على وقع استعدادات الجزائر لاحتضان القمة العربية الـ 31 في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، تصاعدَ الحراك الدبلوماسي والنقاش حول عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وذلك في وقت تشهد فيه المنطقة توترات على المستوى الإقليمي وتراجعًا في مستوى التنسيق العربي لحلّ النزاعات والقضايا العالقة.
بعد مرور 10 سنوات من الحرب في سوريا، لا يزال البلد العربي يُعاني من تداعيات عدم الاستقرار الداخلي وتراجع المستوى المعيشي بفعل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، مع عزلة سياسية مفروضة من الخارج، ما يجعل إعادة دمجه في المنظومة العربية واستعادة مقعده الذي جرى تجميده منذ عام 2011، دون التوصُّل إلى اتفاق يُنهي مأساة السوريين، مسألة قد تؤثِّر على مسار حل الأزمة المعقدة التي تتشابك فيها صراعات الداخل والخارج.
تراجع الموقف العربي
في خريف 2011 وتحديدًا في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، أصدرت الجامعة العربية في اجتماعها الطارئ الذي عُقد بالقاهرة قرارًا بتعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، لحين الالتزام الكامل من قبل نظام الأسد بتعهُّداته ضمن المبادرة العربية التي طُرحت آنذاك لحل الأزمة السورية، وحتى تتوقف دمشق عن قمع المعارضين.
بعد إغلاق الدول لسفاراتها وقنصلياتها، فتحت بعض العواصم العربية في السنوات الأخيرة قنوات الاتصال الأمنية والاستخباراتية مع دمشق وعزّزت من أنشطتها، بعدما مالت كفّة الصراع لمصلحة النظام نتيجة التدخُّل الإيراني ثم الروسي، وظهور التنظيمات الإسلامية المسلحة في مناطق المعارضة السورية.
تراجُع أغلب الدول العربية كان تحت تأثير الهاجس الأمني، خاصة بعد التدخُّل العسكري الروسي في الحرب السورية منذ عام 2015، وقبله الدعم الإيراني بعشرات الآلاف من مقاتلي المجموعات الشيعية المسلحة اللبنانية والعراقية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
عزّز الدعم الإقليمي لنظام الأسد لدى بعض الدول العربية فرضية بقائه في السلطة، وتراجُع احتمالات إسقاطه من قبل المعارضة التي عرفت تقهقرًا في بدايات عام 2017، حيث خسرت فصائل المعارضة السورية معارك في ريف دمشق وفي محافظة درعا وخرجت من مناطق الشمال.
تغيُّر موازين القوى على الأرض والتحولات الجيوسياسية، دفع بالإمارات والبحرين لفتح سفارتَيهما على مستوى القائمين بالأعمال في دمشق نهاية عام 2018، فيما أعادت سلطنة عُمان سفيرها في أكتوبر/ تشرين الأول لتصبح أول دولة خليجية تعيد تمثيلها الدبلوماسي على مستوى السفراء.
عودة النظام
بات من المؤكد أن النظام السوري يعمل في الوقت الراهن على تحويل “نصره المؤقت” في الداخل إلى ورقة ضغط تمكّنه من كسر الحصار العربي والغربي المفروض عليه منذ عام 2011، ويستند في هذه الخطوات إلى عدة عوامل أهمّها ضعف المعارضة السورية وانقسامها، خاصة بعد عجز الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة على تقديم نفسه كبديل قادر على قيادة البلاد في مرحلة ما بعد الأسد.
من هذا الجانب، إن الدعوات الأخيرة لتشكيل جسم سياسي بديل للائتلاف الوطني، تُدلِّل على أن المعارضة السورية لم تستثمر في تضحيات الشعب ومعاناته طيلة الـ 10 سنوات، وأن محاولاتها في تغيير الوضع القائم وصلت الى أُفق مسدود، وبالتالي إنّ النظام أصبح غير مضطر لقبول الذهاب إلى مفاوضات لا يدعمها ميزان قوى على الأرض.
الآن، وبعد أن استقرَّ الأمر نسبيًّا لصالح النظام السوري باسترداد ما لا يقلّ عن 90% من الأراضي، وفق تصريحات أخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تعوِّل دمشق على تغيُّر موقف الأميركيين والأوروبيين، خاصة بعد صعود جو بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة الذي يبدو أنه لا يولي أولوية للملف السوري، ومن ثم تنازلهم عن مطالبهم السابقة واستبدال شرط سقوط النظام بتغيير سلوكه على اعتبار أن بقاءه في السلطة أمر واقع.
