ليالي شامية” التي أدت إلى زوبعة من الجدل وإثارة ضجّة على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد لاقت تغريدة أحمد المترجمة تفاعل الأتراك بين مؤيد ورافض لوجود الممثلة المؤيدة للأسد في إسطنبول.
Suriyeli sanatçı Jenny Esber, Esad rejiminin en güçlü destekçilerinden biri.
İstanbul’a geldi ve denizin ortasında parti verdi.
Bu nasıl olabilir? Bizi öldüren, ülkemizden eden zalimin destekçileri Türkiye’ye nasıl giriş yapabilir?Gereğini yapılmasını rica ediyoruz.@EmniyetGM pic.twitter.com/M7bYfyXqGz
— Ahmet Hamo (@AhmetHamou) June 13, 2021
ويخلص أحمد إلى نتيجة قائلًا: “وجودنا على منصات مثل تويتر وفيسبوك شيء جيد لشرح قضيتنا بالأمور الصحيحة مقابل المغالطات المنتشرة بين الأتراك”.
جهود شخصية لا مؤسسية
سخّرت الناشطة السورية فداء عثمان، الحاصلة على الجنسية التركية منذ أكثر من ثلاثين عامًا، منصتها على “إنستغرام” لتوضيح بعض المعلومات التي تتعلق بالقضية السورية وثورتها باللغة التركية، وأيضًا لها نشاط يدعم التقريب بين الشعبين التركي والسوري والقواسم المشتركة بينهما بالثقافة والعادات والتقاليد.
“أقوم بالعمل على التوعية وعرض المحتوى للطرفين، من ناحية التعريف بالثقافة التركية وعاداتهم وتقاليدهم للسوريين، ومن ناحية أخرى أوضّح للأتراك تفاصيل القضية السورية وأسلوب حياتهم”.
وترى عثمان أن القضية السورية تواجه ضعفًا بالتعريف عنها لدى الأتراك، وما المساعي المبذولة إلا “جهود شخصية متفرقة تفتقد إلى العمل المؤسسي” كما تصف.
وتأسف عثمان أن فاعلية التعريف والترجمة تزداد مع الأحداث الآنية وليس بنائية تراكمية، تقول: “أغلب الأشخاص الذين أخذوا على عاتقهم التعريف بالقضية السورية هم النشطاء الذين قدموا من سوريا خلال الثورة إلى تركيا”.
محتوى ناضج
تحاول فداء التواصل مع نشطاء للعمل على التعريف بالقضية السورية والترجمة إلى اللغة التركية التي “تحتاج إلى زمن كاف ومترجمين محترفين، وتقديم محتوى جديد يستند إلى العدل وتبيان الحق”.
وقد ازداد اهتمام فداء بالترجمة بعد الهبة الفلسطينية لأحداث القدس وغزة في أواخر شهر مايو/أيار المنصرم قائلة: “التساؤل الذي خطر في بالي لماذا لا نكون منظمين أكثر ولو بمبادرات شخصية”.
تختلف فداء عن غيرها من المهرولين وراء “اللايكات والفانزات”، فهي لا تبحث عن أعداد كبيرة من المعجبين بصفحتها بقدر اهتمامها بتقديم محتوى ناضج يحقق الهدف، تقول: “سأبقى مستمرة بالحديث عن القضية السورية، ومثلما شاهدت في الفترة الأخيرة قمت بترجمة عن شخصية الناشط الشهير عبد الباسط الساروت – رحمه الله – إلى اللغة التركية وأوضحت لماذا له هذا الانتشار والمحبة من الشعب التركي”.
المعارضة التركية تشوه الحقائق
عند الانتقال من الضفة السورية إلى التركية، فإن الكاتب التركي جلال دمير يقسّم الإعلام التركي إلى قسمين: المعارض والداعم، والأخير هو الأكثر عددًا “المهتم بنقل الأخبار الصحيحة عن القضية السورية إلى شعبنا التركي، وإنتاج البرامج التي تنقل الحكايات المؤلمة والنجاحات للشعب التركي”.
لكن يشير دمير إلى أنه من ناحية أخرى ينقل الإعلام المعارض المشاكل الحاصلة بين المجتمعين ولو كانت بسيطة، التي قد تحصل بشكل طبيعي في العائلة الواحدة، يقول: “الإعلام المعارض للحكومة ينقل الأخبار القليلة التي تحصل بين الشعبين، ويكبرون حجم المشاكل ويجعلون السوريون السبب الأساسي لها، كما يلحقون وراء إشاعات مفادها بأن الحكومة التركية تظلم شعبها وتعطي حق شعبها للسوريين”، ويصف هذه الفئة قائلًا: “المعارضة قليلة ولا نأخذها بعين الاعتبار”.
ندرة الأشخاص الذين يتقنون اللغتين
يجد دمير أن هذه الفجوة سببها قلة وجود أشخاص يعرفون اللغة التركية أو يعرفون اللغتين لردم هذه الهوة في سبيل إيصال معلومات صحيحة للشعب التركي عن المسألة السورية.
كما يرى أن قلة من الإعلاميين الذين يعرفون اللغتين، ساهم في نقص المعلومات الموثّقة بالإعلام التركي، ووجود المعلومات غير الدقيقة في الإعلام السوري التي قد تكون مصدرًا للإشاعات، “هناك مسؤوليات أخرى تقع على الطرفين من أفراد ومؤسسات لتحقيق الاندماج، لإيصال المفاهيم ونقلها بالشكل الصحيح للشعب التركي والدولي”.
برنامج “صاغ سليم”
من الخطوات التي قام بها الكاتب التركي جلال دمير ويوسف الملا الناشط السوري في شؤون اللاجئين، تقديم برنامج تليفزيوني على شاشة قناة “حلب اليوم”، هدفه الأساسي الربط بين المجتمعين التركي والعربي، وأيضًا: “نتحدث بالمشتركات في جميع نواحي الثقافة والعادات والتقاليد والتاريخ، لكي نعطي رسالة وفكرة أن الشعبين التركي والعربي قريبان من بعضهما”.
ويوضح دمير آلية عرض البرنامج: “كنت أتحدث بالتركي ويُترجم ما أقول للغة العربية على الشاشة، وعندما يتحدث الأخ يوسف بالعربية يتم ترجمته للتركي، لذلك برأيي البرنامج في مكانه وأساسي ومهم، ويجب دعم هذه الأفكار” .
لم تكن هذه المبادرات الشخصية إلا محاولات للتأثير على الرأي العام للجمهور التركي لتغيير وجهات نظرهم تجاه السوريين في تركيا، لكن لا ترتقي هذه الخطوات لتغيير شامل يعم معظم الأتراك، ويتطلب أن يكون هناك حملات قائمة على عمل مؤسسي ضخم عبر المؤسسات ووسائل الإعلام التركية وبالتعاون مع نظرائهم من الجانب السوري المعارض للمساهمة في تأصيل مفاهيم صحيحة بعد نزع المغالطات بهدف تحقيق انسجام حقيقي بين المجتمعين التركي والسوري.