رغم كونه أسبوعًا هادئًا على المستوى السياسي، في العالم العربي والإسلامي، كونه متقاطعًا مع تحضيرات عيد الأضحى وأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، الحج، فإنه لم يكن كذلك قط في أروقة السياسية الغربية التي ترتبط، في عالم متعولمٍ على غرار العالم الذي نعيش فيه، بذلك الركن الذي يفترض هدوئه شرقًا.
ما بين الأحد والثلاثاء من الأسبوع، رفع النقاب عن قضيتين خطيرتين ساهمتا في الإفصاح عن جوانب مظلمة في مجال العلاقات الدولية، بالأمس، تناولنا الأولى في مادة مفصلة تروي كيف حولت إحدى البرمجيات الإسرائيلية الخبيثة العالم إلى بؤرة للتجسس، دول صغيرة تراقب حكومات عظمى، ودول حليفة تتجسس على أقرب حلفائها.
وفي هذه المادة، نروي كيف تم القبض على رجل أعمال أمريكي بارز، يوم الثلاثاء الماضي، في لوس أنغلوس، بعد اتهامه من السلطات الأمريكية بالعمل مع، ونقل معلومات تمس الأمن القومي للبلاد، إلى الخارج، إلى إحدى الدول العربية.
تفاصيل القضية
وفقًا لموقع CNN ووكالات أمريكية مرموقة أخرى، فإن رجل الأعمال المشار إليه، هو توماس باراك، البالغ من العمر 74 عامًا، الذي كان صديقًا مقربًا من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، شخصيًا على مدار عقود، قبل أن يتولى مسائل فنية دقيقة في جمع التبرعات من أجل حملته الانتخابية وإدارة تسويقه في الأخبار التليفزيونية، وصولًا إلى توليه مسؤولية حفل تنصيب الرئيس الأمريكي، الذي استطاع أن يجمع 100 مليون دولار من أجله.
لطالما كان باراك يجيد الرقص على جميع الحبال والتواصل مع جميع الأطراف، ولعل ذلك يرجع إلى دراسته التفاوض والعلاقات العامة من خلال تخصصه في القانون واشتغاله في مساحة وسيطة بين عالم الأعمال وعالم السياسة.
كما تشير لائحة الاتهام التي قدمتها محكمة اتحادية في بروكلين بنيويورك، فإن توم براك، حسبما اشتهر، استغل ثقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيه، التي دشنت خلال مدة كبيرة من الزمان، وجد فيها كل طرف كثيرًا من القواسم المشتركة، الحياتية والعملية، في الطرف الآخر، واشتركا معًا خلالها في كثير من الصفقات المليارية، من أجل أن يوظف نفوذه لخدمة مصالح دولة الإمارات في الولايات المتحدة الأمريكية.
كبلدٍ منفتح يتمتع بخصوصية استثنائية في مجال السياسة، فإن البيئة الأمريكية القانونية لا تمنع أن يحصل أفرادٌ ومنظمات على تمويلات مالية من الخارج، من أجل خدمة مصالح دول أخرى، شريطة أن تخضع هذه الأموال لرقابة الجهات المختصة، بعد أن تحظى بموافقة تلك الجهات بالعمل القانوني الموثق كـ”جماعة ضغط” لصالح البلد مصدر التمويل.
لكن لائحة الاتهام تقول إن براك، المتهم الرئيس، واثنين آخرين، أحدهما موظف من الولايات المتحدة، أسبن بكولورادو، ويدعى ماثيو غرايمز (27 عامًا)، والآخر رجل أعمال إماراتي يدعى راشد الشحي (43 عامًا)، شكلوا جميعًا فريقًا، بالتعاون مع أطراف أخرى، منهم 3 أشخاص أقل أهمية، من أجل خدمة مصالح دولة الإمارات في الولايات المتحدة، نظير خدمات وأموال، دون إخطار الجهات المعنية في واشنطن.
تذكر لائحة الاتهام 3 حوادث، ضلع فيها براك عمليًا من أجل تنفيذ أجندة دولة الإمارات بالولايات المتحدة على مستوى خطير، وذلك من خلال تضمينه فقرات تخدم مصالح دولة الإمارات في خطاب عن الطاقة للرئيس السابق مايو/أيار 2016، إبان الحملة الانتخابية، ودعمه حملة لتعيين مرشح أمريكي مرغوب إماراتيًا سفيرًا لواشنطن في أبو ظبي مارس/آذار 2017، وتزويد أطراف إماراتية بمعلومات دقيقة عن وجهة نظر إدارة ترامب في قضايا تمس الشرق الأوسط، من بينها الموقف من حصار قطر خليجيًا الذي بدأ يونيو/حزيران 2017.