على الصعيد ذاته، يعمل النظام السوري على تطويع التحولات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية لصالحه، مستغلًّا مخاوف بعض الدول من الوجود الروسي والإيراني الذي يرون فيه تهديدًا مباشرًا لأمنهم الاستراتيجي، وبالتالي إن هذه المؤشرات قد تقود في النهاية إلى تغيُّر الموقف العربي والغربي وفق حسابات جديدة، لذلك من غير المستبعَد أن تعمل هذه الدول على إعادة تدوير نظام الأسد كسلطة “شرعية” بعد تجميلها.
سيعوِّل نظام الأسد على التغيُّرات السياسية التي شهدتها بعض البلدان العربية من أجل التقارب، فبعد صعود عبد الفتاح السيسي في مصر وعبد المجيد تبون في الجزائر، قد يعطي انفراد قيس سعيّد بالسلطة في تونس جرعة أخرى للنظام السوري من أجل استعادة مكانته في الجامعة العربية.
تعويم نظام الأسد بدأ فعليًّا بدفع من حكومات عربية وخاصة الأردنية، التي تعمل على إحياء النقاش في أوساط الفاعلين داخل جامعة الدول العربية حول إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وإعادة مقعد سوريا المعلّق في المنظمة، وتستند هذه الدول على افتراض غير واقعي بسيطرة النظام على معظم المناطق الحيوية في سوريا ونجاح قواته في فرض الأمن والاستقرار.
لقاء نيويورك
لقاءات نيويورك الأخيرة تُعدّ إعلانًا شبه رسمي لمرحلة تطبيع العلاقات العربية مع النظام السوري، وانتقالها من مرحلة “الدبلوماسية الاستخباراتية” إلى القنوات المؤسساتية عبر وزراء الخارجية، حيث حضر منهم وزراء من 7 دول (مصر والأردن والعراق وتونس وعُمان وموريتانيا وفلسطين المحتلة)، فيما لا يعني تغيُّب لبنان والسودان والجزائر واليمن والبحرين والإمارات عن الاجتماعات رفضًا للتطبيع، فهي دول أبدت استعدادها للتعاون في أوقات سابقة.
صور الاجتماعات بين ممثلي النظام السوري ووزراء خارجية عرب توضِّح بشكل جلي مساعي إعادة دمشق إلى الجامعة العربية عبر بوابات مختلفة، حيث مثّل لقاء وزير الشؤون الخارجية التونسي عثمان الجرندي بنظيره السوري فيصل المقداد مؤشِّرًا لتقارب البلدَين وتطلعهما لاستئناف العلاقات، خاصة بعد وصول قيس سعيّد إلى السطة الذي لا تختلف سياساته في الظاهر عن النظام المصري.
عقب اللقاء، أكّد الوزير التونسي أن بلاده لا تدّخر جهدًا من أجل الإسهام الفاعل في إعادة الأمن والاستقرار إلى سوريا، بما يضع حدًّا لمعاناة الشعب السوري ويساهم في تحقيق تطلُّعاته، وبما يمكّن سوريا من الحفاظ على وحدتها وسيادتها واستقلالها، واستعادة دورها ومكانتها الطبيعية في الفضاء العربي وعلى الساحتَين الإقليمية والدولية.
على الجانب ذاته، مثّل اللقاء الأول بين وزير الخارجية المصري سامح شكري وممثل النظام السوري فيصل المقداد منذ 10 سنوات، فرصة لبحث إنهاء الأزمة في سوريا، ولو أن الجانبَين لم يفصحا عن تفاصيل أخرى، إلا أن الاجتماع لم يخرج عن دائرة التحركات العربية.
قمة الجزائر
من المرجّح أن تتولى قمة الجامعة العربية المقرَّر انعقادها في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر بالجزائر، مهمة استعادة النظام السوري مقعده في المنظمة، خاصة بعد التلميحات الأخيرة لوزير الخارجية الجزائرية رمطان لعمامرة بقوله إن سوريا موضوع أساسي في التحضيرات لتلك القمة، وعودتها الى الجامعة العربية ستكون خطوة متقدمة في عملية لمّ الشمل العربي.
الجزائر التي عارضت منذ عام 2011 تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية وكان موقفها مغايرًا لباقي الدول، دعت أيضًا في 14 فبراير/ شباط 2020، على لسان وزير خارجيتها السابق، صبري بوقادوم، ضروة إنهاء تجميد عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، فيما جدّدَ الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، هذه الدعوات بعد أسبوع فقط من تصريحات بوقادوم، في الفترة التي كانت الجزائر تتحضّر فيها لاستضافة أعمال القمة العربية في دورتها العادية في مارس/ آذار من العام نفسه.
