تسير الأمور في المشهد اللبناني إلى مزيد من التأزم في ظل تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية بشأن تردي الأوضاع الاقتصادية والجمود السياسي الذي خيم على الساحة خلال الأعوام الثلاث الماضية تحديدًا، الأمر الذي ينذر بالولوج إلى مستقنع الفوضى العارمة.
وأغلق المحتجون على مدار اليومين الماضيين العديد من الطرق والشوارع، وأضرموا النيران في إطارات وحاويات القمامة في مناطق متفرقة، فيما رفع الغاضبون لافتات رافضة لموجات الارتفاع الجنوني في الأسعار والانهيار الكبير لسعر العملة مقارنة بالدولار، وغياب الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وعلاج.
الغضب الشعبي العارم في مقابل التجاهل السلطوي الرسمي أثار مخاوف البعض بشأن الانزلاق إلى منحدر الهاوية والسقوط على المسارات كافة، الأمر الذي يتطلب التحرك العاجل لوضع الخطط العاجلة والسيناريوهات العملية للخروج من تلك الشرنقة قبل فوات الأوان.
يذكر أن البنك الدولي في الأول من يونيو/حزيران الحاليّ حذر من أن لبنان “غارق في انهيار اقتصادي قد يضعه ضمن أسوأ عشر أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، في غياب لأي أفق حل يخرجه من واقع مترد يفاقمه شلل سياسي”.
تصاعد الحراك الاحتجاجي
الوضع في شمال لبنان، حيث مدينة طرابلس، كان الأكثر سخونة، إذ شهدت المدينة التي تعد واحدة من أكثر مدن البلاد فقرًا تحركات احتجاجية مكثفة وإشعال نيران وقطع طرق وغلق شوارع بأكملها، بل تجاوز الأمر إلى اقتحام منازل بعض المسؤولين في المدينة، سواء كانوا نوابًا أم من العاملين بالمديرية.
ونشبت بعض المواجهات بين حراس مسؤولي البلدة والمحتجين، أسفرت عن سقوط 4 جرحى بعدما أطلق مرافق أحد النواب النار على المقتحمين، فيما أصيب نحو 9 مجندين عسكريين بجروح إثر إلقاء شبان يستقلون دراجة نارية قنابل صوتية عليهم، بحسب بيان صحفي صادر عن الجيش.
وتصاعدت وتيرة حوادث السرقة واقتحام المحال التجارية، ما دفع أصحاب تلك المحال لتوخي الحذر واتخاذ وسائل الحيطة للدفاع عن ممتلكاتهم، فيما اضطر آخرون لغلق متاجرهم خوفًا من تعرضها للاقتحام على أيدي الغاضبين الذين ملأوا الشوارع العامة والطرقات.
يبدو أن لبنان دخل مسارًا انحداريًا للأزمة مقابل غياب دينامية القوى المعارضة، ليصبح سيناريو الفوضى الأكثر ترجيحًا
ورغم اشتعال الوضع وتفاقم حدته، فإن بعض المحللين يعتبرون أن ما جرى – وما زال – كان أقل من المتوقع في ضوء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي خيمت على اللبنانيين، لا سيما البلدات الأكثر هشاشة اقتصاديًا، والمهددة في غذاء أبنائها وصحتهم ومستقبلهم.
أحداث طرابلس الحاليّة تعيد الأذهان إلى الأيام الأربع الأخيرة في يناير/كانون الثاني الماضي، التي انتهت بإحراق مبنى بلدية المدينة وعدد من مراكز المحافظة، ما أسفر عن سقوط قتيل، بجانب عدد كبير من الجرحى المدنيين والعسكريين.
لم تكن المدينة الشمالية وحدها التي شهدت احتجاجات متصاعدة، إذ تمددت بالونة الغضب لتشمل العديد من المناطق، في المقدمة منها العاصمة بيروت، حيث أغلق محتجون أحد الشوارع الرئيسية، منددين بالأزمة المعيشية وشح الوقود، كذلك الوضع في صيدا والنبطية (جنوب)، وغيرها من المدن الرئيسية.
انهيار اقتصادي
يعد الاقتصاد الدافع الأول لتلك الاحتجاجات العارمة، فقد تلقت البلاد خلال السنوات الأخيرة ضربات موجعة في عصبها الاقتصادي أودت بالمستوى المعيشي للمواطن إلى مراحل متدنية، جعلت لبنان واحدة من أكثر دول العالم عجزًا وتأخرًا على مختلف المسارات.
الانهيار الكبير في سعر العملة المحلية “الليرة” مقابل الدولار كان المؤشر الأبرز على حالة الانهيار التي تشهدها الدولة اللبنانية، نجم عنها موجات متدرجة من القفزات الجنونية في أسعار السلع والخدمات، أبرزها أسعار المحروقات التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا الساعات القليلة الماضية.
