الـ25 من شهر يوليو/تموز 2021، يوم سيبقى في ذاكرة التونسيين فما قبله ليس كما بعده، فقد اختار فيه الرئيس قيس سعيد – الذي أؤتمن على البلاد – أن ينقلب على الدستور ومؤسسات الدولة المدنية ويجمع كل السلطات تحت يده بحجة “حماية تونس”.
جمع كل السلطات تحت إمرة الرئيس
“في يوم الاحتفال بعيد الجمهورية، انقلب سعيد على قيم الجمهورية”، هكذا علق أحد التونسيين على قرارات رئيس بلاده التي اتخذها في ساعة متأخرة من ليلة أمس، إذ أعلن قيس سعيد مساء الأحد تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وحل الحكومة.
وقال الرئيس التونسي في كلمة بثها التليفزيون المحلي إنه أعفى رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، وجاء في كلمة سعيد “قررت أن أتولى السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة أعينه بنفسي”، رغم أن دستور عام 2014 يوزع السلطات بين الرئيس ورئيس الوزراء والبرلمان.
وأوضح أيضًا أنه جمد كل اختصاصات البرلمان التونسي ورفع الحصانة عن كل أعضاء المجلس النيابي، وذلك عقب اجتماع طارئ في قصر قرطاج حضرته قيادات من الجيش والأمن، ليس هذا فحسب، بل قرر سعيد أيضًا تولي منصب النائب العام، وبرر ذلك بضرورة كشف كل ملفات الفساد.
الانقلاب على الدستور ومؤسسات الدولة والثورة التونسية، جاء في وقت تشهد فيه البلاد أزمات متعددة شملت قطاعات مختلفة
بالتزامن مع ذلك، طوقت مركبات عسكرية مبنى البرلمان التونسي ومقرات التليفزيون والإذاعة العمومية، في حين لم يعرف مكان رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي إلى الآن، ويُرجح أن يكون تحت الإقامة الجبرية.
واستبق سعيد هذه القرارات بتمديد حالة الطوارئ في البلاد 6 أشهر بداية من السبت الماضي حتى يوم 19 من يناير/كانون الثاني 2022، وتمنح حالة الطوارئ وزارة الداخلية صلاحيات استثنائية تشمل منع الاجتماعات وحظر التجوال وتفتيش المحلات ليلًا ونهارًا ومراقبة الصحافة والمنشورات والبث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية وغيرها، وهذه الصلاحيات تطبق من دون وجوب الحصول على إذن مسبق من القضاء.
انقلاب على الدستور
يقول قيس سعيد إن هذه الإجراءات اتُخذت بناءً على الفصل 80 من الدستور، لكن قراءة متأنية في هذا الفصل من الدستور، تؤكد لنا أن ما حصل بعيدًا جدًا عنه، وهو أشبه بـ”محاولة الانقلاب الناعم على اختيارات الشعب”.
لهذا الفصل شروط واضحة لتطبيقه وأهم شروطه وجوب وجود المحكمة الدستورية التي لم يقع انتخابها بعد، أضف إلى ذلك حالة الخطر الداهم التي تحدث عنها الفصل التي تسمح بتدخل رئيس الجمهورية، لا نعتقد أنها موجودة في البلاد حتى لو أراد بعض الأطراف إيهام الشعب بهذا.
كما أنه في حال تفعيل هذا الفصل، لا يمكن لرئيس الجمهورية تجميد عمل البرلمان والمجلس يكون في حالة انعقاد دائم أي لا يمكن أن يدخل في عطلة برلمانية، أيضًا هذا الفصل ينص كذلك على أنه لا يمكن حل الحكومة ولا حتى توجيه لائحة لوم تجاهها.
هذا الأمر يؤكد وجود رغبة مبيتة عند سعيد في الانقلاب الناعم على البرلمان والحكومة وبالتالي على اختيارات الشعب، واستغلال الحالة الاستثنائية لتمرير إجراءات عجز عنها في الحالة الطبيعية، وإن كان الرئيس قيس سعيد ينفي ذلك.
وسبق أن تحدثنا في نون بوست عن وجود مساعٍ من الرئيس سعيد ومقربين منه للانقلاب على الدستور بهدف الانقضاض على الحكم وإقصاء الأحزاب والبرلمان من الساحة السياسية وتلفيق التهم لهم مستغلين الوضع الحرج للبلاد.
كما سبق لموقع موقع ميدل إيست آي (Middle East Eye) البريطاني نشر وثيقة مسربة في مايو/أيار الماضي تتحدث عن تدبير خطة لـ”ديكتاتورية دستورية” في تونس، وبحسب الوثيقة سيتم تعيين اللواء خالد اليحياوي وزيرًا للداخلية بالإنابة، ونشر القوات المسلحة على مداخل المدن والمؤسسات والمرافق الحيوية، وهو ما حصل بالفعل ليلة أمس.
