حين تخرج الشاب مؤيد في جامعة دمشق وبالتحديد من فرع الهندسة المدنية عام ٢٠١٤ ، كان عازمًا على الخروج من سوريا على الفور، لكن الظروف المحيطة بعائلته منعته من المغادرة، فقرر تأجيل فكرة الرحيل مؤقتًا، إلا أنه وجد الفرصة مواتيةً لدراسة الماجستير، ما جعله ينسى فكرة مغادرة البلد، رغم أن ذلك الوقت كان الأنسب للسفر حيث كانت الحدود الدولية ما زالت مفتوحة أمام اللاجئين.
“لم يكن قراري سليمًا نهائيًا بالبقاء في سوريا” هكذا يقول مؤيد لـ”نون بوست”، ويكمل: “لا أستطيع اليوم تحصيل أكثر من 200 ألف ليرة سورية في الشهر أي ما يعادل 50 دولارًا”، وهذا المبلغ لا يكفيه أجرة المواصلات وبعض الوجبات الخفيفة على الطريق كما يقول، يتكلم مؤيد أيضًا عن أوضاع أصدقائه الذين خرجوا من سوريا وكيف أن حالتهم المادية جيدة مقارنةً بحالته: “لا أتكلم عن حالتهم المادية حسدًا وإنما أتحسر على نفسي وعلى بقائي في البلاد”.
يرى مؤيد أن دمشق أصبحت تحتوي على طبقتين: طبقة تمتلئ جيوبها بالمال وتضم أصحاب النفوذ وهي فئة قليلة، وشريحة أخرى واسعة ممن يعتمدون على المساعدات الخارجية التي تأتي من أبنائهم في دول الشتات، فيما ترزح بعض الأحياء على أطراف دمشق تحت فقر مدقع لا يمكن وصفه، خاصة تلك العوائل التي لا تملك من يرسل لها المال من خارج سوريا وتعتمد على الأشغال المحلية، ولربما يثير العجب أن مؤيد والكثيرين مثله يقولون: “رحم الله أيام كانت توجد معارك على أطراف دمشق”، حيث كان كل شيء من الحاجيات الأساسية متوفرًا.
وهنا لا يوجد ربط بين الحرب وتوافر المواد الأساسية، لكنه يشير إلى الذين يقولون إن الأمن والأمان عاد إلى مناطق سيطرة النظام، لكن أمور المعيشة أمست تحت مستوى الصفر، الأمر الذي يستغربه مؤيد ممن يتحدث في وقت تكثر فيه السرقات والاعتداءات: “صحيح أننا لم نعد نسمع صوت القصف على المدن المحيطة ولم تعد هنالك الكثير من الحواجز، لكن الأمر بات مقلقًا أكثر، أخشى اليوم من حمل أي شيء خاص”، مضيفًا: “في أحد الأيام، كنت في عملي ووضعت عدة العمل في السيارة لأعود وأجد نافذة السيارة قد كسرت وسرقت لوازم العمل، كنت قد اشتريتها بعد أن استدنت ثمنها”.
حلم الخروج
“اليوم أبحث عن طريق خارج البلاد بكل ما لدي من فرص، صحيح أنني متأخر في هذه الخطوة كثيرًا، لكنني اشتقت أن أرى الحياة، أظن أن خارج سوريا لن أجد صعوبة بإيجاد ربطة خبز أو الأدوية، سيكون هاتفي النقال مشحونًا دائمًا لأن الكهرباء لا تنقطع”، ويضيف مؤيد “أحس أنني بلا قيمة في هذه البلاد، أكبر همومي هي تأجيل الخدمة الإلزامية في العسكرية وتأمين مورد مالي إضافي، لم أكن أتخيل أن أصل إلى هذه النهاية في فترة الشباب”.
مؤيد ليس وحيدًا بهذا التفكير كما يقول، فآلاف الشباب السوريين اليوم في دمشق وحلب وحمص وغيرها من المدن بات حلمهم الأكبر ترك سوريا والانتقال إلى أي بلد يحفظ لهم جزءًا من كرامة العيش، أما عن الأمن والأمان الذي يروجون له فهو “غير موجود، فعندما يكون وجودك في البلد مرهقًا لك ولبلدك وتكون عالةً على أهلك فأين الأمان؟! عندما لا تستطيع أن تنبس ببنت شفة عما يحصل أين الأمان؟! عندما تبحث عن صراف ليحول لك دولارًا إلى ليرة وربما تعتقل فأين الأمان؟” كما يتساءل مؤيد.