وزارة الطاقة ممثلة في المديرية العامة للنفط أعلنت أمس الإثنين أنها “بصدد إصدار جدول تركيب الأسعار للمحروقات صباح اليوم الثلاثاء على سعر صرف الدولار الواحد عند 3900 ليرة لبنانية”، مقابل 1500 في السابق، وهو ما كان له ارتدادته العكسية على مستلزمات المواطن اليومية، ومنها الكهرباء التي يتواصل انقطاعها أحيانًا لـ21 ساعة يوميًا.
كرة أسعار المحروقات الجنونية تدحرجت لتشمل بقية السلع والخدمات، لا سيما الغذائية التي يستورد معظمها من الخارج، تزامن ذلك بالتبعية مع قفزة مماثلة في معدلات التضخم وزيادة نسب البطالة بين الشباب، ليقبع قرابة نصف سكان لبنان تحت خط الفقر، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
على أبواب الفوضى
الاقتصاد لم يكن وحده المسؤول عن تلك الوضعية الحرجة، وإن كان هو المحرك الأساسي لها، فتعقيدات المشهد السياسي وطلاسمه الغائبة عن الفك، وحرب الصلاحيات بين الرئيس ميشيل عون وفريقه من جانب وسعد الحريري وتياره من جانب آخر، أحد الأسباب الرئيسية في تعميق الأزمة.
“يبدو أن لبنان دخل مسارًا انحداريًا للأزمة مقابل غياب دينامية القوى المعارضة، ليصبح سيناريو الفوضى الأكثر ترجيحًا”، هكذا علق خبير التنمية المستدامة أديب نعمة، المستشار السابق للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “إسكوا” (ESCWA) على المشهد اللبناني الحاليّ.
سيناريو الفوضى – بحسب نعمة – متعمد وليس عفويًا، مذكرًا في حديثه لـ”الجزيرة” بتقرير البنك الدولي الذي تحدث عن “الركود المتعمد”، واعتبر أن “لبنان يغرق” ووضعه على قائمة أسوأ 3 أزمات في العالم، منوهًا أن السلطة الحاليّة بشتى تفريعاتها تتعمد تعزيز الفوضى لضمان مكاسبهم التي وصفها بـ”الغنيمة”.
خبير التنمية المستدامة رصد عدد من العوامل التي تقود في نهاية المطاف إلى سيناريو الفوضى، أبرزها: انحلال مؤسسات الدولة بعد أن صارت السلطة خارجها منذ سنوات، استشراء حالة شديدة التطرف بين القوى المتنازعة بعد سقوط التسوية الرئاسية التي أتت بميشال عون رئيسًا للجمهورية وسعد الحريري للحكومة، ثم التفكك المؤسساتي الذي من بين مظاهره هشاشة البرلمان الذي بات شبه معطل، وتعليق تشكيل الحكومة لقرابة 9 أشهر، واتساع رقعة المؤسسات الرسمية التي تعمل خارج القانون كما هو حال المصرف المركزي، مختتمًا تلك العوامل بـ”ضعف الرقابة الأمنية على الحدود توفيرًا لعمليات التهريب المنظمة”.
“تطويل مرحلة الموت هي ضرورة أمريكية فرنسية وربما روسية وصولًا لحلول دولية بين واشنطن وموسكو لن يكون لبنان إلا جزءًا أساسيًا منها لأهمية موقعه في الشرق الأوسط بين إسرائيل وسوريا”، الكاتب اللبناني وفيق إبراهيم
التدمير الممنهج لاتحادات العمال والنقابات التي اخترقتها السلطة يعد عاملًا مهمًا في تكريس الوضع الراهن، ويبدو أن البلاد ستدفع ثمن ذلك غاليًا جدًا، لا سيما بعدما باتت الساحة خاوية تمامًا من أي “أجسام وسيطة قد تلعب دورًا تغييريًا حاضرًا ومستقبلًا، في حين تسعى السلطة لإشغال الناس بالانتخابات قريبًا، لتكريس نفوذها باسم الديمقراطية” بحسب المستشار السابق للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “إسكوا” (ESCWA).
ما يتعرض له لبنان على مدار العام الماضي كاف لانهيار كيانه السياسي وتدمير سلطته الحاكمة، هكذا يرى المحلل وفيق إبراهيم، في مقاله المنشور بصحيفة “البناء” اللبنانية، مضيفًا “الجوع بدأ يضرب أبواب منازل الطبقات الوسطى والفقيرة ويهدمها ولا يحتاج إلا إلى تغطية سياسية من الفرنسيين والأمريكيين والسعوديين”.
ويرى الكاتب أن “تطويل مرحلة الموت هي ضرورة أمريكية فرنسية وربما روسية وصولًا لحلول دولية بين واشنطن وموسكو لن يكون لبنان إلا جزءًا أساسيًا منها لأهمية موقعه في الشرق الأوسط بين إسرائيل وسوريا”، متسائلًا في نهاية مقاله: “هل يسقط لبنان في فخ الموت السياسي أو ينجو بدعم خارجي؟”.
وفي السياق ذاته يعتبر الصحفي فؤاد أبوزيد، في مقاله المنشور بصحيفة “الديار” اللبنانية، أن لبنان “على فوهة بركان، ويتفق الخارج والداخل على أن لبنان لم يعد بعيدًا عن الانهيار الكامل، الذي يعقبه انفجار أمني وقطع طرقات وصراعات مسلحة، والتظاهرات المحدودة اليوم، وفق البطريرك بشارة الراعي، ستتحول إلى فوضى عارمة في كل المناطق”.
