يواصل أنصار مجموعة الميثاق الوطني المنشقة عن تحالف “قوى الحرية والتغيير” اعتصامهم أمام القصر الرئاسي في الخرطوم، لليوم الثالث على التوالي، للمطالبة بحل الحكومة الحاليّة وتشكيل أخرى بمواصفات محددة، وسط سجال وتبادل الاتهامات بين النخب السياسية بشأن هوية المسؤول عن الوضع المتدهور حاليًّا على المسارات كافة.
تأتي تلك التظاهرات استجابة لدعوة مجموعة الميثاق، التي تضم كيانات حزبية وحركات مسلحة، أبرزها حركة تحرير السودان بزعامة حاكم دارفور مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم وزير المالية الحاليّ، للخروج في “مواكب” لدعم الانتقال المدني والديمقراطي والعدالة وبناء قوات مسلحة سودانية واحدة.
ويطالب المعتصمون بتوسيع الحاضنة السياسية للحكومة (المطلب الذي لاقى دعمًا وتأييدًا من جنرالات المجلس الانتقالي)، وتنفيذ بنود الوثيقة الدستورية، وتشكيل حكومة كفاءات، فيما وجهت القوى المنضوية تحت لواء التحالف الجديد اتهامات لقوى الحرية والتغيير المشاركة في الحكم، بالسعي للانفراد بالسلطة عبر إقصاء باقي التيارات المدنية في البلاد.
ويشهد السودان الأيام الأخيرة أزمة ربما تكون الأخطر منذ الإطاحة بنظام البشير في أبريل/نيسان 2019، تهدد مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول، في ظل إصرار ورغبة جامحة لدى المكون العسكري في الانفراد بالسلطة أطول فترة ممكنة والانقلاب على الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، ساعده على ذلك فشل المكون المدني في الوفاء بالتزاماته حيال الشارع السوداني المحتقن ضد أداء السلطة الحاليّة برمتها.
الأمور في البلاد تسير بوتيرة متصاعدة تفرض علامات استفهام عدة بشأن من يحركها بتلك السرعة التي لا تتناسب مطلقًا مع حالة التباطؤ التي يعاني منها السودان على كل المستويات، إذ بات من الصعب التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه الوضع بين الساعة والأخرى، الأمر الذي يدفع للتساؤل عن المستفيد من هذا التأجيج ورفع درجة المشهد إلى حد الغليان.
سخونة الأجواء
وردًا على تظاهرات المجموعة المنشقة، دعا “تجمع المهنيين السودانيين” عددًا من لجان المقاومة التي قادت الاحتجاجات الليلية ضد نظام البشير إلى الخروج في مسيرات غفيرة الخميس 21 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ للمطالبة بالحكم المدني، واقتلاع ما أسمته “اللجنة الأمنية”.
التجمع وعبر بيان له على صفحته على فيسبوك أشار إلى أن تسارع الأحداث في المشهد السياسي يومًا بعد يوم، أدخل الثورة التي وصفها بـ”المغدورة” منعطف خطير “حيث وصل الصراع داخل النخبة الحاكمة لمرحلة متقدمة أفرزت ما يسمي “مجموعة الوفاق الوطني” أو ما يعرف بـ”قحت 2″ التي تدعمها اللجنة الأمنية لنظام الحركة الإسلامية”.
ويرى التجمع أن المجموعة التي تقود هذا الاعتصام تعمل “لصالح تفويض العسكر والرجوع بالبلاد لعهد الديكتاتورية الصريحة”، وتابع “وفق هذه الرؤية ندعو كل الثوريين ولجان المقاومة للاصطفاف والترتيب المحكم لمليونية 21 من أكتوبر التي تعتبر معركة مفصلية في مسيرة الثورة على أن تتوجه الجموع نحو القصر الجمهوري”.
حين اندلعت احتجاجات الشرق قبل شهر تقريبًا، وقفت المؤسسة العسكرية موقف المتفرج، صمت مريب خيم على الأجواء، رغم ما تحمله تلك الممارسات من تهديد صريح ومباشر للبلاد
سخونة الأجواء لم تقتصر على ساحة القصر الرئاسي فقط، فبالتزامن مع السجال بين مكونات الائتلاف الحاكم والتناطح عبر اعتصامات هناك ودعوات للتظاهر هناك، خرجت مسيرات طلابية واسعة بمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور احتجاجًا على ارتفاع الأسعار ورفضًا للوضع الاقتصادي المتردي.
المسيرات التي تأتي في إطار الرفض الشعبي للانهيار الاقتصادي والمعيشي المتفاقم مؤخرًا وصلت إلى مقربة من منزل والي شمال دارفور، الأمر الذي دفع أفراد من الشرطة للتصدي للمحتجين مستخدمة الغاز المسيل للدموع، ولم تسجل أي خسائر حتى الآن، وإن كان بعض النشطاء قد بثوا مقاطع فيديو تشير إلى إصابة أحد الطلاب.
حلَّ الحكومة.. سجال نخبوي
حمّل المعتصمون حكومة حمدوك مسؤولية تدني الأوضاع على المسارات كافة، وعليه كان المطلب الأساسي إقالتها وتشكيل حكومة كفاءات تكون قادرة على التعاطي مع الملفات الحياتية للمواطنين، وهو ما أكده الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة سليمان صندل، أحد المشاركين في الاعتصام، بقوله: “حل الحكومة هو المخرج الوحيد لتجاوز الأزمة” على حد وصفه.
وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، والقيادي في الحرية والتغيير – مجموعة الميثاق الوطني المنشقة -، أشار في كلمة له أمام المعتصمين أمام القصر الرئاسي، إلى أنه جرت مطالبة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بحل مجلس الوزراء، دون التعليق على رد فعل رئيس الحكومة إزاء هذا الطلب.
