تعزِّز الجزائر وتركيا علاقتهما المتينة يومًا بعد يوم، بتوسعهما في المجال الاقتصادي إلى قطاعات متعددة منها النفط، عبر إطلاق شركة “سوناطراك” الجزائرية مشروعًا ضخمًا لإنتاج البوليبروبيلان في تركيا، في فعالية حضرها الرئيس رجب طيب أردوغان، ليردَّ البلدان بطريقتهما الخاصة على الادّعاءات التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا بشأن علاقة الجزائر بالجمهورية التركية.
ورغم اختلاف وجهات النظر بين البلدَين حول بعض القضايا، مثل الملفّ السوري، إلا أن الجزائر وتركيا حافظتا على الدوام على علاقتهما الجيدة التي تتطور باستمرار، وتطمحان لتجعلا منها شراكة استراتيجية في الأشهر المقبلة.
استثمار متبادل
أثبت استثمار “سوناطراك” في تركيا أن العلاقات التجارية بين البلدَين مبنية حقًّا على مبدأ رابح-رابح، وليس على أساس الاستثمارات التركية خارج البلاد كما يتمُّ مع دول أخرى، وهو ما يعني أن الطرفَين يعملان على ضمان الاستفادة المتبادلة.
وذكرت “سوناطراك” الجزائرية، وهي من كبرى الشركات النفطية في إفريقيا، أن الرئيس المدير العام لها، توفيق حكار، شاركَ السبت في مراسم توقيع 3 عقود متعلقة بتطوير المشروع البتروكيمياوي لإنتاج البوليبروبيلان بمدينة جيهان التركية.
وأوضحَ البيان أن العقد الأول يتعلّق بإنجاز المشروع بكل مراحله، من الدراسات الهندسية المفصَّلة والمشتريات والإنجاز وبدء التشغيل (EPCC)، والعقد الثاني يرتبط بأشغال الصيانة الدورية للأجهزة والمعدات، أما العقد الثالث فهو لخدمات بيع وتسويق الإنتاج.
ويظهر من هذه العقود أن “سوناطراك” ستكون حاضرة في جميع مراحل هذا المشروع، وستحاول نقل خبرتها في مجال النفط والبتروكيمياء للشريك التركي الذي يعطي أهمية بالغة لهذا المشروع، والذي يظهر من حجم الحاضرين في فعالية إطلاقه.
وحسب “سوناطراك”، فقد حضرَ مراسم التوقيع هذه كل من الرئيس التركي، ووزيرَي الصناعة والنقل التركيَّين والمديرَين التنفيذيَّين لـ”رونسانس”، شريك “سوناطراك” في هذا المشروع، و كذا ممثّلي الأطراف المتعاقدة وممثِّلين عن سفارة الجزائر بتركيا.
بعد زيارة أردوغان، وقّع البلدان في تركيا اتفاقًا بين “سوناطراك” والمؤسسة التركية “رونسانس” لتنفيذ استثمار بقيمة 1.4 مليار دولار لإنجاز مركّب لإنتاج مادة البوليبروبيلان بمدينة جيهان.
ويعطي حضور أردوغان في هذه الفعالية رسالة إلى الخارج، وبالتحديد فرنسا، أن العلاقات مع الجزائر لا يمكن أن تُبنى بتزييف الحقائق التاريخية، وأن الماضي الذي جمعَ البلدَين في زمن العثمانيين يتمُّ بناؤه من جديد وفق متطلِّبات العصر الحديث.
وتساهم “سوناطراك” بنسبة 34% في هذا المشروع، وتضمن تموينه بالمادة الأولية، البروبان، في إطار عقد طويل المدى باعتماد أسعار السوق الدولية.
ويأتي توقيع الاتفاقيات الثلاث استكمالًا لمذكّرتَي تفاهُم وُقِّعتا عام 2019 خلال زيارة الرئيس أردوغان للجزائر، بين مجمع “سوناطراك” والشركات التركية “بوتاس” و”رونسانس” و”باييجان”، تتضمن بناء منشأة للبتروكيماويات في المنطقة الحرة بأضنة بتركيا تصل قيمتها إلى أكثر من مليار دولار.
وبعد زيارة أردوغان، وقّع البلدان في تركيا اتفاقًا بين “سوناطراك” والمؤسسة التركية “رونسانس” لتنفيذ استثمار بقيمة 1.4 مليار دولار، لإنجاز مركّب لإنتاج مادة البوليبروبيلان بمدينة جيهان، وتنتج هذه المنشأة 450 ألف طن من البوليبروبيلان سنويًّا باستخدام مواد خام تورِّدها الجزائر، ما سيخفض اعتماد تركيا على البتروكيماويات المستورَدة من الخارج بنسبة 25%.
وأشارت “سوناطراك” في بيانها أن توقيع هذه العقود هو تتويج لأكثر من سنتَين من العمل والمفاوضات المتواصلة، وهي محطة هامة في إطار البحث عن التمويل المالي الدولي لهذا المشروع الاستراتيجي.
