لا تترك إيران مجالًا في الصراعات الدولية والإقليمية إلا وتعرف كيف تستفيد منه، حدث ذلك في كل صراعات المنطقة وتوتُّراتها الداخلية من أجل العدالة والديمقراطية، التي لم تحقِّق إلا مزيدًا من حماية تدخلات طهران وتأمينها بجماعات ضغط سياسية وشبه عسكرية جعلت من أحلام الديمقراطية سرابًا، ومن نفوذ إيران حقيقة واضحة، ويحدث الآن الشيء نفسه، حيث تتربّح إيران بصورة غير مسبوقة من ارتفاع حدة الصراع، واستمرار أمريكا في نهج سياسات العقوبات وليّ الذراع ضد الصين.
صراع مفتوح
تمرُّ العلاقات بين الصين والولايات المتحدة بأدنى مستوياتها على الإطلاق، يخوض البَلدان مواجهة مريرة حول قضايا مختلفة، بما في ذلك التجارة، وجائحة فيروس كورونا، والتحركات العسكرية للعملاق الشيوعي في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، وحقوق الإنسان.
انتظر المستوردون والشركات الأمريكية شهورًا لمعرفة ما سيفعله الرئيس بايدن بالحرب التجارية التي ورثها عن ترامب، والتي حرّضت أكبر اقتصادَين في العالم ضد بعضهما، لكن بايدن منذ توليه منصبه في يناير/ كانون الثاني وهو يحافظ أيضًا على التعريفة الجمركية نفسها التي فرضها ترامب للنيل من سلع المنافس بقيمة مليارات الدولارات، ورغم اجتهاد إدارة بايدن في إجراء مراجعات شاملة لأسلوب التعامل الأمثل مع طهران، لكن حتى الآن لا يوجد جديد.
أدّت التوترات التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين إلى ترك الشركات العالمية في وضع هشٍّ للغاية، حيث تعمل التعريفات على زيادة تكاليف سلاسل التوريد بشكل مطّرد، وتؤدّي إلى تأخير في التخليص الجمركي، ولهذا تعيد العديد من الشركات الآن النظر في سلاسل التوريد القائمة منذ فترة طويلة والشراكات اللوجستية، ما يضيف أزمات كبرى للسوق العالمي.
بخلاف الشركات العالمية، هناك دول استفادت من هذه الحرب الطاحنة وطوّعت الأزمة لصالحها، وعرفت كيف تربح من إطالة أمد الأزمة، وتعثُّر بايدن في إيجاد سياق أخلاقي يمكّنه من تجاوز إرث سلفه، ومراعاة مصالح بلاده ومصالحه الانتخابية في الوقت نفسه، وسط رأي عام متربّص بالصين ومنافستها المطّردة للولايات المتحدة، وعلى رأس هؤلاء إيران.
من المستفيد؟
منذ سنوات والصين عرفت كيف تنتقم من الولايات المتحدة بالجنوح إلى شواطئ إيران، بسبب إصرار قادة أمريكا على استمرار نيران الحرب التجارية مشتعلة بين واشنطن وبكين، ومن غير المرجّح أن يتغير هذا الاتجاه في المستقبل القريب.
قبل اندلاع هذه الحرب المدمِّرة كانت واشنطن ناجحة بشكل عام في الضغط على بكين، وإقناعها بالوقوف إلى جانبها ضد التحدي النووي الإيراني، وبالفعل صوّتت الصين إلى جانب روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وآخرين في مجلس الأمن الدولي ضد الحكومة الإيرانية.
وقّعت الصين على تمرير 4 قرارات تفرض عقوبات صارمة على النظام الإيراني من عام 2006 إلى عام 2010، كما وافقت أيضًا على خفض وارداتها النفطية من إيران خلال هذا الوقت، لكن “الجميل” الصيني لم تحفظه أمريكا وحاولت التهام اقتصادها بالحرب التجارية التي أشعلها ترامب، والمستمرة حتى الآن مع إدارة بايدن.
