البطاقة الذكية.. توظيف التكنولوجيا لإذلال السوريين
ربطة خبز للفرد تُوزع كل 3 أيام وتحوي 7 أرغفة تُستهلك بمعدل رغيفين وثلث فقط في اليوم، و50 لترًا من المازوت لا بد أن تكفي الشتاء كله، و100 لتر من البنزين في الشهر مهما بلغ استهلاك السيارة أو كانت الحاجة لاستخدامها، وطوابير طويلة طويلة للحصول على هذه الكميات الشحيحة بآلية ابتدعها النظام، ظاهرها التنظيم والتوزيع العادل، وباطنها حرمان السوريين من أبسط مقومات الحياة وإلهاؤهم باللهاث لتأمينها.
التوزيع بالبطاقة الذكية.. تنظيم أم تقنين؟
عام 2017 عندما اقتربت أزمة الموارد من بلوغ ذروتها، أوعز نظام الأسد لسكان محافظة دمشق باستخراج بطاقات ذكية لاستلام مخصصاتهم من المازوت المدعوم حكوميًا، لتنظيم عملية التوزيع فلا تكون إلا بموجب البطاقة، ثم بدأ بتطبيق هذه الآلية بشكل فعلي مع حلول عام 2018، وعممها على كل المناطق الخاضعة لسيطرته.
كانت هذه الخطوة المفاجئة بداية مشوار طويل لمعاناة السوريين مع هذه البطاقات، إذ ترتبط البطاقة الذكية بالرقم الوطني ويحتاج استخراجها إلى حضور رب الأسرة شخصيًا حاملًا معه من الوثائق ما يثبت عدد أفراد أسرته مثل دفتر العائلة والبطاقات الشخصية، ولتفعيلها لا بد من ربطها بتطبيق للهواتف الذكية يُدعى “وين” أو التسجيل في الموقع الإلكتروني الخاص بمشروع البطاقة الذكية أو مراسلة بوت المشروع في تطبيق تيليغرام، وكلها طرق معقدة يصعب على السواد الأعظم من السوريين التعامل معها، خاصةً من لا يملك منهم ترف شراء الهواتف الذكية واستخدامها.
قد تهون هذه التعقيدات لو أن آلية البطاقة الذكية حلت مشكلة توزيع المازوت ووفرته بالفعل، لكن المشكلة في واقع الحال تفاقمت عندما بدأ النظام أولًا بتخفيض المخصصات ثم تقسيمها على دفعتين يمضي فصل الشتاء غالبًا بالحصول على الأولى دون الثانية، لينتهي الأمر بتخصيص كمية ضئيلة جدًا، ويبدو كأنه تقنين لاستهلاك المازوت لا تنظيم لتوزيعه.
ترسخت فكرة التقنين أكثر عندما بدأ النظام عام 2019 تطبيق الآلية نفسها على أسطوانات الغاز، فلم يعد للسوريين حرية استبدال بأسطواناتهم الفارغة أخرى ممتلئة في أي وقت، إنما باستلامهم رسالة نصية تأذن بحلول دورهم عند معتمد التوزيع المسجلين لديه، وعليهم في أثناء ذلك التوقف عن استخدام الغاز ومراقبة رقم الدور الممنوح لهم ضمن تطبيق “وين”، الذي قد يصل للألف أحيانًا ويتحرك تنازليًا ببطء شديد.
يرعى هذا الازدهار نشاط مهربي المحروقات عبر الحدود من لبنان إلى سوريا بدعم من حزب الله اللبناني والفرقة الرابعة في جيش النظام
ثم اتبع النظام أسلوب الرسائل النصية ذاته حين ضم توزيع البنزين، مقننًا الحصول على هذه المادة غير المتوافرة في محطات الوقود أساسًا، ليُلحق بآلية البطاقة الذكية فيما بعد توزيع المواد التموينية المدعومة (أرز – سكر – شاي)، كبديل عن نظام “البونات” المعمول به من عهد حافظ الأسد، فنال هذه المواد نصيبها من التقنين أيضًا.
ثم اكتملت المأساة عندما أضيف الخبز المدعوم لقائمة المواد الموزعة وفق البطاقة الذكية، فصُنفت العوائل وفق شرائح عددية وحُدد لكل منها كمية قليلة من الخبز لا تتناسب أبدًا مع الاستهلاك الفعلي، يترافق تقنين المواد الأساسية المدعومة وصعوبة الحصول عليها مع ازدهار السوق السوداء التي توفرها بسعر حر باهظ جدًا لم يعد يطيقه السوريون، لا سيما أن 80% منهم يقبعون تحت خط الفقر.
يرعى هذا الازدهار نشاط مهربي المحروقات عبر الحدود من لبنان إلى سوريا بدعم من حزب الله اللبناني والفرقة الرابعة في جيش النظام.