من غير المستبعَد أن تعمل الجزائر على استثمار الحراك الأخير في نيويورك وتحصل على دعم غالبية الثُّلثَين، إن لم يكن أكثر، لكي تنظِّم هذه العملية الدبلوماسية التي قد تشمل دعوة الأسد إلى حضور القمة، بعد أن يقرر اجتماع وزراء الخارجية التمهيدي إلغاء قرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة.
الأردن.. بوابة أمنية وسياسية
جاءت تصريحات الملك الأردني، عبد الله الثاني، التي قال فيها إن الأسد “باقٍ” ويجب إيجاد طريقة للحوار مع النظام، بداية لخطوات متتالية أظهر من خلالها الأردن استعداده لعودة العلاقات مع دمشق، وذلك بعد أن أيقنت عمّان أن جهود الحل السياسي للأزمة السورية معطَّلة بالكامل، وأنه لا يوجد أحد يتحدث بلغة تغيير النظام.
من جهة ثانية، إن الأردن وسوريا يرتبطان في أكثر من ملف، بالإضافة إلى الجانب الأمني على أهميته، كما أن الجارَين يجمعهما روابط وقضايا الاقتصاد والمعابر المطروحة على طاولة النقاش والحوار، فعمّان بحسب الخبير الأمني الأردني فايز الدوير، تبحث عن فتح المعابر الحدودية وإبعاد الميليشيات الشيعية عن الحدود، وتأمين خط الغاز، فيما تسعى دمشق للانفتاح على الدول العربية من خلال البوابة الأردنية.
التقارُب الأردني السوري أكّده اللقاء الأول من نوعه منذ عام 2011، الذي جمع وزير الدفاع في حكومة النظام السوري، علي عبد الله أيوب، برئيس هيئة الأركان الأردني، يوسف الحنيطي، في العاصمة الأردنية عمّان، في 19 من أيلول/ سبتمبر.
هذا اللقاء تلاه اجتماع ضمَّ وزير الخارجية في حكومة النظام السوري، فيصل المقداد، بنظيره الأردني أيمن الصفدي، في الـ 24 من شهر ذاته، لمناقشة سُبل تعزيز التعاون بين البلدَين في المجالات المختلفة، وضمان أمن الحدود المشتركة.
على الصعيد ذاته، عُقد في الشهر الماضي اجتماع بين النظام السوري والأردن ومصر ولبنان، اتفقت فيه الأطراف على إيصال خطوط الطاقة إلى لبنان عبر سوريا، وهو ملف يُعتقد أنه يحقِّق مكاسب سياسية واقتصادية لنظام الأسد، حيث يرجِّح المراقبون دخول سوريا في مشروع الشام الجديد الذي أطلقه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، حيث ستكون دمشق وبيروت عنصرَين هامَّين لإتمام هذا المشروع.
عقبات أمام التطبيع
بالإضافة إلى عقوبات الولايات المتحدة (قانون قيصر) والاتحاد الأوروبي المفروضة على النظام السوري، قد يكون موقف جامعة الدول العربية من تعليق عضوية هذا النظام وعدم وجود إجماع وتوافق عربي هو العقبة الأكبر على طريق التطبيع العربي الكامل مع دمشق.
المسألة الأهم تتمثّل في مدى قدرة النظام السوري على توفير ضمانات لبعض الدول العربية وخاصة السعودية، بإمكانية تفكيك التحالف بين النظام السوري وإيران، وقدرته على تحجيم نفوذ طهران في الداخل السوري وفي المنطقة بشكل عام، وهي المقاربة التي تسعى الإمارات والبحرين ترويجها داخل البيت العربي لإقناعه بعودة دمشق إلى الجامعة العربية.
من جهة أخرى، إن التوافق العربي الكامل حيال مسألة عودة سوريا إلى المنظمة غير متوفر بسبب غياب ضمانات من النظام بشأن خروج القوات الأجنبية من البلاد وإسقاط أي مشروع لتقسيم سوريا، وكذلك بإجراء إصلاحات سياسية، وفيما يخص عودة اللاجئين وضمان عدم محاكمتهم أو التنكيل بهم بالإضافة إلى إطلاق سراح المعتقلين.
الظاهر أن الهاجس الأمني من التغلغل الإيراني في المنطقة هو الدافع الرئيسي للدول العربية التي تتحرّك لإعادة مقعد النظام داخل الجامعة العربية، فإلى حد الآن لم تُطرَح على جدول أعمال هذه الأنظمة آليات العودة وشروطها، غير أنه من المؤكد أن العودة ستقترن بما سيقدِّمه الأسد من خدمة لهذه القوى وليس بما سيقدِّمه للشعب السوري المقهور.