تتعقد الأوضاع بمنطقة الساحل الإفريقي يومًا بعد يوم، فأحداث القتل والعنف صارت من يوميات المناطق الحدودية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وذلك في وقت تتوالى فيه أخبار إعلان القوات الأجنبية الموجودة هناك الانسحاب والعودة من حيث أتت، وفي مقدمتها الجيش الفرنسي، وهو ما جعل الصحافة في باريس لا تستبعد أن تتحول المنطقة – خاصة مالي – إلى أفغانستان جديدة، فهل الأوضاع تسير حقًا نحو أفغنة الساحل أم أن هذا الأمر يتعلق بحملة دعائية تعمل على إبقاء باريس هناك أطول مدة ممكنة؟
ووسط هذا الوضع الذي يزداد تأزيمًا، تجد دول الجوار، وفي مقدمتها الجزائر التي ترعى الوساطة في مالي وتحاول تعزيز تعاونها الاقتصادي ضمن سياستها الجديدة التي تستهدف الساحة الإفريقية، نفسها أمام تحديات جديدة لا تتعلق بأمنها الحدودي فقط إنما أيضًا بمستقبلها الاقتصادي.
تصعيد
لا تكاد أنباء القتل تنتهي حتى تبدأ أخرى بمنطقة الساحل، خاصة منطقة الحدود الثلاثة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، هذه الأخيرة التي شهدت في أقل من أسبوعين هجومين داميين في تيلابيري الواقعة في هذه المنطقة.
أودى الهجوم الأول الذي وقع الأربعاء الماضي بحياة 37 مدنيًا بقرية داري-داي، نفذه مسلحون كانوا على متن دراجات نارية وأطلقوا النار على أشخاص كانوا يزرعون الأرض، بينما أسفر الثاني عن مقتل 19 شخصًا وجرح اثنين في مسجد بقرية تيم في منطقة أنزورو، ونفذه مسلحون وصلوا سيرًا على الأقدام ولم تحدد هوياتهم.
ويبدو من هذه الهجمات أن الأمر لا يتعلق بنشاط الجماعات الإرهابية التقليدية التي تتعلق بالتطرف الديني وصراع النفوذ ضد الحكومات والقبائل المحلية، إنما بمخطط يهدف إلى إبقاء المنطقة في حالة من الاستنفار وعدم الاستقرار والعنف.
ولا تعد هذه المأساة الأولى بالقرية البعيدة بنحو 40 كيلومترًا شرق بلدة بانيبانغو، فقد شهدت منتصف مارس/آذار الماضي هجومًا شنه مسلحون على سيارات عائدة من السوق الأسبوعية في بانيبنغو، كانت حصيلته 66 قتيلًا.
يلاحظ أن المسلحين غيروا أهدافهم، فمنذ بداية يونيو/حزيران صارت هجماتهم تستهدف بالأساس المدنيين العاملين في الحقول، وكأن الأمر يتعلق بحرب اقتصادية واستهداف لقوت السكان المحليين، ففي 9 من أغسطس/آب الحاليّ، هاجم مسلحون مواطنين يعملون بحقل بقرية فالانزاندان في منطقة بانيبانغو وقتلوا 15 شخصًا.
تواجه فرنسا في السنوات الأخيرة بعد أكثر من 9 سنوات من التدخل العسكري بمالي موجة احتجاجات متوالية من السكان المحليين
وبالجارة الغربية للنيجر، لا يختلف الوضع كثيرًا، ففي مالي التي تعاني منذ سنوات من التردي الأمني وعدم الاستقرار السياسي، آخرها الانقلاب العسكري الأخير، لقي 11 جنديًا مصرعهم وأصيب 11 آخرين إثر وقوعهم في كمين إرهابي وسط البلاد، في منطقة توجد بها القوات المالية والأوروبية إلى جانب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وخلال الشهر الحاليّ قتل أكثر من 50 شخصًا عندما أغار إرهابيون على ثلاث قرى وسط مالي.
وبالجارة الجنوبية لمالي والنيجر، بوركينا فاسو، لا تسير الأوضاع أيضًا نحو التحسن، فقد خلف هجوم نفذه متشددون قبل أيام على قافلة مدنية كانت الشرطة العسكرية ترافقها قرب بلدة أربيندا قرب الحدود مع مالي مقتل 120 شخصًا.
