تتّخذ روسيا من سوريا بوابة لها لاستعادة دورها ونفوذها في الساحة الدولية كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية، وتربُّعها على هرم النظام الدولي، والاضطلاع بدور عالمي جديد، بعد خسارة موقعها العالمي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، حيث تعمل روسيا فعليًّا على تعزيز تموضعها الدبلوماسي من خلال توظيف وجودها ونفوذها في سوريا، بوصفه ورقة تفاوضية مع الغرب والولايات المتحدة فيما يتعلق بملفات خلافية إشكالية، وفي سبيل انتزاع اعتراف دولي بدورها العالمي.
وضمن هذا السياق، يمكننا تفسير الدعم الكبير الذي يقدّمه الروس لنظام الأسد عسكريًّا وسياسيًّا، لا سيما بعد تدخُّلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015.
ونظرًا إلى أن التدخُّل العسكري الروسي يأتي في سياق تحقيق الأهداف الاستراتيجية الروسية العليا الإقليمية والدولية، متجاوزًا الجغرافيا السورية من ناحية التطلُّعات والمكاسب المَرجوّة مستقبلًا؛ كان لا بدّ لروسيا من إحكام سيطرتها على مفاصل المؤسسات الأمنية والعسكرية في سوريا، في محاولة لاستثمار انتصاراتها العسكرية والسياسية، وتوطيد نفوذ متداخلٍ طويل الأمد يتماشى مع مصالحها ومخططاتها المستقبلية في المنطقة.
عمليًّا، باشرت روسيا في إعادة تشكيل وهيكلة مؤسسة الجيش والمؤسسة الأمنية في سوريا، من خلال الإشراف على تدريب وتسليح معظم تشكيلات الجيش، واستحداث تشكيلات عسكرية جديدة ترتبط بها مباشرة، لتصبح لاحقًا المتنفّذ الأول بقرارات وتوجُّهات هذه المؤسسات بالطريقة التي تتوافق مع رؤيتها، وذلك عبر خطوات عديدة نجملها ضمن التقرير الآتي.
خطوات روسيّة للهيمنة على الجيش والمؤسسة الأمنية
عملت روسيا على مدّ نفوذها داخل مؤسسة الجيش، من خلال الاستفادة من العلاقات المتينة مع الضباط السوريين الموالين لها وتعزيز تواجدهم في المواقع الأمنية والعسكرية الحساسة، حيث أجرت القيادة الروسية في سوريا تغييرات جوهرية طالت أسماء بارزة في حكومة نظام الأسد ورئاسة أركانه وبعض الأجهزة الأمنية، وتدخّلت مباشرة في العديد من المواضع في عزل وتعيين وزراء ومسؤولين في مؤسسات النظام وإقصاء العناصر المحسوبة على إيران، في ظل تنافس محموم بين إيران وروسيا على السيطرة على المراكز والمؤسسات العسكرية والأمنية في سوريا.
فعلى سبيل المثال، شملت عملية التعيين والعزل إقالة وزير الدفاع في حكومة النظام فهد جاسم الفريج من منصبه، ومدير مكتبه العميد محمود نظام، وتعيين رئيس هيئة الأركان علي أيوب (المقرَّب من موسكو) وزيرًا للدفاع مطلع عام 2018، ليبقى منصب رئيس هيئة الأركان شاغرًا في سابقة لم يشهدها الجيش السوري منذ تأسيسه عام 1946.
كما تمّت ترقية اللواء علي مملوك (رئيس مكتب الأمن القومي) بطلب روسي، فضلًا عن عملية تصفية واسعة طالت مراكز القوة في الجيش، كهيئة الأركان والفيلق الأول والاستخبارات الجوية والعسكرية وبعض أفواج الدفاع الجوي.
ويبدو جليًّا أن من أبرز مظاهر الجهود الروسية المستمرّة لبسط نفوذها داخل المؤسسة العسكرية في سوريا، كان في محاولتها تحييد وتحجيم القوى الموالية التي ترفض الانصياع للمطالب الروسية والمرتبطة خصوصًا مع إيران، كالفرقة الرابعة التي يترأّسها ماهر الأسد (المقرَّب من إيران)، حيث أشارت العديد من التقارير عن تنامي الخلاف بين القوات الروسية في سوريا وماهر الأسد، بعد رفضه مطالب موسكو بسحب عناصر الفرقة الرابعة من مواقع استراتيجية بالقرب من مينائَي طرطوس واللاذقية، ومن نقاط حدودية مع لبنان والعراق والأردن.
تعمل القيادة الروسية أيضًا على توسيع نفوذها عبر الهيمنة على قطاع التجنيد بهدف استقطاب الشباب السوري، لا سيما “شباب المصالحات”، ضمن صفوف قوات استحدثتها وأعادت تشكيلها مؤخرًا كالفيلق الرابع والفيلق السادس والفيلق الخامس.