براك: من لبنان إلى أمريكا مرورًا بالسعودية
تعود جذور توم إلى بلاد الشام، وتحديدًا بلدة زحلة على الحدود اللبنانية السورية، قبل أن ينتقل جده عام 1900 إلى الاستقرار في بلاد الأحلام، الولايات المتحدة، حيث عمل تاجرًا في كاليفورنيا وأمه موظفة عادية.
اشتهر توم بكونه صديقًا للرؤوساء الأمريكيين، فقبل أن يكون مقربًا من ترامب الذي صار رئيسًا للولايات المتحدة، فقد تدرب في بداية حياته المهنية في مكتب المحامي هيربرت كالمباك، حينما كان يعمل ذلك المحامي ضمن الفريق القانوني للرئيس الأمريكي الذي أطيح به في فضيحة ووتر جيت، ريتشارد نيكسون.
وفي وقت لاحق نهاية السبعينيات، كان رجل الأعمال الأمريكي الذي تقدر ثروته بمليار دولار حاليًّا يمتلك مزرعة شخصية بالقرب من مزرعة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، ما ساعده على الاقتراب من الرئيس في أوقات فراغه، وتكوين صداقات مع حرسه الشخصي الذين كانوا يوفدون للتسكع في مزرعة توم.
ساهم السعوديون في الارتقاء برجل الأعمال الأمريكي، وذلك خلال رحلة ما ذهب فيها توم إلى السعودية مع وفد شركة أمريكية لتوقيع عقود تدشين مصنع مشترك لإنتاج الغاز المسال، ما سهل عليه، من قبيل الصدفة، أن يلتقي مع رجل، عرف لاحقًا أنه أحد أبناء الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، إذ يروي توم أن نجل الملك كان يبحث عن شخص يمكن أن يشاركه في مباراة “إسكواش”، فأوصله أحد مديري أرامكو بالأمريكي من ذوي الأصول العربية، براك.
منذ ذلك الوقت، استطاع اللبناني الأمريكي، بفضل علاقته الإيجابية بالسعوديين، خاصة أنه قد تعاون معهم في رحلات أبناء الأسرة الحاكمة إلى أمريكا، أن يتمدد استثماريًا، فحصل على عقود توريد معدات لأرامكو، ولعب دور الوسيط في استثمارات سعودية مشتركة بهاييتي، واستطاع أن يؤسس أول مشروع عقاري ضخم له في الولايات المتحدة عام 1976.
وخلال عقد (بحلول نهاية الثمانينيات)، تمكن براك من أن يكون واحدًا من القلائل الذين يحوزون ثقة دونالد ترامب، من خلال مساعدة ترامب، عبر دوره المعتاد (كوسيط) في تحقيق بعض أحلامه الشخصية، كالحصول على حصة 20% في شركة تمتلك سلسلة متاجر في الولايات المتحدة، وتسهيل شراء ترامب فندق “بلازا” بقيمة تتجاوز 400 مليون دولار، وإنقاذه من مشاكل مالية تتعلق بالتمويل والسداد لمشروعاته العقارية مع بنوك في منهاتن.
وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، فإن براك صار واحدًا من أشخاص معدودين على أصابع اليد الواحدة، يمكنه أن يخطئ ترامب، فيرد الأخير في احترام: “شكرا لك يا صديقي، يمكنك أن تفعل ذلك بأريحية في أي وقت”، فقد جمع بينهما إلى جانب علاقات “البيزنس” روابط شخصية، مثل تطليق زوجاتهم والارتباط بأخرى ورعاية أبناء من نفس العمر تقريبًا، كما قال رجل الأعمال ذو الأصول اللبنانية.
تداعيات حقبة ترامب على الأمن القومي الأمريكي
أعادت هذه القضية توجيه نظر الصحفيين والباحثين من جديد إلى موضوع تأثير وصول شخص بصفات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتوجهاته، للبيت الأبيض، وتداعياته على الأمن القومي للولايات المتحدة، ونمط تفاعل الدولة العميقة مع هذا الحدث، أي وصول ترامب للحكم.