النظام ووهم العودة
يروج نظام الأسد على الدوام للعودة إلى سوريا، مؤكدًا أن البلاد أصبحت آمنةً بعدما أصبحت المساحة الكبرى من سوريا تحت سلطته، كما أن بشار الأسد لا يفوت فرصة لدعوة اللاجئين للعودة إلى بلادهم، وللمفارقة فإن الكثيرين في الداخل يريدون الخروج، ففي أحد خطاباته قال الأسد: “سوريا بحاجة إلى كل أبنائها”، ولطالما ربط موضوع اللاجئين بسياسات الدول التي هربوا إليها قائلًا: “الدول المستضيفة للاجئين حاولت زيادة معاناة السوريين، لأن ذلك يؤدي إلى فرض عقوبات أكبر على سوريا”، معتبرًا أن “ملف اللاجئين استخدمه المسؤولون الفاسدون في الدول الداعمة للإرهاب لتمويل الإرهابيين”.
تردد حكومة الأسد الإسطوانة ذاتها من خلفه، إذ يدعو فيصل المقداد وزير الخارجية اللاجئين السوريين إلى العودة “للمساهمة في إعادة إعمار سوريا”، متهمًا دولًا غربيةً بتسييس هذا الملف، قائلًا: “الأبواب مفتوحة أمام جميع السوريين في الخارج للعودة الطوعية والآمنة ليساهموا في بناء بلدهم”، مضيفًا “سوريا بذلت جهودًا مكثفة ضمن الإمكانات المتاحة لديها لتسهيل وتيسير عودة مواطنيها المهجرين إلى بلدهم ولتهيئة ظروف الحياة المناسبة”، لكن ما الظروف التي هيأتها الدولة لا أحد يعرف!
هذه التطمينات كلها التي تصدر من النظام لإعادة المهجرين ليست ذات مصداقية، وفي السياق أصدر الاتحاد الأوروبي تقريرًا كاملًا عن الأمور التضليلية التي تصدر عن سوريا ومنها أن اللاجئين بوسعهم أن يعودوا إلى بلادهم لأنها أصبحت آمنة، فيقول تقرير الاتحاد: “التضليل: سورية آمنة من أجل عودة اللاجئين، أما الحقيقة: قلة قليلة من السوريين يجرؤون على العودة لبلدهم. تعرض الكثير منهم عند عودتهم إلى الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والمعاملة السيئة على يد قوات أمن النظام أو أرغموا أحيانًا على التجنيد”.
ويذكر الاتحاد في بيانه أن “أكثر من 5.5 مليون سوري اضطروا للجوء إلى بلدان أخرى هربًا من فظائع الحرب. إن حق العودة الآمنة والطوعية والكريمة هو حق فردي للاجئين والمهجرين داخليًا، إلا أن منظمات حقوقية عديدة وثقت استمرار قوات الأمن السورية في اعتقال أشخاص في أنحاء البلاد على نحو تعسفي وإخفائهم وإساءة معاملتهم، بما في ذلك لاجئين كانوا قد عادوا إلى مناطق استعادها النظام”.
يبين الاتحاد أيضًا أنه “لا تزال سورية بلدًا غير آمن وتمييزيًا بالنسبة إلى غالبية مواطنيه، ولا تزال القوانين والإصلاحات السياسية اللازمة من أجل ضمان حق المواطنين في العيش بأمان، غائبة”، مضيفًا “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تراجع دوريًا الشروط الضرورية لتنظيم العودة الآمنة للاجئين، وينبغي تسهيل وصول المفوضية السامية وغيرها من المنظمات الإنسانية إلى كل الأراضي السورية من أجل رصد وتقييم الوضع فيها”.
الجدير بالذكر أن حكومة دمشق أقامت بالتعاون مع روسيا مؤتمرًا لإعادة اللاجئين إلى البلاد وتهيئة الأجواء لذلك، وانعقد المؤتمر بنسختيه في ظل مقاطعة دولية من الدول التي تستضيف اللاجئين وأبرزها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وتركيا وبعض الدول العربية، ويعتبر الهدف الأساسي من عقد المؤتمر محاولة كسب الشرعية الدولية لحكومة الأسد ومحاولة الحصول على دعم مالي لإعادة الإعمار.
استطلاع داخل سوريا
يذكر الشاب السوري مؤيد أن هذا المؤتمر أصبح مادة دسمة للتندر في المجتمع السوري، فالناس تبحث عن مخرج بأي آلية أو ثمن والنظام ما زال يدعو الناس للرجوع، ويتساءل مؤيد: “لماذا قد يعود الناس؟، من يعود يكتب على نفسه الانتحار نفسيًا، نرى أحيانًا شبانًا يعودون إلى سوريا فنجلس معهم ونلومهم بعد أن كانوا في النعيم”.