لجأت بكين إلى جمع أوراق ضغط مباشرة وغير مباشرة، وعرفت جيدًا أن إحدى هذه الأوراق يجب أن تكون إيران، فقدّمت لها حوافز كبرى لعدم الاستسلام لضغوط واشنطن، ولم تلتفت مطلقًا لضغوط الولايات المتحدة وتهديداتها المختلفة لإجبارها على قطع وارداتها النفطية من إيران، ولم تعد ترتدع أيضًا بإشهار أمريكا سلاح العقوبات المدمِّر المعروف بالولاية القضائية طويلة المدى، والذي يمكّنها من توقيع عقوبات قاسية أحادية الجانب على الدول والكيانات والأفراد.
كل هذه الصواريخ الأمريكية القانونية، لم تعد تثني الصين عن مساندة إيران ردًّا على عدوانية أمريكا معها، وذهبت إلى أبعد مكان ممكن في الدعم، حيث منحت طهران عضوية كاملة في منظمة شنغهاي للتعاون بعد أن كانت تشغل وظيفة مراقب فقط.
تتلخّص الولاية القضائية عادة في تمكُّن الولايات المتحدة بحسب قوانينها الداخلية، من حق الوصول إلى بيانات المستخدمين والمعلومات شديدة الخصوصية عن البنوك والمؤسسات المالية، الأمر الذي يتيح لها اتهام بعض الشركات بالفساد.
لكن الدور المهني للقضاء أصبح يتبلور في مساندة القرار السياسي لأمريكا، وكثيرًا ما فرضت الولاية القضائية عقوبات مشدَّدة على بلدان كبرى، بزعم انتهاك الحظر الأمريكي للتجارة مع كوبا وليبيا وكوريا الشمالية وإيران ودول أخرى، وتمَّ تغريمها مليارات الدولارات.
أتاح هذا السلاح القضائي لأمريكا القضاء على أكبر منافسيها، ومكّنها من تفكيك العديد من الشركات، بما فيها مؤسسات أوروبية عملاقة متعددة الجنسيات تحت ذريعة مكافحة الفساد، ما منحها الضوء الأخضر لتوسيع عقوباتها الضاربة ضد المعارضين لسياساتها العالمية.
لكن كل هذه الصواريخ الأمريكية القانونية، لم تعد تثني الصين عن مساندة إيران ردًّا على عدوانية أمريكا معها، وذهبت إلى أبعد مكان ممكن في الدعم، حيث منحت طهران عضوية كاملة في منظمة شنغهاي للتعاون بعد أن كانت تشغل وظيفة مراقب فقط، ولم تأبه مطلقًا لاستمرار حظر إيران على قوائم هيئة الرقابة المالية الأمريكية بتهمة دعم وتمويل الإرهاب.
الحرب بالمزايدة على الغرب
رغم المكايدة الصينية المطلقة لأمريكا، إلا أنها حافظت على استخدام أرقى العبارات الدبلوماسية في التعامل مع الأزمة، وزايدت على أمريكا في تبنّي القِيَم الغربية، حيث تروِّج بشدة في الأوساط الدولية المعنية بالأزمة، أنها تساند إيران لاقتناعها بالرؤية الأوروبية وليس الأمريكية لإنقاذ الاتفاق النووي.
تلقي الصين باللوم بشدة على الولايات المتحدة في عرقلة المحادثات مع طهران -وهو موقف قريب من القارة الأوروبية-، لكنها ذهبت إلى ما هو أبعد بضرب أساسات الدبلوماسية الأمريكية، حيث تتهمها بالغطرسة واستخدام قوتها في تمرير آليات غير قانونية لكلِّ مختلفٍ معها، وخاصة إيران.
نجحت الصين في إدخال عدة أهداف في مرمى السياسة الدولية، من ناحية استخدمت إيران كورقة ضغط للمساومة في حربها التجارية مع الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى أبرزت قدرتها للعالم على تحدي السياسة الخارجية لواشنطن في واحد من أعقد الملفات العالمية: برنامج طهران النووي.
على المستوى الاقتصادي، استفادت الصين من محاولة عزل إيران، ووقّعت اتفاقًا مدّته 25 عامًا، يمنحها حقوقًا احتكارية لموارد طهران، واستثمرت بما يقارب الـ 400 مليار دولار في صناعات النفط والغاز والبتروكيماويات الإيرانية، ومنحها الاتفاق الأولوية في تقديم عطاءات على أي مشروع جديد في البلاد مرتبط بهذه القطاعات.