فقبل سنوات، خلال ولاية ترامب، أدان القضاء الأمريكي المدير السابق لحملته الانتخابية، بول ماناڤورت، بتهمة مماثلة لتهمة توم، وهي نقل معلومات حساسة إلى جهات خارجية، بالإضافة إلى اتهامات أخرى مثل الاحتيال والتهرب الضريبي، فيما عرف وقتها بـ”تحقيقات مولر”، لكن الدولة الأجنبية هذه المرة كانت روسيا.
رصدت التحقيقات تواصل ماناڤورت مع شخصين أيضًا بشكل رئيس، كما هو الحال بالنسبة لتوم، أحدهما قسطنطين كيلمنيك من المخابرات الروسية، والآخر هو ديريباسكا، رجل أعمال روسي نافذ مقرب من الرئيس بوتين، وذلك قبل وخلال 6 أشهر من توليه إدارة حملة ترامب.
وعلى نحو ما هو ملموس في قضية توم المتعلقة بالإمارات، فإن ترامب نفى أي صلة شخصية له بالتعاون مع الروس، ومع ذلك، فقد استغل بعض صلاحياته الرئاسية الاستثنائية في استصدار عفو شامل عن ماناڤورت، وكل من روچر ستون مستشاره السابق وتشارلز كوشنر والد صهره غاريد كوشنر، وذلك قبل أيام معدودة من تسليم السلطة إلى چو بايدن، وتحديدًا في ديسمبر/كانون الأول 2020.
ما يهم هنا أيضًا إلى جانب تورط أطراف من إدارة ترامب في التواصل مع جهات أجنبية “على نحو يشكل تهديدًا جاسوسيًا خطرًا على البلاد”، كما وصف تقرير من إحدى اللجان في مجلس الشيوخ، أن توم براك المتهم الآن بالتخابر مع الإمارات، سبق استجوابه من محققين فيدراليين، ضمن التحقيقات في نفوذ روسيا، عن علاقاته بأبو ظبي، فنفى وجود أي دور غير معروف لها في دعم الحملة يونيو/حزيران 2019، وهو ما أدرج في لائحة الاتهام الصادرة ضده من الادعاء الفيدرالي يوم الثلاثاء الماضي، بخصوص تضليله المتعمد لجهات التحقيق في هذا الوقت.
الأمر الآخر، أن براك الذي عمل مستشارًا غير رسمي لحملة ترامب من أبريل/نيسان إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ورئيسًا للجنة إعداد الحفل من نوفمبر/تشرين الثاني 2016 إلى يناير/كانون الثاني 2017، ثم، منذ ذلك التوقيت مستشارًا غير رسمي في الحملة، هو من أوصى بتعيين ماناڤورت الذي ثبت تورطه في الاتصالات غير القانونية مع روسيا، وأوصى بتعيين ريك غيتس نائبًا له، الذي أدين قضائيًا أيضًا ضمن تهم أخرى من بينها الحلف عند القسم، ما رجح أن الطرفين الذين قدما الدعم الخارجي الأكبر لحملة ترامب، كانا روسيا والإمارات، كما سنرى من خلال معطيات أخرى.
النفوذ الإماراتي في واشنطن
من ضمن ما أعادت هذه القضية تسليط الضوء عليه من جديد أيضًا، هو ملف نفوذ تلك الدولة الخليجية الصغيرة من حيث عدد السكان والتاريخ، الإمارات، في البيئة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، عبر شراء الولاءات وجماعات الضغط.
فخلال حقبة الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، رفع النقاب عن دور بارز للسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة للتدخل في صناعة القرار الأمريكي، بما في ذلك فترة ما بعد الانقلاب العسكري في مصر يوليو/تموز 2013، ما أدى إلى وصفه في الأوساط السياسية الأمريكية بأنه “السفير الأقوى”، خاصة أنه كثيرًا ما يستخدم المنصات الصحفية الأمريكية المرموقة للترويج إلى مواقف بلاده.
كما كشف منذ 3 أعوام تقريبًا صلات لرجل الأعمال والعلاقات العامة المهاجر من أصل لبناني أيضًا چورچ نادر بدولة الإمارات، وذلك بعد تعيينه مستشارًا لولي العهد الإماراتي حاكم أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، الذي رتب بدوره، كما قالت تقارير، لقاءً بين مؤسس شركة بلاك ووتر الأمنية ذات الأدوار المشبوهة في الشرق الأوسط، إريك برينس وشخصية روسية رفيعة المستوى، من أجل دعم ترامب في حملته الانتخابية، وتبين لاحقًا أن من قرب بين ولي العهد الإماراتي ومؤسس بلاك ووتر هو نادر، مستشار ابن زايد الذي كان يعمل مستشارًا لبرينس خلال وجود الشركة في العراق بعد الإطاحة بصدام حسين 2003.
