مع الانسحاب الأمريكي، أصبحت أفغانستان على وشك الانغماس في الظلام مرة أخرى، وهذا ما يقلق الصين على مصالحها بأفغانستان.
اعتبارًا من أوائل أغسطس/آب 2021، سيطرت طالبان على أكثر من 85% من الأراضي الأفغانية، فلديهم تقريبًا كل المناطق الحدودية المهمة، مدينة بعد بلدة تتساقط والقوات الأفغانية تستسلم دون خوض قتال.
سيتعين على الصين أن تقرر ما إذا كانت ستدير أفغانستان من خلال وكيلها الحاليّ باكستان أم من خلال مواجهة طالبان مباشرة، ومن غير المرجح أن ترتكب بكين نفس الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق.
فبدلًا من إزالة طالبان أو طردهم، من المرجح أن تستوعبهم بكين للاستفادة من موارد البلاد وتمكين الشبكات الضرورية داخل مبادرة الحزام والطريق والممر الاقتصادي بين الصين وباكستان وأفغانستان أو ما يُعرف سابقًا بـ”طريق الحرير”.
ما هو طريق الحرير؟
هو مجموعة من الطرق البرية والبحرية المترابطة مع بعضها كانت تسلكها القوافل والسفن بين الصين وأوروبا لتجارة الحرير والتوابل والعطور.
اشتق طريق الحرير اسمه من التجارة المربحة في الحرير التي كانت تتم على طوله بداية من عهد أسرة هان في الصين (207 قبل الميلاد – 220م).
طريق الحرير لم يكن للتجارة فقط، بل لاكتشاف وتبادل الثقافات الأخرى ونشر كثير من الأديان والتعرف على الاكتشافات العلمية كالورق والبارود، كما انتشرت الأوبئة والأمراض كالطاعون على طول طريق الحرير.
فهو يربط الآن أكثر من 65 دولةً ببعضها عبر شبكة من الطرق البرية والسكك الحديدية والموانئ وخطوط أنابيب النفط والممرات البحرية، فضلًا عن شبكات الاتصالات.
والتسمية الحديثة لطريق الحرير الآن والأكثرة شهرة هي “مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI)”، وفي فرعها البحري هناك عدة مشاريع تحت اسم “طريق الحرير الجديد” لتوسيع البنية التحتية للنقل في منطقة طرق التجارة التاريخية.
مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) لها طريقان بري وبحري:
يمتد الطريق البري من العاصمة الصينية مرورًا بآسيا الوسطى، قبل أن يجتاز حدود أوروبا من إسطنبول التركية باتجاه الأراضي الروسية ليعود مجددًا نحو وجهته الأخيرة في أوروبا، على شكل حزام.
وبموازاة ذلك، تُنشئ الصين ممرًا بحريًا عابرًا للمحيطات والقارات، إذ يبدأ الطريق البحري من الصين إلى فيتنام وماليزيا والهند ويكمل طريقه باتجاه سيريلانكا وكينيا، ليصل إلى اليونان وإيطاليا.
وهذا الممر أطول من الطريق البرية وأكثر حيوية، نظرًا لما يحويه من إمدادات للطاقة، ويغذي الطريقان كلًا من قارتي أوروبا والقارة الإفريقية مرورًا بآسيا الوسطى، وهو ما سيعطي الصين هيمنةً عسكريةً وسياسيةً واقتصاديةً على مستوى العالم.
مخاطر طريق الحرير بأفغانستان
لا بد أن يُنظر إلى وعود طالبان بعدم إيواء أي مسلحين قد يهددون الصين مستقبلًا، فموجة الهجمات الأخيرة على الموظفين والمشاريع الصينية في باكستان علامة تحذير واضحة عن تأثير نظام طالبان في أفغانستان على مصالح الصين في المنطقة.
السيناريو الأسوأ أن تصبح البلاد نقطة انطلاق لجهاد جديد في شينغيانغ، يجتذب المتطرفين من جميع أنحاء العالم
حتى إذا أوفت طالبان بوعودها للصين (وهذا أمر غير مؤكد، بالنظر إلى سجل المجموعة)، فإن الانتصار السريع للجماعة الإسلامية المتشددة سيلهم بلا شك قوى مماثلة، بعضها ليس ودودًا مع بكين.