وإلى جانب ذلك، بدأت روسيا مبكّرًا بالإشراف على تدريب وتأهيل مجموعات من ضباط وعناصر قوات النظام، عبر تدريبات عسكرية (جوّية وبرّية) أو عبر إيفاد دفعات من الضباط الموالين لها لحضور دورات تدريبية عسكرية متقدِّمة في روسيا باختصاصات مختلفة، كالدفاع الجوي والآليات والمشاة، وتسليمهم مناصب رفيعة ضمن مؤسسة الجيش.
إضافة إلى ما سبق، تجهد روسيا في العمل على ضبط الحالة الميليشياوية المنتشرة في عموم الساحة السورية، وتأطير هذه الميليشيات داخل هياكل الوحدات العسكرية النظامية، في محاولة لإضعاف النفوذ الإيراني المتمدِّد عبر ميليشيات أجنبية ومحلية تشرف عليها إيران مباشرة، وذلك من خلال ضبط تحركات ميليشيات إيران وحلِّ بعضها، وتفكيك القوات الرديفة ذات الولاء الإيراني، خاصة ميليشيا الدفاع الوطني.
وضمن هذا السعي، تعمل القيادة الروسية أيضًا على توسيع نفوذها عبر الهيمنة على قطاع التجنيد بهدف استقطاب الشباب السوري، لا سيما “شباب المصالحات”، ضمن صفوف قوات استحدثتها وأعادت تشكيلها مؤخرًا كالفيلق الرابع والفيلق السادس والفيلق الخامس، التي تُعتبَر الأذرع العسكرية الميدانية لروسيا في سوريا، وتشمل عدة ألوية تدعمها روسيا إشرافًا وتدريبًا وإدارةً بشكل مباشر ومنفصل عن وزارة الدفاع التابعة للنظام السوري، وتجهَّز هذه الوحدات بمعدات عسكرية حديثة ومتطورة.
ووفقًا لتقرير صادر عن “المرصد الاستراتيجي” عام 2018، فإنَّ روسيا عملت أيضًا على مجموعة من الإجراءات عزّزت بها جهودها لإعادة الهيكلة، ومنها:
– دمج شعبة التنظيم والإدارة مع إدارة شؤون الضباط، تحت اسم إدارة القوى البشرية.
– الاستحواذ على قطاع التجنيد عبر استحداث إدارة التجنيد العامة، وتعيين اللواء سامي محال مديرًا لها، وتكليفه بالعمل على خطة روسية تهدف إلى إفشال محاولات الفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية في تجنيد “شباب المصالحات”.
– إعادة تشكيل الفرقة الأولى مدرَّعة بقيادة اللواء زهير الأسد.
– إقرار رئاسة الأركان الروسية لخطة تتضمن إعادة هيكلة الفرقة الثالثة وباقي الفرق المدرَّعة الأخرى.
– حل قوات الدفاع الوطني، ودمج عناصرها في الفيلق الرابع اقتحام.
– إحداث تغييرات واسعة النطاق في وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية.
– تعزيز الهيمنة الروسية على القوى الجوية والدفاع الجوي.
أهمية السيطرة على التشكيلات العسكرية
من الملاحَظ أن روسيا سعت مع بداية تدخلها العسكري المباشر إلى جانب نظام الأسد، وبطُرُق مختلفة، إلى المزاوجة بين المسار العسكري ومسار آخر سياسي لا يقلّ أهمية عن المسار الأول؛ فبعد أن نجحت عمليًّا في تثبيت أركان النظام ومنع سقوطه عسكريًّا، توجّهت للعمل على ترجمة وزنها العسكري بآخر سياسي استطاعت من خلاله رعاية عملية سياسية توظّفها، لتعزيز استقرار وفق سرديتها ومقاربتها الخاصة للملف السوري.
وهنا ظهرت أهمية ضبط وإعادة تشكيل المؤسسة العسكرية، وترميم بنيتها التحتية لتتوافق مع رؤية موسكو للحل السياسي، وتتناغم مع جهودها الحثيثة في دفع الغرب للاعتراف بمكتسباتها العسكرية والسياسية، وبقدرتها على تثبيت استقرار دائم في سوريا، إلى جانب ما قد توفّره هذه الهيمنة من زيادة في حضورها الدبلوماسي إقليميًّا ودوليًّا، نتيجة قدرتها على التأثير في مركز صنع القرار في نظام الأسد سياسيًّا وعسكريًّا، لما تمثّله مؤسسة الجيش من أهمية كبيرة تميّزها عن باقي مؤسسات النظام الأخرى.
