فشلت قوات النظام السوري والميليشيات المدعومة من روسيا في إضعاف مجموعات تنظيم “داعش” في البادية السورية، رغم التغطية النارية الروسية التي تمَّ توفيرها للميليشيات برًّا وجوًّا.
وبدت مجموعات التنظيم أكثر تكيُّفًا مع الواقع الميداني المتغيّر باستمرار، وذلك من خلال التطوير الدائم لوسائلها ولأدواتها المتّبعة في الدفاع والهجوم، بالإضافة إلى عمليات التخفي والاحتماء من النيران والهجمات البرّية المنتظمة، والتي تعكس خبرة واسعة لعناصر التنظيم بجغرافية المنطقة الصحراوية التي اكتسبوها على مدى الأعوام القليلة الماضية، التي تلت الانهيار المكاني لدولة التنظيم المزعومة.
خسرت قوات النظام والميليشيات الموالية لها خلال الأسبوعَين الماضيَّين العشرات من عناصرها، في هجمات للتنظيم استهدفت مواقعهما في منطقة الرصافة ببادية الرقة، وبشكل أكبر في منطقة جبل البشري الممتدة في باديتَي الرقة ودير الزور جنوب الفرات.
كما قُتل عدد آخر من العناصر في هجمات وكمائن متفرِّقة نفّذتها مجموعات التنظيم على الطريق الدولي دير الزور-حمص، وعلى الطُّرُق المتفرِّعة من عقدة الرصافة جنوب الرقة.
وعثرت قوات النظام والمليشيات على عدد من عناصرها الذين تاهوا في بادية حمص نهاية شهر حزيران/ يونيو الماضي في باديتَي تدمر والسخنة في بادية حمص، وقامَ التنظيم بتفخيخ عدد من جثث قتلاه لكي يوقع المزيد من القتلى في صفوف خصومه.
هل تقلب الميليشيات الإيرانية ميزان القوة؟
يبدو أن تكلفة العمليات البرّية الفاشلة لقوات النظام والميليشيات الروسية خلال شهرَي يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز كانت مرتفعة جدًّا، ما مهّد مؤخّرًا لدخول أكثر كثافة للميليشيات الإيرانية على خطّ العمليات البرية، وذلك بهدف تعديل الموقف الميداني والحدّ من انتشار التنظيم وإفشال عملياته التي تستهدف غالبًا الطرق والمواقع الحيوية في البادية.
وتتصدّر ميليشيا “فاطميون” الأفغانية قائمة الميليشيات الإيرانية المشترِكة في معارك البادية، من ناحية الأعداد وقطاعات الانتشار والتمركز، وتتقاسم “فاطميون” عددًا من المواقع وإدارة العمليات في بعض القطاعات مع مجموعات حزب الله اللبناني، التي انخرطت أيضًا في معارك البادية وفي قطاعات معيّنة في باديتَي حماة وحمص.
قال المحلِّل العسكري العقيد مصطفى بكور في حديثه لـ”نون بوست”، إن “قوات النظام والميليشيات التابعة لروسيا تعرّضت في الفترة الأخيرة لخسائر كبيرة خلال معارك البادية السورية، رغم الجهد الجوّي الروسي الذي تمّ استخدامه ضد التنظيم، فلواء القدس على سبيل المثال خسرَ أكثر من 50 عنصرًا بين قتيل وجريح خلال الشهرَين الماضيَّين، وتاهت مجموعات كاملة لقوات النمر في بعض قطاعات البادية ووقعت بكمائن للتنظيم”.
ويكمل العقيد بكور: “كما انسحبت مجموعات أخرى خوفًا من أن تلقى المصير نفسه، لذا كان متوقعًا أن يستنجد النظام وروسيا بالميليشيات الإيرانية لحماية المواقع الحيوية، كحقول النفط والفوسفات والطرق السريعة، كون الميليشيات الإيرانية أكثر خبرة في هكذا نوع من المواجهات، التي تعتمد تكتيك حرب العصابات، بالإضافة إلى كونها الأقدر على القتال في ظروف البيئة الصحراوية”.
من مصلحة الميليشيات الإيرانية الاشتراك بشكل أكبر في العمليات، التي ستعمل من خلالها على تأمين شبكة الطرق الواصلة بين وسط وشرقي سوريا والحدود مع العراق.
وأضاف العقيد بكور أن “العامل الأيديولوجي العقائدي يميّز الميليشيات الإيرانية عن قوات النظام وعن تلك المدعومة من روسيا، فمثلًا قوات النمر (الفرقة 25 مهام خاصة) لا تمتلك عقيدة قتالية قائمة على أساس ديني، حيث تم تشكيلها من مجموعات من المعفّشين قليلي الخبرة، بينما الميليشيات الإيرانية تقاتل بدافع ديني وتقاتل لأجل مشروع إيران الكبير، وعناصرها لديهم خبرة قتالية طويلة بالقتال في ظروف بيئية مشابهة، في العراق وسوريا وعلى مدى أكثر من 9 سنوات”.
