تستكمل الولايات المتحدة الأميركية و”الناتو” إخلاء قواتهما من أفغانستان، على أن تنتهي عملية سحب جميع القوات، باستثناء بعض المستشارين، في نهاية شهر أغسطس/ آب.
تعتزم تركيا بالتعاون مع المجر إبقاء بعض قواتها في محيط مطار كابول الدولي، وتسعى روسيا لأخذ دور أو صُنع نفوذ نسبي هناك، لكن مجلس طالبان العسكري يرفض ذلك. والأهم هو الحديث عن طبيعة العلاقة بين طهران وطالبان بعد توقيع اتفاق الدوحة.
التساؤل المطروح هو: هل ستعود علاقة طهران مع طالبان كما كانت قبل الاحتلال الأميركي؟ وما هي طبيعة العلاقة أصلًا بين الطرفَين؟ وما هي نقاط الاتفاق والاختلاف بين إيران وطالبان؟
طبيعة العلاقة بين الطرفَين
كانت العلاقات بين إيران وطالبان في مسار متوتِّر وغير مستقر منذ سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان وحتى يومنا هذا، حيث كان هناك تسارع في سيطرة طالبان على مساحات واسعة من الأراضي الأفغانية.
وقد تزايد الانغماس الإيراني في أفغانستان بعد رحيل السوفيت وسقوط حكومة نجيب الله عام 1992، وكانت الحرب مع العراق قد انتهت عام 1988، ما سمح لإيران الأكثر استقرارًا حينها بأن تنفقَ من الموارد ما يكفي لنشر نفوذها في أفغانستان، فبدأت جماعات أفغانية في قتال أحدها الآخر، خلال الفترة من عام 1992 حتى عام 1996، من أجل السيطرة على أفغانستان، وبخاصة العاصمة كابول.
في معمعة هذا الصراع، أقدمت طهران على تقديم الدعم العسكري لحزب الوحدة ضد الحكومة المركزية، لذلك بدأت علاقة عداء بين طالبان وطهران.
بعد الانتصار السريع نسبيًّا لحركة طالبان عام 1996، زادت إيران من دعمها، وأصبحت تدعم ما صار يُعرَف باسم تحالف الشمال أو جبهة الشمال، وهي حركة أفغانية معارضة تتألف من ميليشيات تلتفّ حول زعامة رجال أقوياء من الطاجيك والأوزبك والهزارة من شمال أفغانستان.
أظهر الطرفان عام 2005 براغماتية صارخة في طيّ صفحة الخلافات المتعددة، والانخراط في علاقة توافقية ترعى المصالح المشتركة.
في فترة التسعينيات، كانت لإيران علاقات عدائية مع طالبان لفترة بعد أن هاجمت طالبان الشيعة الهزارة في أفغانستان، وكانت ذروة المواجهة الاستيلاء على القنصلية العامة لإيران في مدينة مزار الشريف الأفغانية في أغسطس/ آب 1998، حيث قتلت طالبان العديدَ من أفرد الهزارة الشيعة، مواطنين إيرانيين ودبلوماسيين.
لكن الأمور تغيّرت بعد ذلك بوقتٍ قصير، وجاء التغيُّر على يد محمود أحمدي نجاد الذي تولّى الرئاسة الإيرانية عام 2005، ففي هذه الفترة عزَّزت إيران علاقاتها مع طالبان، وتحوّلت العلاقة من العداء الكامل إلى الصداقة البراغماتية متعددة الجوانب.
التقارب الذي وضعَ أُسُسه الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، جاء وفق معادلة محاربة القوات الأميركية والنفوذ الغربي في أفغانستان، وشملت تقديم دعم لوجستي و تدريب عسكري متنوِّع متقدِّم؛ حيث شمل إنشاء طالبان بعض معسكرات التدريب في المدن الإيرانية.
استمرت طبيعة العلاقة على ذلك حتى بعد مغادرة نجادي منصبه، حيث بقي الهدف واحدًا، لكن في عام 2015 خفّفت إيران من طبيعة تعاونها مع طالبان، بُغية تلطيف الأجواء مع الجانب الأميركي، حيث تمَّ التوصُّل لاتفاق مبدئي حينها على السلاح النووي.
بموازاة ذلك، عززت طهران بعد عام 2015 علاقاتها مع الحركات الشيعية في أفغانستان، أقلية الهزارة الشيعية شمال ووسط أفغانستان، بُغية شحن أكبر قدر ممكن من المقاتلين الأفغان إلى سوريا لمواجهة النفوذ الروسي الذي كان في طور النمو، بعد تدخُّل روسيا المباشر في سوريا.