من جهة أخرى، ارتبطت أهمية إعادة هيكلة الجيش والهيمنة على مؤسساته بطبيعة الوجود الروسي في سوريا، إذ يبدو أن روسيا حرصت على عدم الذهاب بعيدًا بالاعتماد فقط على عناصرها في تثبيت وجودها وتحقيق مكتسباتها الميدانية، معتمدةً بدلًا من ذلك على الاستثمار طويل الأمد في المؤسسات العسكرية والأمنية لتخفيف كلفة التورُّط والانخراط الروسي، ومنع انزالقها في المستنقع السوري، فضلًا عمّا تمثّله هذه الخطوات من محاولة لقطع الطريق أمام القوى الفاعلة في الملف السوري، لا سيما إيران التي تزاحم النفوذ الروسي وتطلُّعاته للتمدُّد عسكريًّا داخل أروقة هذه المؤسسات، والتحكُّم بقراراتها وحركتها.
تحديات
في العموم، تواجه التحركات الروسية معوقات وصعوبات عديدة متفاوتة في التأثير والتداعيات، قد تقف في وجهها وتحول دون قطف ثمارها، ولعلّ أهمها: ترهُّل المؤسسة العسكرية والأمنية وانحدار المستوى الإداري والتنظيمي داخل تلك المؤسسات، خاصة مع تحول الحالة الميليشياوية إلى أمر واقع وتأطيرها ضمن بنيتها وهيكليتها التنظيميتَين.
وقد أكّدت هذا دراسة أعدّها المجلس الروسي للشؤون الدولية، بعنوان “تطور القوات المسلحة في سوريا: الاتجاهات والمشاكل الرئيسية”، حيث توصلت الدراسة إلى نتيجة مفادها: “افتقار القوات المسلحة السورية إلى الانضباط والمركزية والتحديث التقني والتنظيمي والسلطة، وأنه لا يمكن وصف الجيش السوري بأنه جيش حقيقي، نتيجة تعدُّد الجماعات المسلَّحة غير الحكومية”.
ويبدو أن التنافس الايراني الروسي، الذي يتّسع وينتقل لمستويات متعددة تدريجيًّا، يعدُّ سببًا وجيهًا من الأسباب التي تدعو روسيا لزيادة انخراطها وتعزيز تموضعها في بنية المؤسسات العسكرية السورية، وفي الوقت نفسه عقبة كبيرة أمام التطلُّعات الروسية لإعادة الهيكلة، فرغم أن مستوى التنسيق والتعاون بين البلدَين ما زال هو المميِّز لطبيعة العلاقة وتفاعلها في سوريا، إلا أن نقاط الخلاف ومكامن التبايُن تزداد مع بلوغ الصراع فيها “مرحلة الجمود الهش”.
ولعلّ أبرز تجليات هذا “الصراع الخفي” يكمن على المستوى العسكري، حيث تتّكئ إيران على ميليشيات تدين بالولاء المباشر لها في عملية التغلغل وضمان نفوذ استراتيجي داخل المؤسسات المسلحة في سوريا، وتعمل على دمج هذه الميليشيات ضمن صفوف القوات الحكومية “الرسمية”، وتقديم كافة الدعم لإعادة بناء القوات العسكرية للنظام، عبر تعزيز تحالفاتها مع قيادات عسكرية بارزة كماهر الأسد وطلال مخلوف وجميل حسن وغيرهم، ما يشكّل بدوره عامل ضغط على روسيا لزيادة فعاليتها وجهودها لإمساك زمام المبادرة.
استطاعت روسيا بسط سيطرتها المباشرة على مختلف قطاعات المؤسستَين العسكرية والأمنية في سوريا، الأمر الذي أعطاها ثقلًا ووزنًا سيساسيَّين ساعداها على الإمساك بقرار هذه المؤسسات والتحكّم في توجّهاتها.
وفي السياق ذاته، يشكّل تمنُّع النظام وتعنُّته في تلبية المساعي الروسية عقبةً حقيقيةً أمام روسيا لتحقيق مآربها وطموحاتها التوسعية “الاستعمارية”، حيث يُبدي نظام الأسد تخوفًا وامتعاضًا من التحركات الروسية الداعمة لبعض الشخصيات والتيارات السورية، ومحاولتها التمدُّد داخل أجهزته العسكرية والأمنية، الأمر الذي أثّرَ بطبيعة الحال على العلاقة الروسية مع نظام الأسد وحدَّ جزئيًّا من هامش المناورة لدى الروس، خاصة مع اتّكاء النظام على الحليف الإيراني لمجابهة وموازنة الضغوطات الروسية، واتخاذه العديد من الإجراءات كردّة فعل على التحركات الروسية.
في النهاية، على الرغم ممّا سبق، استطاعت روسيا بسط سيطرتها المباشرة على مختلف قطاعات المؤسسة العسكرية والأمنية في سوريا، الأمر الذي أعطاها ثقلًا ووزنًا سياسيَّين ساعداها على الإمساك بقرار هذه المؤسسات والتحكُّم في توجُّهاتها، وذلك في سبيل تحقيق مصالحها ضمن حساباتها الاستراتيجية بعيدة الأمد في سوريا.