وأوضح العقيد بكور أن “من مصلحة الميليشيات الإيرانية الاشتراك بشكل أكبر في العمليات، التي ستعمل من خلالها على تأمين شبكة الطرق الواصلة بين وسط وشرقي سوريا والحدود مع العراق، ومن المفترض أن تتيح لها أيضًا فرصة الانتشار بشكل أوسع، ودخول مناطق كانت واقعة تحت نفوذ القوات الروسية والميليشيات التي تدعمها، وبشكل خاص في باديتَي حمص وحماة وصولًا إلى بادية الرقة الجنوبية (منطقة الرصافة) وعقدة الطرق في البادية الشمالية”.
مكملًا: “كما إن الانتشار الواسع يؤمّن للميليشيات الإيرانية تمركزًا آمنًا وغير تقليدي وبعيدًا عن نيران التحالف و”إسرائيل”، والتي تركزت خلال الفترة الماضية على مواقع الانتشار التقليدية في محافظات حمص ودير الزور وحلب”.
وأشار العقيد بكور إلى أن “كثافة انتشار الميليشيات الإيرانية، واشتراكها في المعارك في كافة جبهات البادية الى جانب الميليشيات المدعومة من روسيا، لن يكون له التأثير الفعلي إذا لم يتم تغيير التكتيكات التقليدية المتّبعة بشكل يتلاءم مع طبيعة المنطقة الوعرة ومساحتها الكبيرة”.
مضيفًا: “النيران الكثيفة والأعداد الكبيرة للقوات المهاجمة والباحثة عن مجموعات التنظيم، لن يكون لها تأثير طويل الأمد إذا لم تنفِّذ عمليات انتشار واسعة تعيقُ تحرُّك مجموعات التنظيم وتقطع طُرُق إمداده، فالتنظيم يواصل تطوير تكتيكاته باستمرار ليحافظ على طُرُق إمداده وفاعلية مجموعاته المتحركة، وهو يدرك تمامًا أنه يمتلك العديد من نقاط القوة التي لا يمتلكها خصومه، وذلك بالاعتماد على جغرافية البادية ومساحاتها الشاسعة، وامتلاكه للعنصر البشري المدرَّب على القتال والبقاء في مثل هذه الظروف، والذي يبدو أنه مستعدّ لمواصلة القتال حتى الموت”.
تكتيكات النظام وحلفائه
استحوذت العمليات ضد التنظيم في البادية السورية على جزء لا بأس به من اهتمام النظام وحلفائه منذ بداية العام 2021، وتزامن ذلك مع تحركات النظام وروسيا الهادفة إلى إعادة تشغيل واستثمار حقول النفط والفوسفات المتوقِّفة عن العمل وتأمين طرق إمدادها.
وخلال النصف الأول من العام، كان الجزء الأكبر من الجهد الحربي يقع على عاتق قوات النظام والميليشيات المدعومة من روسيا، في حين كانت عمليات الميليشيات الإيرانية تتركز في قطاعات محدودة في بادية دير الزور، وبشكل أقل في بادية حماة التي اشتركت في معاركها ميليشيا “لواء الباقر” المدعومة من إيران.
عوّلَت قوات النظام وقيادة العمليات الروسية في معارك البادية على كثافة النيران لإضعاف التنظيم وشلّ حركة مجموعاته، وبدأت فعليًّا بشنِّ غاراتٍ جوية منتظمة مستهدِفة مواقع انتشار التنظيم حول السخنة وبادية حمص وفي باديتَي حماة ودير الزور.
وأمّنت النيران الجوية الكثيفة للقوات البرية تقدُّمًا سلسًا على حساب مجموعات التنظيم، لكن التقدُّم وتأمين المناطق كانا مؤقتَين، وكانت مجموعات التنظيم تعود إلى مواقعها بعد أن تنفِّذ عدة هجمات مباغتة ومكلفة بالنسبة إلى القوات المتمركزة من “لواء القدس” و”الحرس الجمهوري” و”الفرقة 17″.
استقدمت الميليشيات الروسية عددًا من كاسحات الألغام لاستخدامها في عمليات التمشيط في محيط المواقع الحيوية، وأثناء التتبُّع والملاحقة البرّية.
فشل العمليات البرية والكلفة العالية دفعت “قوات النمر”، التي يتزعّمها العميد المقرَّب من روسيا سهيل الحسن، إلى الدخول في ميدان المعارك منذ بداية شهر يونيو/ حزيران الماضي، وظهر الحسن في عدد من المواقع في باديتَي حلب وحماة مع مجموعات الطه والهواشم وغيرهما من المجموعات التي يتزعّمها الحسن، والتي لم يكن لدخولها الأثر الكبير في تغيير مجريات المعركة.