ليس بعيدًا عن قصة مؤيد، أصدرت الرابطة السورية لكرامة المواطنين، استطلاعًا شمل مئات الأشخاص المقيمين في مناطق سيطرة النظام، ويظهر الاستطلاع أن أكثر من 50% من المستطلعة آراءهم أشاروا إلى فقدان الأمان في تلك المناطق، ومن النتائج التي أظهرها هذا الاستطلاع أن 67% ممن عادوا إلى سوريا لا يشعرون بالأمان، في حين أن 68% من سكان المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام و48% من سكان المناطق التي كانت أصلًا تحت سيطرة النظام يرغبون بالهجرة.
وتكشف الدراسة المرفقة بالاستطلاع أن “السوريين في مناطق سيطرة الأسد بمن فيهم أولئك الذين أُجبِروا على العودة أو غُرِّر بهم، بدأوا باعتبار العنف والقمع الذي تمارسه أجهزة الأمن التابعة للنظام أمرًا طبيعيًا في الحياة، ويتم الآن قبول الاعتقالات والابتزاز باعتبارها تهديدات على حياة المرء وتم تطوير إستراتيجيات للتعامل معها، خاصة أن الظروف المعيشية تتدهور أكثر في ظل الاقتصاد المتهاوي، ومع ذلك لا يزال السوريون يحلمون بحياة حرة كريمة”.
تتكلم الدراسة التي صدرت منتصف الشهر الماضي عن ضمانات النظام السوري والروسي التي لا تعني شيئًا من الناحية العملية، حيث “لا تزال الاعتقالات والإخفاء القسري مستمرة في مناطق النظام، بما في ذلك تلك التي تشملها “اتفاقيات المصالحة” الذين شملهم عفو النظام، ما يبرز عدم وجود أي نوع من الضمانات الأمنية في سوريا”.
وتشير الدراسة أنه خلال السنوات الماضية أصدر بشار الأسد كثيرًا من قرارات العفو التي “تكاد تكون وهمية وتستخدم لإثبات حسن النية زورًا دون الإفراج الفعلي عن المعتقلين لأسباب سياسية، إضافة إلى أنها لا تمثل ضمانًا”.
تظهر الدراسة أيضًا أن المناطق التي سيطر عليها النظام تعاني من غياب الاستقرار والأمن وليس كما يروج النظام، وتستشهد بمحافظة درعا التي ينعدم فيها الاستقرار وفشلت فيها سياسات النظام الأمنية، و”مع ذلك فإن النظام السوري وروسيا يروجان لخطاب التطبيع في محاولةٍ لخلقِ صورةٍ مضلِّلةٍ بشأن عودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا، ونشر فكرةٍ خاطئةٍ تفيد بأن المناطق التي يسيطر عليها النظام هي مناطق آمنة، حيث تُستخدم هذه الرواية كمقدمةٍ مراوغةٍ عن البدء بالعودة المبكرة للاجئين السوريين، من أجل الضغط على المجتمع الدولي لتمويل عملية إعادة الإعمار، واستعادة الخدمات الأساسية في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام” والحديث هنا مقتبس من دراسة الرابطة السورية لكرامة المواطن.
بدورها أصدرت منظمة العفو الدولية، تقريرًا قالت فيه إن “قوات الأمن التابعة للنظام السوري أخضعت مواطنين سوريين ممن عادوا إلى وطنهم بعد طلبهم اللجوء في الخارج للاعتقال والإخفاء والتعذيب، بما في ذلك أعمال العنف الجنسي”. وصدر التقرير بعنوان “أنت ذاهب إلى الموت”، وثَّقت فيه المنظمة مجموعة من الانتهاكات المروّعة التي ارتكبها ضباط المخابرات السورية بحق 66 من العائدين، من بينهم 13 طفلاً. وكان من بين هذه الانتهاكات، التي وثقتها منظمة العفو الدولية خمس حالات لأشخاص لقوا حتفهم في الحجز إثر عودتهم إلى سوريا، في حين لا يزال مصير 17 ممن تم إخفاؤهم قسراً طي المجهول.
وقالت المنظمة: “في الوقت الذي تفرض فيه عدد من الدول – من بينها الدانمارك والسويد وتركيا – قيوداً على حماية اللاجئين القادمين من سوريا، وتمارس الضغوط عليهم لحملهم على العودة إلى وطنهم، تثبت الإفادات المروعة الواردة في تقرير منظمة العفو الدولية أنه لا توجد في سوريا أي منطقة آمنة لعودة اللاجئين. وقال بعض العائدين إن ضباط المخابرات استهدفوهم بشكل صريح بسبب قرارهم بالفرار من سوريا، متهمين إياهم بعدم الولاء أو الإرهاب”.