حصلت الصين أيضًا على خصم بنسبة 12% من التزامتها المادية، وصلاحية تأخير المدفوعات لمدة تصلُ إلى عامَين، ودفع المستحقات المطلوبة لإيران بأي عملة تختارها بكين، كما جرى الاتفاق على نشر آلاف الجنود تحت لافتة اتفاقات دفاع مشترك، ما يشير إلى تعميق التعاون العسكري.
رسّخت الصين نفوذها العسكري بهذا الاتفاق في منطقة كانت الشغل الشاغل للولايات المتحدة طوال عقود مضت، وأصبح من حقها ممارسة تدريبات وأبحاث مشتركة لتطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، بجانب سلطة شبه كاملة في استخدام جزر إيران والسيطرة على كل قطاعات الصناعة الإيرانية تقريبًا، بما في ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية والطاقة والموانئ والسكك الحديدية والمصارف، وهي تنازلات لم تحدث في تاريخ الجمهورية الإسلامية من قبل.
وإجمالًا، يمكن القول إن الصفقة الاستراتيجية والاقتصادية فوز واضح وكاسح للصين في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، فما ستفقده باليمين، ستحصل عليه باليد اليسرى من صفقة مستمرة على مدار 25 عامًا.
مصالح إيران من الحرب التجارية
كما تستفيد الصين من إيران، تستفيد طهران بما هو أفضل، فانضمامها رسميًّا إلى منظمة شنغهاي للتعاون، يعني أنها ضمنت حشد أكبر البلدان المناوئة للسياسات الأمريكية في جانبها، ما يمنحها القوة والمناعة المطلوبتَين لحفظ كبريائها التي تبذل بسببها الغالي والنفيس أمام أكبر دولة في العالم.
تراهن إيران على عضوية المنظمة في إعطائها الشرعية الدولية المفقودة، ومنحها النفوذ المطلوب لاستكمال سياساتها في الشرق الأوسط، والتصرف دائمًا باعتبارها القوة الأكثر جاهزية للتعامل مع الأوضاع الراهنة في آسيا الوسطى، دون خوف من أمريكا أو أوروبا، حيث تُعتبر منظمة شنغهاي للتعاون أكبر تكتل معادٍ للغرب بشكل عام، وصلب سياستها مصمَّم بالأساس على مناهضة سياسات بلدان حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
تدفع بعض الدول والكيانات الناقمة على سياسات الولايات المتحدة للمزيد من التعاون الثنائي مع إيران، ما سيؤدي في النهاية إلى تغيير المنظور الاستراتيجي للمنطقة، وترسيخ نفوذ طهران أكثر.
في الوقت نفسه، يعني التحالف مع الكتل المعادية للغرب توجيه عدة ضربات على جبهة واحدة، وهو بمثابة إعلان تحدٍّ للولايات المتحدة الذي سيصبّ بالنهاية في إحداث انهيار تدريجي للعقوبات المفروضة عليها، حيث وجدت إيران بالتحالف مع الصين طرقًا متعددة سواء للالتفاف على هذه العقوبات أو لإثباث ضعفها وفشلها في إدارة العلاقات الدولية على أقل تقدير.
بالتحالف مع الصين، تمكّنت إيران من الصمود والتلاعب علانية بالعقوبات الأمريكية، وأثبتت شجاعتها في تجاهل مطالبة بايدن بأن تعود طهران أولًا إلى التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ما قلّلَ من الدعم الدولي للعقوبات، وأصبح هناك خطابات غربية مناوئة له تدعو للتفاوض على أساس المصالح لا التخويف والابتزاز.
نجحت إيران في تجريس نظام العقوبات الأمريكي، وفي ضوء هذا النجاح تدفع كل يوم بعض الدول والكيانات الناقمة على سياسات الولايات المتحدة للمزيد من التعاون الثنائي معها، ما سيؤدي في النهاية إلى تغيير المنظور الاستراتيجي للمنطقة، وترسيخ نفوذ طهران أكثر، وتمكينها من فرض رؤيتها وتوسيع رقعة أهدافها وطموحاتها، التي تعتبرها دائمًا حقيقة قومية وعقائدية لا تنازل عنها ولا تفريط فيها.