كما تمّ إشراك ميليشيات عشائرية محلية في العمليات، للاستفادة منها في تأمين الطرق ومواقع الانتشار، وذلك بحُكم خبرتهم بجغرافية المنطقة، وقد ضمّت “قوات النمر” إلى صفوفها المئات من متطوّعي العشائر الذين ينحدرون من ريفَي الرقة الجنوبي وحلب الشرقي، للزجِّ بهم في معارك البادية.
خلال شهرَي يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز، اتّبعت القوات البرّية المدعومة من روسيا عدة تكتيكات لمنع عودة التنظيم، وانتشار مجموعاته في المناطق التي أُجبر على الانسحاب منها، بفعل ضغط النيران الكثيفة برًّا وجوًّا.
أهم تلك التكتيكات تدمير المخابئ والكهوف بالقصف الجوي، أو من خلال زرع كميات كبيرة من المتفجِّرات، كما نفّذَت قوات النظام والميليشيات الروسية حملةَ تدمير منظَّمة للقرى والتجمعات العمرانية البدائية، التي سُوّيت بالأرض بعد أن نزحَ عنها أصحابها البدو السوريون، وذلك لحرمان مجموعات التنظيم من أي مأوى يمكن أن يلجأوا إليه ويستخدموه في الهجمات على أرتال قوات النظام.
واستقدمت الميليشيات الروسية عددًا من كاسحات الألغام، لاستخدامها في عمليات “التمشيط” في محيط المواقع الحيوية، وأثناء التتبُّع والملاحقة البرّية، وفي المقابل كانت مجموعات التنظيم تطور تكتيكات البقاء مع كل تغيُّر ميداني من جانب قوات النظام والميليشيات.
تكتيكات التنظيم
طوّرَت مجموعات التنظيم تكتيكات المواجهة أكثر من مرة منذ بداية العام 2021، وذلك بالتزامُن مع تركيز الجهد الحربي للنظام وحلفائه ضدّها.
ففي الرُّبع الأول من العام، حرص التنظيم على اتِّباع تكتيك حرب العصابات، والذي تسبّب في مقتل وإصابة أعداد كبيرة من قوات النظام، وأعاق حركة النقل البرّي، واشتهرت مجموعات التنظيم في تلك الفترة باستخدام الدراجات النارية التي أمّنت لها سرعة التحرك والهجوم، وباتت مساحات واسعة من البادية محظورة على أرتال قوات النظام.
اضطر التنظيم مرة أخرى لتغيير تكتيكه، بعد أن ازدادت كثافة القصف الجوي الروسي، ودخلت طائرات الاستطلاع الروسية سماء البادية التي لاحقت مجموعاته المتحركة والثابتة، وتسببت في مقتل العشرات منهم.
وبالتالي ظهر تكتيك جديد يعتمد على زراعة الألغام وتطويق المواقع الحيوية ونقاط قوات النظام والميليشيات، بالإضافة الى تلغيم الطرق بحقول من الألغام البدائية التي تسببت في مقتل أعداد كبيرة من العناصر، وقطعت طُرُق إمدادهم في أكثر من منطقة.
منطقتا الرصافة وجبل البشري هما الآن محور اهتمام جماعات التنظيم المهاجِمة.
قالت مصادر محلية متطابقة في بادية الرصافة لـ”نون بوست”، إن “التنظيم طوّر تكتيكاته بالتزامن مع كثافة انتشار الميليشيات الإيرانية واشتراكها في العمليات ضدّه، ويعتمد تكتيكه المفترَض على رصد وتتبُّع التحركات العسكرية لخصومه، واستدراج مجموعاتهم ومن ثم استهدافها”.
وتكمل المصادر المحلية: “وغالبًا تكون الأهداف أرتالًا صغيرة لنقل المؤن والمحروقات وتبديل العناصر، ولا تزيد عدد الآليات في الأرتال المستهدفة عن 5 آليات، كما تقوم مجموعات الرصد التابعة للتنظيم باستدراج عناصر النظام أثناء تنفيذ عمليات التمشيط، وما أن تحين الفرصة حتى يتم الانقضاض عليهم وقتلهم”.
مضيفةً أن “التنظيم وبالتزامُن مع الواقع الميداني المستجدّ، نقلَ نشاطَهُ من المناطق الخالية الى المناطق ذات الوجود السكاني، بهدف التخفّي وتوجيه الضربات الموجعة للميليشيات في مناطق تمركزها الرئيسية”.
أخيرًا.. يبدو أن منطقتَي الرصافة وجبل البشري هما الآن -طبقًا لمصادرنا – محور اهتمام جماعات التنظيم المهاجمة، وقد استهدف التنظيم في الفترة القريبة الماضية في المنطقتَين ثكنات ومواقع تابعة للفرقة 17 ولقوات النمر والدفاع الوطني، ومواقع لميليشيات عشائرية محلية متعاونة ومساندة للحملات ضد التنظيم.