تدرك الصين جيدًا هذه المخاطر، لذلك أجرت بكين الحسابات التي مفادها أن احتضان طالبان ومحاولة الضغط عليها للوفاء بوعودها هو أفضل رهان لها، وبطبيعة الحال فإن هذه الضغوط لن تطبق إلا للحفاظ على مصالح الصين.
وبعيدًا عن الاعتبارات الاقتصادية، تحرص الصين على منع أفغانستان من التحول إلى ملاذ آمن للأويغور الفارين من الاضطهاد الذي شنته بكين في مقاطعة شينغيانغ أو إلى قاعدة للأويغور لشن تمرد عبر الحدود.
السيناريو الأسوأ أن تصبح البلاد نقطة انطلاق لجهاد جديد في شينغيانغ، يجتذب المتطرفين من جميع أنحاء العالم.
ضرب أمريكا للصين بطالبان
أثار انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على العاصمة كابل – بشكل مفاجئ وسريع – التكهنات بشأن ما يتردد عن رغبة واشنطن في إفشال شراكة الصين مع العديد من الدول المجاورة وتخريب مبادرة “الحزام والطريق” بكامل فروعها.
مدينتان مهمتان في أفغانستان تقعان على طريق المبادرة التي كانت تسمى قديمًا “طريق الحرير”، وهما كابل (التي يطلق عليها اسم جوهرة الشرق) وننغرهار (حيث موقع “هَدّه” الأثري الذي يعد مهد الحضارة البوذية).
بدا واضحًا أن الاستقرار الأمني والاقتصادي في أفغانستان الحلقة الأبرز في المعركة بين أكبر اقتصادين في العالم: الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
وتشكل المبادرة الصينية ـ حسب خبراء – تحديًا كبيرًا لمصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية وملف تغير المناخ، خاصة في حال تم تشكيل المشروع بشكل مستدام ومسؤول.
ولم تتوقف محاولات الولايات المتحدة في السيطرة على قلب آسيا الوسطى في إطار حربها مع الصين، بهدف إفشال مبادرة الحزام والطريق الذي تحلم بكين في تحقيقه منذ مئات السنين.
وتعتمد إستراتيجية واشنطن في هذا السياق على دعم الانفصاليين الإويغور في منطقة شينغيانغ غرب الصين لتقسيمها تحت مسمى “تركستان الشرقية”، ومن جانب آخر، تواصل واشنطن دعمها لاستقلال مقاطعة “بلوشستان” جنوب غرب باكستان، وهو ما يعقد أو ينهي المصالح الصينية في المنطقة.
تعتبر أفغانستان دولة مهمة في مبادرة الصين، إذ تعد الطريق الأقصر بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وبين الصين والشرق الأوسط
يعد ميناء جوادر في بلوشستان نقطة تفتيش مهمة على طول مبادرة الحزام والطريق في الصين، وهو بمثابة وجهة نهائية للممر الاقتصادي بين الصين وباكستان ويسمح للصين بشحن الطاقة والبضائع من الصين إلى بحر العرب، متجاوزة جنوب شرق آسيا للشحن من وإلى الشرق الأوسط وإفريقيا وما ورائهما.
وتعول الولايات المتحدة على الدعم الذي تقدمه منذ 2012 لشعب بلوشستان وتدعم حقه في تقرير مصيره بين باكستان وإيران وأفغانستان.
تعتبر أفغانستان دولة مهمة في مبادرة الصين، إذ تعد الطريق الأقصر بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وبين الصين والشرق الأوسط.
سياسة الصين لحماية طريق الحرير
تم التوقيع على أول مذكرة تفاهم بشأن مبادرة الحزام والطريق بين أفغانستان والصين عام 2016، ثم تم الاتفاق على العديد من المبادرات بين البلدين، ومع ذلك وبسبب الإرهاب والظروف المناخية والجغرافية في أفغانستان فإن بناء الطرق أمر صعب، كما تم تنفيذ عدد قليل من المشاريع في الواقع في إطار مبادرة الحزام والطريق.
عندما بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها الإجلاء من كابول في 15 من أغسطس/آب، مع دخول طالبان العاصمة الأفغانية، قررت الصين إبقاء سفارتها مفتوحة وزعمت أنها مستعدة لإقامة علاقات ودية مع طالبان.