نقاط التوافق بين الطرفَين
أظهر الطرفان عام 2005 براغماتية صارخة في طيّ صفحة الخلافات المتعددة، والانخراط في علاقة توافقية ترعى المصالح المشتركة.
يتوافق الطرفان في النقاط التالية:
أولًا: محاربة النفوذ الغربي بكافة أشكاله، والمرشد العام لإيران هو الدافع الأساسي لهذه النقطة، حيث أقام المسؤولون الإيرانيون علاقات مع العديد من قادة طالبان ذوي النفوذ، بمن فيهم أولئك الذين يتربّعون على قمة الحركة، من أجل استنزاف القوات الغربية عسكريًّا في أفغانستان، ومنع السيطرة السياسية الضمنية على أفغانستان -بما في ذلك الحدود مع إيران- من قِبل الأميركيين.
اعتبرَ النظام الإيراني أنه في صراع وجودي مع الولايات المتحدة منذ وصوله إلى السلطة عام 1979، لذلك كانت أولوية الحرس الثوري الإيراني هي مواجهة المصالح الغربية على الأراضي الأفغانية.
ثانيًا: محاربة نفوذ تنظيم “داعش”. تبرِّر إيران تقاربها مع حركة طالبان بمحاربة تنظيم الدولة “داعش”، والحد من نفوذه في أفغانستان، إذ تَعتبر إيران تنظيم الدولة خطرًا على أمنها.
وجدت طهران مصلحةً مشترَكة ظاهرية مع طالبان في مواجهة “داعش”، حيث تمكّنت إيران، تحت غطاء محاربة “داعش”، تقديم الدعم اللازم لحركة طالبان لمواجهة الإرهابيين، في حين تمكّنت طالبان إلى حد كبير من احتواء “داعش” في عدد قليل من المناطق الشرقية في أفغانستان.
ثالثًا: إحلال الاستقرار في أفغانستان بعد سنواتٍ طويلة من الفوضى. خلّفت الحرب على أفغانستان منذ الاحتلال السوفيتي، مرورًا بالاحتلال الأميركي والنزاع الداخلي على السلطة بين جميع الأطراف، الكثير من الدمار والفوضى الداخلية والخارجية، في حين ترى إيران في الاستقرار وإحلال السلام في أفغانستان فرصة في إعادة ترتيب بعض الملفات، كملفّ النزاع حول المياه مع أفغانستان.
تُعتبر النزاعات حول حقوق المياه بين كل من إيران وأفغانستان، مصدرًا دائمًا للتوتر بين البلدَين، تعود جذوره إلى القرن التاسع عشر. وقد تركزت النزاعات في أغلبها حول نهر هلمند، كما وقّعت إيران وأفغانستان على اتفاق عام 1973 حدّدَ طريقةً لتنظيم استغلال كلا البلدَين لمياه النهر، إلّا إن الاتفاق لم يتم تنفيذه بشكل كامل نتيجة الاضطرابات الموجودة في أفغانستان.
بالإضافة إلى محاولة إيران منع أو الحدّ من تهريب المخدرات من أفغانستان إلى داخل أراضيها، حيث أفغانستان، التي تُعتبَر أكبر منتج للأفيون في العالم، هي المصدر الرئيسي لمشكلة المخدرات التي تدخل إلى إيران، ولا تملك طهران ما يكفي من الموارد لمنع تدفُّق المخدرات عبر أراضيها بشكل كامل، رغم أنها تبذل قدرًا كبيرًا من الجهد في هذا الصدد، فالاستقرار الداخلي يساعد إيران على الحد من انتشار المخدرات أو تهريبها عن طريق الحدود.
كما تأمل إيران في حلّ أزمة مئات الآلاف من اللاجئين الأفغان على أراضيها، وقـد أخذ اللاجئون يتدفّقون إلى إيران منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين، في أعقاب الثورة الأفغانية وما تبعها من غزو سوفيتي لأفغانستان.
رابعًا: تجنُّب طالبان التعرّض للأقليات الشيعية والفارسية في أفغانستان، وهذا رابط أساسي للعلاقات بين الطرفَين، وقد أكّدت طالبان لطهران، خلال اللقاء الأخير، أنها لا تنوي التعرض لأي شيعي شريطة ابتعاد الحركات الشيعية عن تعكير صفو التوافق المذهبي في أفغانستان.