يذكر أنه في أبريل/نيسان الماضي، تم تكريم خالد اليحياوي الذي يشغل خطة مدير الأمن الرئاسي ومنحه وسام الجمهورية من الصنف الثاني، وهو ما أثار حفيظة العديد من التونسيين، خاصة أنه جاء في سياق سعي الرئيس للاستحواذ على السلطة والتقرب من القيادات الأمنية.
تؤكد هذه القرارات محاولات قيس سعيد للاستحواذ على كل صلاحيات الحكم في تونس منذ أول يوم جلس فيه على كرسي الحكم، فلا يفوت فرصة إلا ويؤكد أنه قائد كل شيء والماسك بزمام الأمور في البلاد على عكس ما يضبطه الدستور.
ومنذ تقلده السلطة، سعى سعيد للسيطرة على الأسلاك الأمنية، من خلال تأويله الفردي للدستور، ومنح الرتب للقيادات الأمنية، إلى جانب محاولته إقحام الجيش الوطني في الصراعات السياسية مقابل الإمعان في ترذيل الأحزاب السياسية والتشكيك في نزاهتها وجدوى وجودها، وهو ما لم يفعله أي رئيس تونسي ورئيس حكومة منذ سقوط نظام بن علي في يناير/كانون الثاني 2011.
استغلال ظروف البلاد الصعبة
الانقلاب على الدستور ومؤسسات الدولة والثورة التونسية كما وصفه رئيس البرلمان راشد الغنوشي، جاء في وقت تشهد فيه البلاد أزمات متعددة شملت قطاعات مختلفة، فالرئيس قيس سعيد استغل وضع البلاد الصعب لتنفيذ أجنداته الخطيرة على الدولة.
واستغل قيس سعيد المناخ الاجتماعي السيئ وتدهور مستوى المعيشة وغلاء الأسعار وارتفاع معدلات البطالة، فضلًا عن نفور العديد من التونسيين من الحياة السياسية الكلاسيكية المبنية على الأحزاب لتمرير خططه المشبوهة.
وكان المئات من التونسيين قد خرجوا صباح أمس الأحد للشوارع، للتعبير عن رفضهم لمنظومة الحكم والمطالبة برحيلها، واعتدى بعض هؤلاء على الصحفيين ومقرات حركة النهضة وبعض القيادات المحلية للحركة التي تتزعم البرلمان.
التجربة الديمقراطية التونسية الوليدة تواجه امتحانًا كبيرًا، فإما أن تنجح فيه وتدخل تونس بحق نادي الدول الديمقراطية وإما أن تسقط
بدأت دعوات الخروج إلى الشارع من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لأشخاص مجهولي الهوية السياسية والاجتماعية، إلا أن تنسيقيات الرئيس سعيد عملت بكثافة في مواقع التواصل لجر الناس للخروج للشارع وقد سبق سعيد ذلك بالنزول للحوض المنجمي وكالعادة تنظيم مظاهرة تضم العشرات من الشباب تدعو لحل البرلمان.
وجاءت هذه الخطوة عقب نزاع دستوري بشأن الصلاحيات امتد لأشهر بين الرئيس من جهة ورئيس الحكومة والبرلمان من جهة ثانية، ورفض سعيد تعديلًا وزاريًا لرئيس الحكومة في يناير/كانون الثاني الماضي، ورفضه التوقيع على قانون يتعلق بالمحكمة الدستورية وتنصيب نفسه قائدًا أعلى للجيش والقوات الأمنية، وهي جميعها مخالفة للدستور.
إقحام الجيش في لعبة خطيرة
حاول قيس سعيد إقحام الجيش في مخططاته لكنه فشل في ذلك، لكن هذه المرة أقحم الجيش عنوة، إذ فرض عليهم غلق أبواب البرلمان بالسلاسل الحديدية ومنع نواب الشعب من دخول البرلمان لأداء واجباتهم، في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن يعاضد الجيش مجهودات وزارة الصحة لمكافحة فيروس كورونا.
تحدى نواب في البرلمان من حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس ومستقلين قرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد عمل المؤسسة التشريعية، وتوجهوا لمقر البرلمان لممارسة عملهم النيابي بشكل طبيعي، إلا أن عناصر الجيش منعتهم من ذلك.
الآن، الجيش التونسي في امتحان كبير إما أن ينتصر لإرادة التونسيين ومؤسسات الدولة كما حدث في الثورة، وإما أن يأتي في صف الرئيس المنقلب، ويُعرف عن الجيش التونسي دعمه للثورة، إذ يعد الجيش الوطني التونسي ذو العقيدة الجمهورية الاستثناء العربي الوحيد، بانحيازه لإرادة الشعب والتزامه الثكنات وتعففه عن السلطة رغم أنها كانت ملقاة أمامه عشية 14 من يناير/كانون الثاني 2011، لكن الوقت وحده كفيل بتأكيد هذا الأمر أو نفيه.
بالمحصلة، فإن التجربة الديمقراطية التونسية الوليدة تواجه امتحانًا كبيرًا، إما أن تنجح فيه وتدخل تونس بحق نادي الدول الديمقراطية وإما أن تسقط وتعود هذه التجربة الاستثنائية عربيًا سنوات إلى الوراء وترجع إلى نظام الشخص الواحد.