وكان عضو مجلس الدولة ووزير الخارجية وانغ يي قد التقى بالفعل بممثلي طالبان في أواخر يوليو/تموز في تيانجين لمناقشة عملية المصالحة وإعادة الإعمار في أفغانستان، وخلال ذلك الاجتماع، وافقت طالبان أيضًا على عدم دعم الانفصاليين الأويغور الذين قد يهددون الاستقرار في شينغيانغ.
الصين لديها مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية في الخارج وتتوقع من الأطراف الأخرى اتباع نفس السياسة، وعلى هذا الأساس، قد تربط بين الصين وأفغانستان طالبان علاقات جديدة.
كما تسعى الصين إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية في أفغانستان:
- تجنب مزيد من التوسع في الصراع والحرب الأهلية الشاملة.
- تعزيز المفاوضات بين الأفغان.
- منع صعود القوات والأنشطة الإرهابية.
وفي هذا الصدد، الصين تعتمد على تكثيف العلاقات مع روسيا وإيران وباكستان.
طالبان والصين يختاران طريق الحرير بدل طريق الدبابات
في أواخر يوليو/تموز، استضاف وزير الخارجية الصيني وانغ يي قادة طالبان، بمن فيهم الملا عبد الغني برادار في تيانجين، وفي ذلك الاجتماع حاولت طالبان إقناع وانغ بأنهم لا يشكلون أي تهديد لمصالح الصين، وقال برادار: “لن تسمح طالبان الأفغانية أبدًا لأي قوة باستخدام الأراضي الأفغانية للقيام بأعمال تضر بالصين”، بل إنه دعا الصين إلى “المشاركة بشكل أكبر في عملية السلام والمصالحة في أفغانستان ولعب دور أكبر في إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية في المستقبل”.
تعتقد حركة طالبان الأفغانية أن أفغانستان يجب أن تطور علاقات ودية مع الدول المجاورة والمجتمع الدولي.
تفضل الصين نهج طريق الحرير على طريق الدبابات
في المقابل، عرض وانغ شرعية الجماعة، قائلًا: “طالبان الأفغانية قوة عسكرية وسياسية مهمة في أفغانستان ومن المتوقع أن تلعب دورًا مهمًا في عملية السلام والمصالحة وإعادة الإعمار في البلاد”.
الفائز الحقيقي في هذه الكارثة هو الصين، من خلال إستراتيجية الصين الحكيمة التي تقوم على ركيزتين هما:
عدم التدخل العسكري في الخارج والتعاون الاقتصادي من أجل التنمية.
بمعنى آخر تفضل الصين نهج طريق الحرير على طريق الدبابات، نهج يدعم تطوير البنية التحتية والنقل والاستثمارات إلى تلك الحرب.
الصين ذكية ولن تقع في فخ التدخل العسكري الأمل الورع للغرب، لكنها ستدخل في اتفاقيات تجارية مع الحكومة الأفغانية الجديدة، وبالتالي إضافة نقطة عبور أخرى باتجاه المحيط الهندي وموانئ باكستان، باستخدام وجود البشتون على جانبي الحدود بين أفغانستان وباكستان، إذ تم بالفعل دمج باكستان اقتصاديًا بقوة مع الصين.
أخيرًا، من المحتمل أن تنمو الاستثمارات الاقتصادية الصينية في أفغانستان، إذ تسعى بكين للوصول إلى احتياطياتها غير المستغلة من النحاس والفحم والحديد والغاز والكوبالت والزئبق والذهب والليثيوم والثوريوم.
وفقًا لدراسة جيولوجية، تمتلك أفغانستان احتياطيات من العناصر الأرضية النادرة والمعادن تقدر بنحو 3 تريليونات دولار أمريكي، كما تمتلك 60 مليون طن من النحاس و2.2 مليار طن من خام الحديد و1.4 مليون طن من الأتربة النادرة (اللانثانوم والسيريوم والنيوديميوم)، كما تمتلك رواسب من الألومنيوم والذهب والفضة والزنك والزئبق والليثيوم.
وبالتالي فمن المنطقي أن الصين مهتمة أكثر من غيرها بتوسيع علاقاتها التجارية مع هذا الجزء من العالم، ومع ذلك، تسعى بكين بالتأكيد إلى تأمين وحماية الاستثمارات ومشاريع البنية التحتية الكبرى في المستقبل .