ويقابل تلك الفوضى حالة الاستعصاء السياسي المتعمد، حيث إجهاض كل محاولات الخروج من تلك الشرنقة، فتعطلت مبادرات تشكيل الحكومة، وخرجت العديد من الكيانات عن السيطرة، وبات الأمر متروكًا للسوق أكثر منه لقبضة الدولة، هذا في الوقت الذي اكتفت فيه أضلع المشهد السياسي بتبادل الاتهامات والتنصل من المسؤولية وإلقاء الكرة في ملعب الآخر.
الكاتب والمحلل حسين أيوب يتوقع أن تزيد التفسخات السياسية بين التيارات الأيديولوجية في لبنان، مؤكدًا أنه كلما تعمقت الأزمة ستكبر معها التناقضات، مستشهدًا بحالة الانقسام الواضحة بين حلفاء حزب الله أنفسهم، كما سبق بين القوى المعروفة بجبهة 14 آذار (التي تشكلت بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005).
هذه الفوضى يقابلها استعصاء سياسي يجهض مبادرات تشكيل الحكومة، ويطيح بآمال اللبنانيين في اتخاذ إجراءات رسمية لوقف الانهيار الذي طال مختلف القطاعات، ودفع المواطنين للوقوف يوميًا بالطوابير عند محطات الوقود.
وتجلى آخرها في استمرار تراشق الاتهامات بين حليفي حزب الله من حركة “أمل” برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري والتيار الوطني الحر، وهو الأمر الذي تطوّر لتبادل الاتهامات بالفساد، رغم دعوة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله للتهدئة.
سيناريوهات الخروج من الأزمة
في المقابل تلك التفسخات المحتملة، يرى أيوب أن البلاد قد تشهد خلال الآونة المقبلة اصطفافات سياسية جديدة في محاولة للخروج من الأزمة، لافتًا إلى أن “بعض الاصطفافات لا يمكن زحزحتها، لأنها مرتبطة بمنظومة المصالح الاقتصادية والاجتماعية، وكل ما عدا ذلك يبقى متحركًا”.
ربما تكون الفوضى هي عنوان المرحلة المقبلة، بحسب أيوب، لكنها “بمزيج يعبر عن وجع حقيقي للناس، ويجعل شوارع لبنان مفتوحة على احتمالات العفوية والأجندات السياسية معًا”، وهو الرأي الذي ذهب إليه الكاتب فيصل عبد الساتر الذي استبعد تشكيل الحريري حكومة قريبًا، نظرًا للخلافات القائمة التي لا يبدو أنها قابلة للحل في الوقت الراهن”.
الساتر اعتبر أن “الحريري ربما لا يريد تأليف حكومة خشية عدم تلقيه الدعم من الدول المعنية لا سيما السعودية”، وتابع “لذلك يُتوقع أن يُبقي نفسه (الحريري) مكلفًا من دون أن يعتذر أو يشكل حكومة لإبقاء عهد عون من دون حكومة” حسبما صرح لـ”الأناضول“.
“الجيش في لبنان ليس جيشًا انقلابيًا، ولم يفكر يومًا بالاقتراب من السلطة، إنما هو يأتمر من السلطة السياسية، ولا يتمرد عليها”
الأوضاع المتردية دفعت أنظار البعض إلى الجيش، حيث التدخل المباشر لفك هذا الاشتباك، استنادًا إلى الحراك العسكري الأخير والمتمثل في الزيارات الخارجية التي قام بها بعض الجنرالات، أبرزهم قائد الأركان اللبناني الذي زار باريس، لمدة 3 أيام.
وفي المقابل استبعد آخرون أي دور محتمل للجيش بالشأن السياسي وإدارة الدولة رغم حالة الانهيار الحاليّة، كما ذهب المحلل السياسي جوني منير، الذي أضاف في تصريحات صحفية له أن “الجيش في لبنان ليس جيشًا انقلابيًا، ولم يفكر يومًا بالاقتراب من السلطة، إنما هو يأتمر من السلطة السياسية، ولا يتمرد عليها”، مستدركًا: “هاجس الجيش اللبناني في هذه الفترة هو انعكاس الأزمة الاقتصادية على الوضع الأمني والتخوف من الفوضى الاجتماعية والصدامات الدموية التي يمكن حصولها”.
إعادة هيكلة المشهد وترتيب الأوراق المختلطة ربما يكون الحل للخروج من الشرنقة، يتزامن ذلك مع تنحية الخلافات بين أطراف صراع النفوذ، ومحاولة تهدئة الشارع عبر استعادة ثقته مرة أخرى في السلطة الحاكمة، وإلا قد يجد لبنان نفسه ساحة حرب بالوكالة بين القوى الاستعمارية التي توظف المشهد الحاليّ لإعادة نفوذها المفقود مرة أخرى.. فهل يعي اللبنانيون الدرس قبل فوات الأوان؟