وتباشر “سوناطراك” خطة عمل جديدة تتمثّل في توسيع نشاطها إلى خارج الجزائر، سواء في قطاع النفط أو البتروكيمياء، حيث تنفِّذ مشاريع في البيرو والنيجر، وتسعى لاستئناف نشاطها بالنيجر.
نمو
لا تريد الجزائر أن يكون تعاونها مع تركيا في قطاع الطاقة مقتصرًا على مشروع إنتاج البوليبروبيلان بمدينة جيهان، بل تتطلّع إلى أن يكون لأنقرة هي الأخرى استثمارات طاقوية في الجزائر، خاصة بما تتيحه إمكاناتها من فرص في مجال الغاز والنفط والطاقات المتجدِّدة والمناجم.
والأربعاء الماضي، شكّل التعاون الطاقوي محور المباحثات التي جمعت وزير الطاقة والمناجم الجزائري محمد عرقاب بالسفيرة التركية لدى بلاده أوزدمير كوكطاش، واللذين وصفا حالة علاقات التعاون والشراكة بين البلدَين بـ”الممتازة”.
واتّفقَ المسؤولان خلال هذه المباحثات على ضرورة تكثيف التعاون بين البلدَين في مجال الطاقة والمناجم، واستكشاف فرص الأعمال والآفاق المستقبلية للاستثمار في المشاريع الهيكلية في الجزائر، لا سيما في مجالات البحث والتنقيب عن المحروقات وتطوير صناعة البتروكيماويات وإنتاج ونقل الكهرباء.
وتعوِّل الجزائر على أن يكون قطاع المناجم من المصادر المدرّة لمداخيل كبيرة للبلاد في السنوات المقبلة، فقد أطلقت منذ أيام مشروع شراكة مع الصين لإنتاج الحديد بمنطقة غار جبيلات بولاية تندوف جنوب البلاد، وتأمل أن توسِّع شراكاتها مع دول أخرى في استخراج معادن أخرى كالفوسفات والذهب، حيث تمتلك تركيا تجربة تستحق الاستعانة بها، خاصة أن الجزائر قد باشرت إجراءات السنة الماضية لرفع إنتاجها من المعدن الأصفر.
وتشير تقارير إحصائية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لقطاع استخراج الموارد الطبيعية في تركيا، كان يبلغ حوالي 2.6 مليار دولار أميركي عام 2003، لكنه ارتفع إلى حوالي 12 مليارًا عام 2013، وهو ما رفع تصدير هذه الموارد في العام نفسه إلى حوالى 5 مليارات دولار أميركي، بعدما كان عام 2003 حوالي 850 مليون دولار فقط، في حين تسعى الحكومة التركية إلى جعل قيمة الموارد الطبيعية المصدَّرة عام 2023 بحدود 15 مليار دولار.
خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إلى الجزائر، منتصف شهر أغسطس/ آب الماضي، قال نظيره رمطان لعمامرة إن “الاستثمارات الجديدة لتركيا، من الممكن أن توجَّه إلى قطاعات الزراعة والمناجم والسياحة، حيث إن لتركيا تجربة كبيرة في هذا المجال”.
ولا يستبعَد أن يشكّل مجال التنقيب عن النفط في المجال البحري قطاعًا آخر للشراكة بين البلدَين، فقانون المحروقات الجزائري الجديد كان قد أوصى بتوسيع عمليات التنقيب عن النفط إلى الحدود البحرّية للبلاد، وهو المجال الذي أثبتت بشأنه تركيا إمكانات كبيرة من خلال عمليات التنقيب التي تجريها شرق المتوسط، لذلك أبلغ الوزير عرقاب السفيرة كوكطاش بالمزايا الواردة في القانون الجديد للمحروقات، وأعرب عن رغبته في رؤية إنشاء شراكات أخرى بين تركيا والجزائر في قطاع المحروقات.
وفي اجتماع الأسبوع الماضي، ناقش عرقاب والسفيرة التركية أيضًا أوجُه التعاون المتعلقة بتبادُل الخبرات وقطاع المناجم بالجزائر، والبحث عن واستغلال وإنتاج المواد المنجمية، وكذا الإعداد لأشغال اللجنة المشتركة الحكومية الجزائرية-التركية المقبلة التي ستترأّسها هذه المرة وزارة الطاقة والمناجم، حيث سينظَّم خلالها منتدى للأعمال.
ولم يتردد وزير الطاقة الجزائري في التعبير عن “ارتياحه لعلاقات التعاون والشراكة الجيدة بين “سوناطراك” والشركات التركية”، داعيًا إياها إلى “تطوير شراكات متبادلة المنفعة تركّز على مشاريع تدمج إتقان تقنيات الإنتاج ونقل المعرفة والخبرة والتكوين”.
وخلال الزيارة التي قامَ بها وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إلى الجزائر منتصف شهر أغسطس/ آب الماضي، قال نظيره رمطان لعمامرة إن “الاستثمارات الجديدة لتركيا، من الممكن أن توجَّه إلى قطاعات الزراعة والمناجم والسياحة، حيث إن لتركيا تجربة كبيرة في هذا المجال”.