يذكر أن شركة “تكامل” المنفذة لمشروع البطاقة الذكية يرأس مجلس إدارتها مهند الدباغ ابن خالة أسماء الأسد والحصة الكبرى من الشركة مسجلة باسم شقيقها، والشركة – وفق العقد الموقع مع حكومة النظام – تحصل على فائدة مالية لا بأس بها مقابل كل بطاقة تصدرها، كما تحصل على عائدات عن كل لتر بنزين أو مازوت أو غاز يتم بيعه من خلال البطاقة، وبذلك يظهر أن العملية برمتها تزيد من مكاسب نظام الأسد الذي لم يكتفِ بعد من تضييق الخناق على السوريين.
لم تقتصر سلبيات تطبيق مشروع البطاقة الذكية على التقنين وحسب، بل شملت نواحٍ أخرى جعلت من توزيع المواد ذلًا صرفًا، في هذا الشأن يحكي العم محمد تجاربه قائلًا: “أسطوانات الغاز التي نحصل عليها مغشوشة وليست ممتلئة بالكامل، وتكفي بالكاد 20 يومًا، وكلما شعرت أن فراغها اقترب، أتأهب، وأترقب كل يوم الرسالة النصية التي تبشرني بحلول دوري لتسلم أسطوانة جديدة، تلك الرسالة التي كثيرًا ما يتأخر وصولها شهرًا أو يزيد”.
ويكمل: “عند فراغ الأسطوانة، الواحد منا أمام خيارين: إما اللجوء للسخانات الكهربائية، وهم لا يمدوننا بالكهرباء إلا سويعات في النهار، وإما اللجوء مكرهين لشراء أسطوانات بالسعر الحر الذي وصل لمئة ألف ليرة سورية أي ما يساوي تقريبًا ضعف مرتب الموظف العادي، فمن أين لنا بمبلغ كهذا كل شهر! بالمختصر.. إنهم يتربحون من معاناتنا ويستمتعون بإذلالنا”.
أما بشأن توزيع الخبز يروي العم محمد: “الخبز في الغالب سيئ لا تقبل به الدواب، مع ذلك فحصتنا منه تكفينا، لكن جارنا الذي يسكن هو وعائلته الكبيرة في غرفة واحدة كثيرًا ما يستعين بنا ويطلب رغيفًا أو رغيفين زيادة عندما يستهلك صغاره كل الكمية المسموح له شراؤها”.
ثم يروي هذا العم حكاية أخرى تتعلق بتوزيع المازوت: “يتعمد المسؤولون عن توزيع المادة المجيء ليلًا، يتخفون في الظلام حتى لا يراقب أحد عداد الصهريج ليختلسوا كميات من حصة كل منزل، ثم يجمعوها ويبيعوها بالسعر الحر، إنهم يسرقوننا بكل وقاحة كأن معاناتنا من قلة الكمية الموزعة وغلاء سعرها لا تكفينا.. حتى ينهبنا أولئك اللصوص”.
وأخيرًا يتحدث العم محمد عن تجربة توزيع المواد التموينية: “منذ أن أتيح شراء المواد التموينية عبر البطاقة الذكية وأنا أسارع في طلب مخصصاتي كلما أتيحت لي، نعم هي قليلة وجودتها رديئة ورغم ذلك تبقى أفضل من لا شيء، لكن تسليمها يتأخر وفي بعض الأحيان يؤجلون تسليمنا الأرز أو السكر لعدم وجود المادة، وفوق هذا فإننا نتعرض لمعاملة بشعة من الموظفين في صالات المؤسسة الاستهلاكية ومراكز التوزيع”.
ما وراء الأزمة الاقتصادية في سوريا
فيما يتعلق بإنتاج القمح، تقول هيومان رايتس ووتش في تقرير أصدرته في شهر مارس/آذار 2021 إن البلاد كانت تنتج ما يكفي من القمح لتلبية الاستهلاك المحلي، لكنها – نقلًا عن دراسة مدرجة في التقرير – خسرت ما يقارب مليون هكتار من الأراضي المزروعة بين عامي 2011 و2018 بسبب العمليات العسكرية وتهجير المزارعين وعمال المزارع وسوء إدارة موارد الدولة.
كانت بعض الخسائر في الأراضي بسبب الضربات الجوية غير القانونية التي شنها التحالف العسكري السوري الروسي، تلك الضربات لم تقتصر على تدمير الأراضي الزراعية فحسب، بل دمرت أيضًا وبشكل منهجي مخابز وأفران عدة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وأضافت المنظمة في تقريرها أن معظم المناطق المزروعة حاليًّا تسيطر عليها قوات الأكراد الذين يزايدون على بيع القمح لحكومة النظام ويفضلون الاحتفاظ به محليًا.