وفقًا لبي بي سي، فقد رتب محمد بن زايد أيضًا لقاءً بين أحد أعضاء حملة ترامب في هذه الفترة وصاحب شركة أمنية يدعى إيليوت براودي، تبعه لقاء بين براودي وترامب، حاول نادر استغلاله من أجل ترتيب لقاء ثالث بين ترامب وابن زايد، من أجل دعم مواقف الإمارات في الإقليم.
وكان مركز السياسة الدولية للأبحاث قد أعد ورقة مرجعية عن “اللوبي الإماراتي: كيف تفوز الإمارات في واشنطن” وثق فيه خيوط العلاقات والشخصيات التي تديرها أبو ظبي في الولايات المتحدة وأوراقها التي تعتمد عليها في التأثير على القرار الأمريكي مثل صفقات السلاح التي تدر المليارات إلى الخزانة الأمريكية، وشراء الولاءات في مجتمع الرأي والجامعات، وامتلاك استثمارات ضخمة تصل إلى نصف تريليون دولار في أمريكا، ودعم السياسة الأمريكية المناهضة لإيران والقاعدة في المنطقة.
الوضع القانوني للقضية
يصف مارك ليسكو نائب المدعي العام الأمريكي قضية توماس باراك بأنها: “استغلال من المتهمين مرارًا لصداقة باراك بمرشح تم اختياره في الأخير رئيسًا، واستغلال قرب باراك من المرشح، ومن مسؤولين رفيعي المستوى في الحملة الانتخابية والحكومة ووسائل الإعلام الأمريكية، من أجل تعزيز الأهداف السياسية لحكومة دولة أجنبية، دون كشف ولاءهم الحقيقي”.
وفقًا للمدعين الفيدراليين فإن باراك لم يكتف بهذا الدور الكبير، “فالأسوأ من ذلك، أنه بذل جهودًا للحصول على منصب رسمي في إدارة ترامب، من أجل تعزيز مصالح دولة الإمارات، لا مصالح الولايات المتحدة”.
بناءً على مذكرة الاتهام، فقد تم توقيف كل من توم والموظف الأمريكي ماثيو غرايمز في لوس أنغلوس، وطالبت جهات التحقيق من المحكمة الاتحادية التحفظ على باراك على ذمة التحقيقات وعدم إطلاق سراحه، خوفًا من استغلال نفوذه الواسع في مجال تكنولوچيا التطوير العقاري وعلاقاته الخارجية الواسعة، التي من بينها امتلاكه حصة في الشركة المالكة لمتاجر “كارفور”، وحيازته طائرات خاصة، من أجل الهروب من البلاد.
هذا التشديد كما ورد في الصحافة الأمريكية، يأتي أيضًا على الأرجح، ضمن سياق تلافي الخطأ السابق في نفس القضية، الذي أدى إلى هروب الذراع الأيمن لتوم، رجل الأعمال الإماراتي راشد الشحي، بعد 3 أيام فقط من استجوابه على يد محققين فيدراليين أبريل/نيسان 2018.
أما بالنسبة لترامب، فرغم الوصف الذي استخدمه ليسكو خلال شرح القضية للصحافة عن اعتبار “ما جرى ليس أقل من خيانة من المسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك ترامب نفسه”، فإن أغلب التحليلات القانونية تقول إن صيغة لائحة الاتهام تستبعد ترامب من المثول أمام القضاء باعتباره متهمًا حتى الآن، نظرًا لترجيح تعرضه للتضليل والخيانة من صديق عمره المتعاون مع الإمارات.
وعن تأثير هذه القضية على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ودولة الإمارات، فقد ربط محللون بينها وبين ما نشره الإعلام العبري منذ ساعات بخصوص الاجتماع العاجل الذي عقده طرفا الائتلاف الحاكم في “إسرائيل”، بنيت ولابيد، بخصوص خط الأنابيب الإماراتي الذي سينقل النفط الخليجي إلى دولة الاحتلال عبر البحر الأحمر ومنه إلى أوروبا، الذي خلص مبدئيًا إلى وقف بحث المشروع لأسباب بيئية، وذلك باعتبار أن إدارة بايدن تعاقب أبو ظبي بشكل غير مباشر، بالنكوص عن دعم مقتضيات اتفاق “أبراهام”.