تخل مقصود
رغم نزوح الأوضاع في منطقة الساحل وبالخصوص بمالي نحو التأزم، فإن القوات الأجنبية وفي مقدمتها الفرنسية قررت التخلي عن مهمتها بالمنطقة، وهي التي كان تدخلها عسكريًا جزءًا من المشكلة وتأزيم الأوضاع الأمنية، خاصة بدفعها فديات للجماعات الإرهابية مقابل إطلاق الرهائن رغم تجريم الأمم المتحدة لذلك.
في الـ9 من يوليو/تموز الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستغلق قواعدها العسكرية في كيدال وتيساليت وتمبكتو شمال مالي، وسيستكمل هذا الانسحاب بحلول مطلع العام 2022.
وتواجه فرنسا في السنوات الأخيرة بعد أكثر من 9 سنوات من التدخل العسكري بمالي موجة احتجاجات متوالية من السكان المحليين تنادي برحيل القوات الفرنسية من البلاد، كونها قوات احتلال لا قوات مساندة لمالي.
وعلى عكس ما يروج في وسائل الإعلام، فإن باريس لن تنسحب من الساحل إنما ستبدل خططها بالمنطقة، لإظهار الحاجة لوجودها هناك بعد ارتفاع الغضب الشعب المحلي المطالب برحيلها، فستقوم بتخفيض عدد قواتها في منطقة الساحل إلى ما بين 2500 و3 آلاف عنصر في المنطقة، مقابل 5100 حاليًّا، وذلك في إطار إنهاء عملية برخان العسكرية التي كلفتها مقتل 50 عسكريًا فرنسيًا على الأقل في أسوأ هزيمة للجيش الفرنسي خارج الحدود في الألفية الجديدة.
ولم تكتف باريس بتخفيض عدد قواتها فقط، إنما بدأت تضغط على القوات الأجنبية الموجودة هناك للسير مع قرارها، خاصة تلك التي ما زالت تحت نفوذها، والبداية كانت بإعلان تشاد في 22 من أغسطس/آب الحاليّ الالتحاق بالموقف الفرنسي، وسحب 600 من أصل 1200 جندي من قواتها المتمركزة بمنطقة الحدود الثلاثة.
رغم التردي الأمني الموجود بمنطقة الساحل، فإن ما يدحض الدعاية الفرنسية المتعلقة بإمكانية أفغنة الساحل هو اختلاف الظروف في البلدين
قال المتحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي في تشاد الجنرال عظيم برماندوا إن قرار سحب 600 جندي تشادي من بين 1200 تم نشرها في فبراير/شباط الماضي ضمن قوة مجموعة دول الساحل الخمسة لمكافحة الجماعات الإرهابية في منطقة المثلث الحدودي “اتخذ بالاتفاق مع حلفاء تشاد بمنطقة الساحل”، دون الإفصاح عن هؤلاء الحلفاء بالذات، لكن من المؤكد أن ذلك تم تنفيذًا لقرارات فرنسية.
وبالنظر إلى حجم خفض القوات الأجنبية من الساحل يتضح أنه لا يتعدى النصف، إذ ستبقي كل من باريس ونجامينا مجتمعتين على أكثر من 3 آلاف جندي وحدهما، دون حساب القوات الأجنبية الأخرى والأممية الموجودة بالمنطقة، لذلك تبقى هذه الخطوة انسحابًا شكليًا لا يعفي باريس وشركاءها هناك من أي إخفاق أمام الجماعات المسلحة.
دعاية ممنهجة
من المؤكد، أن لا أحد عاقل يمكنه تصديق الأكذوبة الفرنسية المتعلقة بقرار انسحابها عسكريًا من الساحل، ومن مالي على وجه الخصوص، وهو ما يظهر أولًا من أن قرارها يتعلق بتخفيض عدد القوات، الذي يمكن رفعه في أي وقت مثلما تم خفضه، لأن الأمر يتعلق في الأساس بتراجع النفوذ الفرنسي بالمنطقة لصالح لاعبين جدد في مقدمتهم روسيا التي كانت وراء الانقلاب العسكري الذي تم في أغسطس/آب 2020 دون قدرة باريس على منع إسقاط نظام حليفها السابق إبراهيم أبو بكر كايتا.