كان من الصعب على نظام الأسد الاعتراف بانهيار اقتصاده والتفكير بحلول ووضع خطط مجدية لإنقاذ البلاد مما آلت إليه، فاستتر بالبطاقات الذكية
إلا أنه لا يمكن عزو أزمة إنتاج القمح التي تعيشها البلاد للحرب القائمة فقط، إذ إن دراسة أجراها باحثون موالون للنظام عنوانها “التضخم في الاقتصاد السوري خلال المدة (2001 – 2010)”، تقول إن البلاد شهدت تضخمًا وعجزًا في الموازنة العامة وازداد دينها العام في المدة الزمنية موضع الدراسة، وهي في الواقع مدة حكم الأسد الابن قبل اندلاع الثورة، وتذكر الدراسة أن هذا التدهور الاقتصادي أثر على الدعم التمويني لمادة الخبز في تلك الفترة، فوصلت عجوزات المؤسسة العامة للتجارة وتصنيع الحبوب إلى نحو 129 مليار ليرة سورية.
أما فيما يتعلق بإنتاج المشتقات النفطية فالأزمة أكثر تعقيدًا، فعلى الرغم من أن سوريا لا تعد بلدًا نفطيًا عالميًا فإن مواردها كانت كافية لتغطية الاستهلاك المحلي مع تصدير جزء منها، ذلك قبل أن يتوالى استيلاء عدة أطراف على الحقول النفطية للاستفادة منها.
المستفيد الأكبر كان تنظيم داعش بحسب دراسة أعدتها مديرة أبحاث سوريا في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية الأستاذة ريم تركماني، تقول الدراسة إن التنظيم أعطى الأولوية للسيطرة على الموارد الإستراتيجية في جميع تحركاته العسكرية في سوريا بما في ذلك التحكم في موارد النفط، ما يعني أن الجهات الأخرى في سوريا أصبحت تعتمد عليه في توفير المادة، إذ تشير التقارير إلى أن النفط الخام الذي استحوذت عليه داعش كان يصرف في 3 موارد (جزء يُباع لحكومة النظام – جزء يُهرب إلى تركيا – جزء يتاجر به التنظيم لكسب ولاء القبائل في مناطق سيطرته).
فالتنظيم إذًا تغذى على عائدات النفط السوري ليكبر نفوذه في المنطقة ويعاني السوريون من أزمة محروقات خانقة في المقابل، وبعد انسحاب داعش حان دور قسد وروسيا للاستفادة هي الأخرى، ففي تحليل نشرته وكالة الأناضول ذُكر أن روسيا ومنذ دخول قواتها شرق الفرات حاولت الوصول إلى حقول النفط الغنية فيها، متنازعة في ذلك مع القوات الكردية المسيطرة على أكبر الحقول وأبرزها بدعم من الولايات المتحدة، إلا أن روسيا لم تكن تغريها احتياطات سوريا من النفط والغاز بقدر ما تركز على فكرة توسيع نفوذها كقوة عظمى في المنطقة من خلال الاستحواذ على سوق الطاقة فيها بعقود تنقيب وإنتاج أبرمتها شركاتها مع النظام السوري، وبفرض قيود على استيراد وتصدير مادة الغاز خصوصًا عبر سوريا، مسددةً بهذا أيضًا نفقات تدخلها العسكري لمساعدة نظام الأسد.
يتجاهل النظام ورؤوسه كل تلك العوامل عند الحديث عن أسباب الأزمة النفطية، ويركزون على العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، التي أدت لانسحاب الكثير من الشركات الأجنبية العاملة في مجال إنتاج النفط وتكريره، مبررة بذلك التراجع الحاد بإنتاجه في الفترة الأخيرة، وحصول عجز في قطاعه يتمثل بعدم الاستفادة من الموارد المحلية والاضطرار لاستيراد حاجة البلاد من الدول الحليفة بما لا يكفي ولا يلبي الطلب المحلي، وبما يعكس أزمةً في تأمين المحروقات وارتفاعًا في أسعارها.
كان من الصعب على نظام الأسد الاعتراف بانهيار اقتصاده والتفكير بحلول ووضع خطط مجدية لإنقاذ البلاد مما آلت إليه، فاستتر بالبطاقات الذكية ليخفي عورة عجزه، ولجأ للبرمجيات ليقنن استهلاك الشعب من الموارد التي تركها غنائم لحلفائه، فحول السوريين من الاصطفاف بطوابير في الشوارع إلى الاصطفاف في دور رقمي ضمن تطبيق للهواتف الذكية، ونقل الانتظار من أمام أبواب الأفران ومراكز التوزيع إلى خلف الشاشات، ليكون بذلك أول من استخدم التكنولوجيا لإذلال شعبه بدلًا من تحسين معيشتهم.