وتضيف المنظمة: “بناء على النتائج التي تسوقها منظمة العفو الدولية في هذا التقرير، تخلص المنظمة إلى أنه لا مأمن للاجئين العائدين في أي مكان في سوريا؛ وفضلاً عن ذلك، فإن ثمة خطراً حقيقياً في أن يتعرض اللاجئون الذين رحلوا عن سوريا منذ بدء الصراع للاضطهاد لدى عودتهم بسبب ما تنسبه السلطات إليهم من الآراء السياسية، أو بهدف معاقبتهم على فرارهم من البلاد وحسب”.
تشير منظمة العفو الدولية إلى أن تقريرها يوثق “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الحكومة السورية ضد اللاجئين العائدين إلى سوريا من لبنان ومخيم الركبان الحدودي، وفرنسا، وألمانيا، وتركيا، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، خلال الفترة بين منتصف 2017 وربيع 2021، استناداً لمقابلات أجرتها المنظمة مع 41 مواطناً سورياً، من بينهم بعض العائدين وأقاربهم وأصدقائهم، بالإضافة إلى محامين، وعاملين في المجال الإنساني، وخبراء متخصصين في الشأن السوري”.
هجرة جديدة بحثًا عن الأمان
تتضح مصداقية الدراسات والاستطلاعات على أرض الواقع، ففي الشهور الأخيرة ازدادت هجرة السوريين من بلادهظ إلى مصر وخاصة بين الصناعيين والتجاريين، حتى بتنا نشهد هجرة جديدة إلى مصر كتلك التي كانت ذروتها عام 2012، وهو ما يدلل على خوف الناس من الأوضاع التي آلت إليها البلاد من انعدام الأمن وانهيار الاقتصاد وفقدان أهم الحاجيات والمواد الأساسية.
لماذا مصر حاليًّا؟ سألنا أحد السوريين المقيمين بمصر ليقول: “لم يتوقف السوريون خلال السنوات الماضية عن القدوم إلى مصر وذلك لسهولة المعيشة نسبيًا مقارنة بالدول الأخرى، لكن خلال الشهور الماضية أصبح متاحًا إصدار تأشيرات الدخول بأسعار أقل مما كانت عليه قبل، فكانت التأشيرة تُباع بـ2500 دولار وأصبحت في هذه الأيام تتراوح من 600 إلى 800 دولار”، مضيفًا “لا تعتبر تأشيرة إنما عبارة عن موافقة أمنية للدخول إلى الدولة”.
يضيف لنا الشخص ذاته أن الناس في سوريا تبيع بعض أملاكها لتأمين خروجها إلى مصر، إذ إن الجلوس في سوريا أصبح غير آمن، كما يذكر أن مصر باتت محطة طريق للبعض، فهي محطة في الطريق إلى ليبيا لإكمال طريقهم إلى أوروبا عبر البحر.
من جهته كشف رئيس قطاع النسيج بغرفة صناعة دمشق وريفها، مهند دعدوش عن وجود حالة هجرة وصفها بـ”الخيالية” من الصناعيين السوريين إلى مصر، واعتبر دعدوش في تصريحاته أن هؤلاء الصناعيين “لا يمكن تعويضهم”، فقد غادروا البلاد متوجهين إلى مصر بسبب الصعوبات التي يعانون منها، وهنا نستطيع التحدث عن انعدام الأمان الاقتصادي مما استدعى هؤلاء للهجرة إلى خارج البلاد.
وفي هذا الخصوص، تتوارد الأخبار والصور عن الازدحامات الموجودة في مباني الهجرة والجوازات في سوريا رغبة في الحصول على جواز سفر وتأمين سفر إلى الخارج، بالتوازي مع ذلك تنشط حركة تهريب كبيرة بين مناطق النظام ومناطق المعارضة شمال سوريا، إذ يتوجه الناس إلى تركيا عن طريق إدلب وذلك مقابل دفع مبالغ باهظة وكل ذلك هربًا من الحالة الصعبة في البلاد.
يبدو أن دعوات الأسد ونظامه للعودة أصبحت كلمات لا فائدة منها لكنها حشو خطابات لا بد منه بالنسبة لهم، فمن خرج من سوريا لن يعود بعد تلك الأخبار الواردة عن انهيار الاقتصاد وغياب الأمن، فلم يعد التفكير بالعودة هو الهاجس، إنما أصبح الهاجس أن يستطيع السوري في الشتات إخراج أهله ليعيشوا بكرامة ريثما تعود الأمور إلى طبيعتها دون الأسد ونظامه.