ولتبرير العدول عن هذه الحيلة الفرنسية، تتجند منذ أسابيع وسائل الإعلام الفرنسية في حملة تحت عنوان واحد هو الخوف من أفغنة الساحل، وتحول مالي إلى أفغانستان جديدة، رغم أن أوجه المقارنة بين البلدين مختلفة.
وتظهر هذه الحملة الهادفة إلى تشبيه مالي بأفغانستان، بتشابه عناوين ومضامين رسائل وسائل الإعلام الفرنسية، فقد عنونت قبل أيام مجلة “لوبوان” قائلة: “في الساحل: كل الأنظار تتجه نحو كابول“، محذرة من تكرار السيناريو الأفغاني وإمكانية سقوط العاصمة باماكو، خاصة في ظل فك الانسحاب الفرنسي الجزئي، رغم أن القوات الفرنسية لن تغادر العاصمة المالية، وانسحابها سيكون من المدن الشمالية للبلاد المجاورة للجزائر، التي لم تحرز بها القوات الفرنسة أي تقدم ملموس، رغم إعلانها في كل مرة القضاء على قادة في الجماعات الإرهابيين أبرزهم زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب عبد المالك درودكال.
وبعنوان مشابه، جاء أحد عناوين “لومند” قائلًا إن صدى انتصار طالبان يتردد في منطقة الساحل الإفريقي، كما تساءلت القناة الفرنسية الخامسة الموجهة نحو إفريقيا: “هل سيكون مصير الساحل مشابهًا لأفغانستان”؟
بالنظر إلى باقي دول الساحل الأخرى، فإن الوضع بعيد كليًا عن حال أفغانستان، ففي النيجر تتم انتخابات وانتقال للسلطة وفق ما تنص عليه قوانين المؤسسات الدستورية، والأمر لا يختلف في بوركينا فاسو
وموازاة مع هذه الدعاية التي تقوم بها وسائل الإعلام لتثبيت البقاء الفرنسي في الساحل، وبالخصوص بمالي، تتحرك المعارضة بباريس على النحو ذاته، فقد قال كزافييه برتراند – المرشح الأوفر حظًا بين المحافظين في سباق المتنافسين بانتخابات الرئاسة أبريل/نيسان القادم -: “ماكرون ارتكب خطأ فادحًا بإعلانه قرب انتهاء عملية برخان الفرنسية في مالي والدول المجاورة”، وقال برتراند لصحيفة “جورنال دو ديمانش”: “يجب أن نبقى في مالي حتى إبادة الجماعات الإرهابية المسلحة”.
اختلاف
رغم التردي الأمني الموجود بمنطقة الساحل، فإن ما يدحض الدعاية الفرنسية المتعلقة بإمكانية أفغنة الساحل هو اختلاف الظروف في البلدين، ومنها أنه لا توجد بالساحل وخاصة بمالي جهة مسلحة بقوة طالبان بالنظر للخلافات الموجودة بين الجماعات المسلحة التي لم تستطع إخفاءها عندما سيطرت على مدن في الشمال سنة 2012، إضافة إلى أن هناك إجماعًا شعبيًا على رفض العمل الإرهابي، وتجند لمقاومة الجماعات المسلحة رغم الإخفاقات المتكررة التي لا تتحملها الحكومة المحلية وحدها فقط إنما أيضًا المجتمع الدولي وفي مقدمته فرنسا.
إضافة إلى ذلك، فإنه رغم الانقلابات المتكررة بمالي، لا يمكن الحديث عن غياب الدولة مثلما تقول وسائل الإعلام الفرنسية، لأنه لولا وجود الدولة لما استطاعت البلاد الحفاظ على مؤسساتها الرسمية رغم وقوع انقلابين عسكريين في أقل من سنة، ما يعني أن الخلاف الموجود في مالي يعكس صراعًا بين أجنحة النظام وليس غيابًا كليًا لمؤسسات الدولة مثلما هو الأمر في أفغانستان، وفي مقدمة هذه المؤسسات الجيش المالي الذي استطاع الحفاظ على نفسه كمؤسسة قائمة في البلاد رغم عمليات الانقلاب التي قادها عناصر منه.