نقاط الخلاف بين الطرفَين
أولًا: العداء الأيديولوجي والعرقي. ترى طالبان أن طهران تتدخّل بشكلٍ سافر في الشؤون الداخلية لأفغانستان، من خلال علاقاتها مع الشيعة والأفغان ذوي الأصول الفارسية، بينما حركة طالبان سنّية متشدِّدة وأفغانية الأصل، ما يخلق خلافًا حادًّا.
طالبان وطهران تحرصان على علاقات براغماتية قدر الإمكان، رغم حجم ومساحات الخلاف الهائلة بينهما.
ثانيًا: الاستغلال الإيراني للأفغان الشيعة في حروبها العابرة للحدود. استفادت إيران من اللاجئين الأفغان في تشكيل ميليشيا مذهبية استعانت بها في عملياتها القتالية بسوريا.
شكّل فيلق “فاطميون” رأس الحربة الإيرانية في الحرب السورية منذ عام 2012، حين أُدخل الساحة السورية بذريعة حماية المزارات الشيعية. تعود جذور فيلق “فاطميون” الأفغاني إلى بداية الحرب العراقية-الإيرانية عام 1980، يوم جنَّد الحرس الثوري الإيراني المئات من المقاتلين الأفغان للقتال في صفوفه، مستغلًّا وجود الملايين منهم كلاجئين على أرضه، نتيجة الغزو السوفيتي لأفغانستان في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1979.
يُقسِّم بعض الباحثين المقاتلين الشيعة الأفغان في سوريا إلى 3 أقسام، القسم الأول: لاجئين من الهزارة الشيعة الذين لجؤوا إلى سوريا وسكنوا قرب حي السيدة زينب بدمشق خلال الحرب الأفغانية، وعددهم ربما يصل إلى 2000 شخص، وقسم ثانٍ ممّن تمَّ تجنيدهم في إيران، وهم الغالبية العظمى، والقسم الثالث أتوا من داخل أفغانستان، ويدلِّلون على مشاركة الأفغان المقيمين في السيدة زينب بعلي صالحي، الذي كان من أوائل القتلى الذين شاركوا إلى جانب النظام.
ثالثًا: تستعدّ إيران للفراغ الذي سينجم عن رحيل القوات الأميركية من أفغانستان، فهي تخشى أن تكون حركة طالبان المرشّح الوحيد لملء هذا الفراغ، ما دفعها إلى تقديم عرض على حكومة كابول بالاستعانة بمقاتلي فيلق “فاطميون” المتواجدين في سوريا لحماية كابول، وتعتبر طالبان ذلك خطرًا جسيمًا على نفوذها ووحدة أفغانستان المذهبية، كما ترى فيه تراجعًا إيرانيًّا عن أُسُس التوافق.
رابعًا: الاعتراف الدولي. تريد حركة طالبان بإيجاد هذه العلاقات أن تكسر الحصار المضروب عليها من قِبل واشنطن وحلفائها، وتُنهي عزلتها السياسية، وتكسب اعتراف دول المنطقة وتثبت وجودها كقوة سياسية وعسكرية معتدلة، لذلك تسعى طالبان لتوسيع عدد الدُّول المُعترِفة بها دوليًّا كالدوحة وإسلام آباد، لكن إيران تحاول الحيلولة دون ذلك، لعدم كسب طالبان أوراق قوة.
خامسًا: خشية طهران من استعانة طالبان بموسكو ومنظمة شنغهاي، بهدف الحصول على عتاد يزيد من قوتها العسكرية واللوجستية، كما أنها تريد أن تخرج بذلك من الوصاية الباكستانية التي تريد أن تجرّها لمصالحها، كما أنها بحاجة إلى المساعدات العسكرية والتسليح والذخيرة والمساعدات المالية في الحرب التي تخوضها في أفغانستان، وكل ذلك لا يمكن إلا عن طريق إيجاد وبناء علاقات مع الدول والمنظمات الإقليمية والدولية.
الخلاصة؛ طالبان وطهران تحرصان على علاقات براغماتية قدر الإمكان، رغم حجم ومساحات الخلاف الهائلة بينهما. طهران تقف ضد تسلُّم طالبان الحكم لوحدها، لكنها مع انخراطها في الحكم بالتمثيل النسبي، كي لا تُصبح طالبان مصدر قلق لفترةٍ طويلة.