على بعد 13 كيلومترًا جنوب شرق نابلس، تقع بلدة بيتا التي برزت عنوانًا للمواجهة مع الاحتلال خلال الأيام الأخيرة، ورغم أن اسمها يعود إلى كونها كانت مبيتًا آمنًا للسكان، فإن الاحتلال الإسرائيلي يحاول أن يسلبها أمنها بالاستيطان والتهجير.
تاريخ عريق يميز البلدة التي عُرفت بعنادها ضد المحتل، وباتت محل اهتمام صنعته بحاضرها وماضيها.
سجل قديم
تتشكل أراضي بيتا من مرتفعات جبلية يتخللها عدد من الأودية، تتجه في مجراها من الشرق إلى الغرب، وتعد من أهم الأماكن العالية في فلسطين المحتلة ومدينة نابلس، وتبلغ مساحة أراضيها كاملة 22 ألف دونم، تزرع بصورة أساسية بأشجار الزيتون والتين واللوز.
في بيتا جبل عالٍ يسمى جبل العُرمة، يقع في الجهة الشرقية للبلدة ويرتفع نحو 890 مترًا عن سطح البحر، وهو أول ما يسقط عليه الثلج في فلسطين شتاءً، كما يوجد في البلدة العديد من العيون والينابيع أهمها عين عوليم وعين روجان وبيرقوزا وعين سارة وعين المغارة وعين الغوطة.
جرى دمجها بفلسطين في العهد العثماني عام 1517، وقسمت في ذلك العهد إلى بيتا الفوقا وبيتا التحتا التي بقيت حتى اللحظة.
يقول الكاتب الدكتور سرمد فوزي التايه: “أهل بيتا شاركوا في جميع الثورات الفلسطينية ما قبل الاحتلال الإسرائيلي وما بعده، وما زالوا يُشاركون ويُقدمون حتى اللحظة”، موضحًا أن أبناءها شاركوا في وقعة دوما عام 1937 واستشهد أربعة من شبابها، ثم كان لهم الحضور في معركة جَرَتْ ضد القوات البريطانية على أراضي قرية بيت فوريك عام 1938.
ما بعد النكبة
السجل النضالي للبلدة امتد إلى ما بعد النكبة، وشارك أبناؤها بمعركة المزار قضاء جنين عام 1948 ومعركة الدفاع عن حيفا في ذات العام، واستُشهد اثنان من أبطالها.
وفي التفاصيل التي يسردها الكاتب التايه، فإنه في عام 1967 استشهد ثلاثة آخرين خلال المعارك التي خاضها الجيش الأردني دفاعًا عن مدينة القدس، وفي العام ذاته استشهد مواطن في معركة خاضها رجال المقاومة الفلسطينية على أراضي قرية بيت فجّار واستشهد آخر في معركة جبل القرنطل في أريحا.
وفي سنة 1968 استشهد أحد شبابها في عمليةٍ فدائيةٍ بمواجهة مع الجيش الإسرائيلي في وادي القلط، واستشهد آخر سنة 1970 في معركة الجحفية، وفي سنة 1976 استشهد اثنان في تل الزعتر في بيروت وآخر في العراق والكلام هنا للتايه.
تاريخيًا كانت بيتا عصيةً على الاحتلال، فمنذ حاول عام 1988 تشييد أول مستوطنة في جبل العُرمة شرقي البلدة، انتفض الأهالي واستشهد 3 منهم وقتلوا مستوطنين، وعندما أعيدت الكرة قبل عام ونصف تصدوا له أيضًا واستشهد شابان.
كانت تلك الأحداث رسالةً قويةً للاحتلال من أهالي بيتا بأن العُرمة لن يكون لقمةً سائغةً، ومن آثار ذلك أن بيتا من القرى القليلة التي بقيت بمنآى عن الزحف الاستيطاني بمنطقة جنوب شرق نابلس.
ويعتبر جبل العرمة رمزًا تاريخيًا، فهو الأعلى بعد جبل عيبال في المنطقة، ويشرف على بلدات بيتا وعورتا وحوارة وشرق نابلس، ويحوي الجبل آثارًا كنعانية يزيد عمرها على 5 آلاف عام، تشمل بقايا قلعة و18 كهفًا ضخمًا كانت تستخدم لتخزين المياه والحبوب.
ويذكر الأهالي كيف هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين بهدم البلدة “بيتا بيتا”، وبالفعل هدم نحو 30 منزلًا ونفى خمسة من أبنائها واعتقل العشرات وقسَّمها جغرافيًا إلى “عليا وسفلى”، لكنها ازدادت قوةً وتوحدًا.
استيطان جديد
“بيتا غالية علينا وأعطت الصهيوني دروس.. قالتلوا لا تحلم بأرضي ولا تفكر عليها تدوس”، هذه الكلمات لأغنية ظهرت في الثمانينيات وما زال السكان يتداولونها رافضين محاولات الاستيطان الجديدة.