وبالنظر إلى باقي دول الساحل الأخرى، فإن الوضع بعيد كليًا عن حال أفغانستان، ففي النيجر تتم انتخابات وانتقال للسلطة وفق ما تنص عليه قوانين المؤسسات الدستورية، والأمر لا يختلف ببوركينا فاسو رغم كل ما يقال عن الممارسة الديمقراطية بإفريقيا.
جهود
ما قد يقلل من المخاوف الفرنسية ومن حجم تشبيهها بالوضع الأفغاني، أن في الساحل جهودًا حقيقيةً لتحسين الأوضاع ابتداءً من التشبث باتفاقية الجزائر 2015 بالنسبة لمالي، ودعم عمل مجموعة غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي بالنسبة للنيجر وبوركينا فاسو وباقي بلدان منطقة الساحل.
إن كان الدور الجزائري بمنطقة الساحل لا أحد ينكره، إلا أنه مع التعقيدات المختلفة التي تعيشها البلاد والمنطقة تجعل من مهمتها أكثر صعوبة وتتطلب تنسيقًا مع عدة أطراف
وبعد تصاعد تكرار أسطوانة التشبيه بين أفغانستان والساحل، كثفت الجزائر التي ترعى الوساطة في مالي من تحركاتها، فبعد استقبالها قبل أسبوعين وزير الخارجية المالي عبد اللاوي ديوب، في زيارة استمرت يومين، ورئيس بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، القاسم واين، حل الأربعاء الماضي وزير الخارجية رمطان لعمامرة ببماكو في زيارة استمرت يومين.
وقال لعمامرة: “كان لي لقاء ثري مع رئيس الدولة عاصيمي غويتا، فقد أبلغته التحيات الأخوية والرسالة الشفوية من أخيه الرئيس عبد المجيد تبون، كما استعرضنا العلاقات التاريخية بين بلدينا وسبل ترقيتها وكذا آفاق التسريع من وتيرة عملية السلم والمصالحة، فضلًا عن تبادل وجهات النظر بشأن الأوضاع في المنطقة”.
وأشارت الخارجية الجزائرية إلى أن لعمامرة أجرى مشاورات ثرية مع وزير الخارجية المالي عبد اللاي ديوب، ووزير المصالحة الوطنية إسماعيل واغي.
وأوضحت الخارجية أن “الجانبين سجلا توافق المواقف بشأن جل القضايا التي تم التطرق إليها، خاصة تعزيز الطابع الإستراتيجي للعلاقات بين الجزائر ومالي، وإضفاء ديناميكية جديدة على مسار السلم والمصالحة الوطنية، فضلًا عن الأوضاع في المنطقة وعلى مستوى القارة”.
وفي 20 من أغسطس/آب الحاليّ، أعربت الجزائر عن قلقها لتجدد وتصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية الخطيرة التي سجلت في عدد من دول الساحل والصحراء خلال الأسابيع والأيام الأخيرة.
ويأتي هذا التحرك الجزائري وسط قناعة لدى جهات عدة أن الانسحاب العسكري الفرنسي الجزئي من مالي والتهويل الإعلامي بخصوص أفغنة الساحل ما هي إلا رسالة موجهة بالأساس نحو الجزائر التي تحاول جهات فرنسية بكل الطرق دفعها للتدخل عسكريًا في مالي، بعد التعديل الدستوري الذي أصبح يسمح بإرسال وحدات من الجيش خارج الحدود، بهدف إجبارها على التخلي عن خطابها الذي يقول إن التدخل الفرنسي بمنطقة الساحل أثبت أن الحل العسكري وحده لا يكفي للقضاء على الإرهاب بالمنطقة.
وإن كان الدور الجزائري بمنطقة الساحل لا أحد ينكره، إلا أنه مع التعقيدات المختلفة التي تعيشها البلاد والمنطقة تجعل من مهمتها أكثر صعوبة وتتطلب تنسيقًا مع عدة أطراف لإحباط أي مبادرة تسعى لجعل الساحل أفغانستان إفريقيا.