بلد محوري
بالنظر إلى التطور المتواصل للتعاون بين الجزائر وتركيا، فقد أصبحت أنقرة ضمن الدول المحورية التي تضعها الجزائر ضمن أولوية شراكتها واهتمامها، وهو ما تمَّ تأكيده الأحد بإعلان تعيين ممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة سفيان ميموني سفيرًا مفوَّضًا فوق العادة لدى تركيا، خلفًا لمراد عجابي الذي شغل هذا المنصب منذ عام 2019.
وميموني ليس دبلوماسيًّا عاديًّا، فقد عمل كممثِّل دائم للجزائر بالأمم المتحدة منذ عام 2019، وهو المنصب الذي لا يُسنَد إلا إلى الدبلوماسيين المقتدرين، كما ترأّس البعثات الدبلوماسية للجزائر في عدة دول آسيوية بين عامَي 2009 و2014.
وتولّى ميموني قبل ذلك منصب المدير العام لإدارة آسيا وأوقيانوسيا بوزارة الخارجية بين عامَي 2005 و2009، وأُسندَ له أيضًا منصب المدير العام لإدارة إفريقيا بالوزارة بين عامَي 2015 و2019، وهي مناصب جعلته يمتلك خبرة من شأنها أن تصبَّ في خانة تعزيز التعاون مع تركيا.
وقال وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، على هامش الاجتماع الوزاري الثالث بين إيطاليا وإفريقيا في روما المنعقد مؤخرًا، في تصريح لـ”وكالة الأناضول” التركية الرسمية، إن الجزائر وتركيا تمتلكان علاقات تاريخية عميقة وروابط معنوية قوية، وتسعيان إلى تعزيز علاقاتهما المشتركة.
وحسب لعمامرة، فإن تركيا ساهمت بشكل مهم في عملية التنمية بالجزائر خلال السنوات الأخيرة، لذلك تتطلّع الجزائر إلى المزيد من علاقات الشراكة والاستثمارات التركية خلال الأيام القادمة. وأكّد لعمامرة أن بلاده تدعم إقامة علاقات شراكة نوعية مع تركيا، بحيث تشمل المجالات كافة، معرّبًا عن تفاؤله بهذا الصدد.
ويتراوح حجم المبادلات التجارية بين الجزائر وتركيا حاليًّا بين 3.5 و4.2 مليارات دولار، ويأمل البلدان في أن يبلغ قريبًا 5 مليارات دولار، على أن يصل مستقبلًا إلى 10 مليارات دولار، حسب ما ورد في تصريحات سابقة لمسؤولي البلدَين، ومنهم الرئيس أردوغان.
وتنشط اليوم في الجزائر أكثر من 1300 شركة تركية مستثمرة، توظِّف 25 ألف جزائري، إضافة إلى أن الجزائر تموِّل تركيا بالغاز، ووقّع البلدان اتفاقات تعاون تشمل قطاعات الفلاحة والنقل البحري والتعليم العالي.
يأمل البلدان أن تسير شراكتهما دومًا في الاتجاه الصحيح، خاصة أن توسيعها بدأ يصل مختلف المجالات حتى الثقافية منها.
ويأتي هذا التقارُب الجزائري التركي ليقطع أي طريق لتوتير العلاقات بينهما بسبب التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي قال فيها إن الجزائر كانت مستعمَرة من طرف الدولة العثمانية.
وقال لعمامرة في ردّه على مزاعم ماكرون: “مهما كان سبب المشكلة بين فرنسا والجزائر، لا أعتقد أنها ستؤثِّر على علاقاتنا مع الدول الشقيقة مثل تركيا”.
وخلال الزيارة الأخيرة لمولود تشاووش أوغلو إلى الجزائر، قال لعمامرة إنه قد “توصّلنا إلى قناعة بأن التوجيهات التي أصدرها الرئيسان عبد المجيد تبون ورجب طيب أردوغان في لقائهما شهر يناير/ كانون الأول 2020، ساعدت الحكومتَين على بلورة أساسيات هذه الشراكة الاستراتيجية، والأهداف المرسومة في كل مرحلة من مراحل تنفيذها”.
وقال الرئيس تبون في لقاء تلفزيوني بُثّ الأحد، إن أغلب ما تستورده الجزائر من الخارج يأتي من إيطاليا وتركيا.
ويأمل البلدان أن تسير شراكتهما دومًا في الاتجاه الصحيح، خاصة أن توسيعها بدأ يصل مختلف المجالات حتى الثقافية منها، والتي ستُرسَم كشراكة استراتيجية خلال الزيارة المرتقبة للرئيس عبد المجيد تبون لتركيا التي تأجّلت بسبب جائحة كورونا، والتي ستشهد انعقاد اجتماع مجلس التعاون رفيع المستوى واجتماع اللجنة الاقتصادية المشتركة.