أقيمت مستوطنة جبل صبيح خلال أقل من شهر مطلع مايو/أيار الماضي، كأول مستوطنة في بيتا بعد خمس محاولات فاشلة طوال أكثر من 30 عامًا، وتهدد هذه المستوطنة بقطع تواصل القرية ومصادرة أراضيها، فهي تجثم فوق 20 دونمًا (الدونم ألف متر مربع) وتحتل الجبل بأكمله.
قابل أهالي بيتا إجراءات الاحتلال بانتفاضة مستمرة على مدار الساعة، رفضًا لتهجيرهم وإقامة المستوطنة، وقدموا خلال شهر أربعة شهداء ومئات الجرحى.
وعن سر التوحد والثبات في القرية يقول نشأت الأقطش أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت وصاحب منزل قريب من قمة جبل صبيح: “بيتا عاهدت الله وأهلها على ألا يسكن أراضيها مستوطنون، وهو عهد ممتد منذ عام 1988 حين تعرضت لبدايات المحاولات الاستيطانية للسيطرة على أراضيها”.
ويتابع الأقطش في مقال له أن أهالي البلدة يستندون إلى ثأر قديم، وقصة بطولية يستمدون منها نضالهم، إذ تمت صياغة مقاومتهم ونضالهم يوم 6 من أبريل/نيسان 1988، حين هاجم مستوطنون القرية ووقعت مواجهات مع الأهالي قُتلت فيها مستوطنة.
وقرر جيش الاحتلال الانتقام باقتحام معظم بيوت القرية، لكن الأهالي تصدوا لقوات الاحتلال فاستشهد ثلاثة منهم، واعتقلت القوات الإسرائيلية المئات، وأبعدت ستة من أبنائها إلى جانب هدم 13 منزلًا.
يضيف الأقطش الذي يصف نضاله اليومي بكونه يعمل مع أبناء بلدته من أجل الحفاظ على منزله وأهله أن قصة المستوطنة تتجاوز بيتا وصولًا إلى نية المستوطنين فرض حزام استيطاني يقطع شمال الضفة الغربية عن وسطها عبر ربط مستوطنات (أرائيل وتفوح وأفيتار ومغدليم).
وحسب المعلومات الصادرة عن جهات إسرائيلية فإن مساحة البؤرة الاستيطانية اليوم (التي كانت سابقًا نقطة عسكرية للجيش وأخليت في ثمانينيات القرن الماضي) تبلغ عدة كيلومترات، لكنهم يخططون لضم 600 دونم، وتسكن فيها حاليًّا 42 عائلة يهودية فيما سجلت أكثر من 75 عائلةً للسكن فيها.
عنوان المواجهة
يسرد أهالي البلدة عمرها النضالي الذي بات جزءًا من هويتها، فيقول الدكتور أمجد أبو العز: “الندية من صفات سكان بلدة بيتا فهم يعتبرون أنهم ند للاحتلال والمستوطنين”، مشيرًا إلى أن قرية بيتا هي البلدة الوحيدة التي لا يدخل إليها المستوطنون ويخرجون دون مقاومة.
وبين أبو العز لـ”نون بوست” أن سكان القرية يقاومون أي مستوطن أو جندي يحاول الدخول للقرية بأي وسيلة متاحة حتى لو كانت الحجر أو إغلاق شارع، في رسالة للاحتلال أنه إذا أراد دخول بيتا فلن يدخلها برضا السكان، لذا لا يستطيع الجيش الدخول بجيبات مكشوفة.
ولفت إلى أن أهل بيتا يتميزون بحس جماعي دفاعي، فعند تعرض القرية للخطر يتكاتف كل السكان وتزول الفروق بين كل سكان القرية فتجد الطبيب والأكاديمي والصيدلي والعامل والطلاب في صف واحد.
وأشار أبو العز إلى أن أهل بيتا لم يبيعوا أيًا من أراضيها للاحتلال، ولا لصالح الاستيطان، لذا عيونهم قوية في المحتل ويرفضون المساومات، موضحًا أن السكان يتمتعون بحس أمني عالٍ، إذ يتناوبون على حراستها طول ساعات اليوم.
القرية التي يقطنها 17 ألف نسمة يسود فيها احترام كبارها الذين لهم سلطة معنوية داخل البلدة وينصاع السكان لحكمهم ومشورتهم، فلا تدوم فيها المشاكل العائلية إلا لساعات وهو ما يسمى بلغة أهل القرية “بالمونة” فالكبير يمون على الصغير.
ويذكر الدكتور أبو العز أن هناك مثل دارج يقول “خد من بيتا واعط بيتا” يحث على الزواج من فتيات وشبان القرية لما يتمتعون به من وسطية في الفكر وثقافة عالية، إذ تضم القرية أكثر من 55 دكتورًا جامعيًا.
تُعرف بيتا بعاصمة المشاريق لأنها تتوسط 25 قرية، وهي مركز تجاري، لكنها تفتقر للصناعة وتعتمد على الخدمات بالدرجة الأولى.