وفي الجهة الأخرى أوضح المتحدث باسم لجنة إزالة التمكين، صلاح مناع، أن المعتصمين أمام القصر الجمهوري بالخرطوم يتبعون لحزب المؤتمر الوطني المنحل، مشككًا في نوايا المعتصمين وأهدافهم الحقيقية من وراء هذا الاعتصام الذي يأتي في وقت حساس للغاية ومع اقتراب نهاية ترؤس المكون العسكري للمجلس الانتقالي.
وفي بيان له، قال المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير: “الأزمة الحاليّة في البلاد تقف خلفها قيادات عسكرية ومدنية محدودة، تهدف إلى إجهاض الثورة عبر تجويع الشعب وتركيعه وإحداث انفلات أمني وقفل الموانئ وإغلاق الطرق”، متهمًا عناصر من النظام السابق بأنها من تقف وراء دعوات الاعتصام، مؤكدًا في الوقت ذاته أن “حل الحكومة قرار تملكه قوى الحرية والتغيير، وبالتشاور مع رئيس الوزراء وقوى الثورة، ولا يتم بقرارات فوقية”.
أما وزير شؤون رئاسة مجلس الوزراء، خالد عمر، فيرى أن أولويات المرحلة أكبر من المطالبة بحل الحكومة، وأنه من الأفضل المضي قدمًا لتحقيق أهداف الفترة الانتقالية، لافتًا إلى أن أولويات ما تبقى من عمر تلك الفترة هو إعداد دستور دائم للبلاد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
حزب الأمة القومي المشارك في حكومة الفترة الانتقالية، أعلن هو الآخر رفضه القاطع لما سماه “أي محاولة انقلابية عسكرية أو مدنية”، مشددًا في بيان له على تصديه بحزم – قيادة وجماهير – لأي محاولات طائشة لمغامرين انقلابيين، بحسب تعبير البيان.
وأيد الحزب تأييده ودعمه للخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الجمعة، بشأن الأزمة السياسية في البلاد، مؤكدًا ضرورة الشراكة المدنية العسكرية لإدارة المرحلة الانتقالية، داعيًا في الوقت ذاته إلى تمتين هذه الشراكة بميثاق يحكم وينظم هذه العلاقة بين أطراف الشراكة، طبقًا للبيان.
وكان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، قد رحب بخريطة الطريق التي أعلنها رئيس الوزراء السوداني، من أجل الحفاظ على الانتقال الديمقراطي في السودان، مناشدًا جميع الأطراف في السودان لاتخاذ خطوات فورية وملموسة للوفاء بالمتطلبات الرئيسية للإعلان الدستوري.
الاعتصام الحاليّ أمام القصر الرئاسي، قوبل بصمت غريب من المؤسسة العسكرية التي قاومت أكثر من مرة اعتصامات مشابهة قبل ذلك، بدعوى الحفاظ على هيبة الدولة واستقرارها
الجنرالات.. صمت مريب
حين اندلعت احتجاجات الشرق قبل شهر تقريبًا، وقفت المؤسسة العسكرية موقف المتفرج، صمت مريب خيم على الأجواء، رغم ما تحمله تلك الممارسات من تهديد صريح ومباشر للبلاد، نظرًا لما تمثله تلك المنطقة من أهمية إستراتيجية، إذ تتحكم في أكثر من 70% من حركة التجارة الخارجية لبلد يعاني من أوضاع اقتصادية متدنية.
الصمت العسكري بُرر حينها بالميل نحو الهدوء وعدم التصعيد والسعي لحل الأزمة بصورة هادئة بعيدًا عن المواجهات التي ربما تسفر عن تصعيد أكثر خطورة لا سيما مع تصاعد الاحتقان الشعبي إزاء اتفاق جوبا الموقع في 3 من أكتوبر/تشرين الأول 2020 والمطالبة بإلغاء مسار الشرق.
ويومًا تلو الآخر، تتعقد الأوضاع وتزداد درجة سخونة المشهد، وصلت إلى إغلاق الطريق الرابط بين الموانئ وبقية الولايات، حتى باتت العاصمة الخرطوم شبه معزولة تمامًا، كما شمل الإغلاق 3 نقاط في ولاية البحر الأحمر، منها محطة “العقبة” المؤدية لموانئ البلاد في بورتسودان وسواكن على البحر الأحمر، ومحطة أوسيف على الطريق القاري مع مصر، بجانب أربع مناطق أخرى بعدة ولايات.
وتحولت الشعارات التي كانت تطالب بإلغاء مسار الشرق إلى المطالبة بإقالة الحكومة، بل إن بعض زعماء قبائل البجا أعربوا عن ميلهم لتشكيل حكومة جديدة بنكهة عسكرية بدعوى قدرتها على حلحلة الأزمة، وهو ما غازل أهواء الجنرالات الذين اكتفوا بمراقبة الوضع دون أي تدخل.
حتى الاعتصام الحاليّ أمام القصر الرئاسي، قوبل بصمت غريب من المؤسسة العسكرية التي قاومت أكثر من مرة اعتصامات مشابهة قبل ذلك، بدعوى الحفاظ على هيبة الدولة واستقرار البلاد، لكن يبدو أن هذه المرة الأمور تسير على هوى البرهان وحميدتي وتلامذتهم داخل الجيش والدعم السريع.
النفخ في النار
ومن الصمت المثير للجدل إلى الدخول علانية على خط الأزمة في محاولة لتشتيت الحكومة الحاليّة وزلزلة أركانها قدر الإمكان، تمهيدًا للإطاحة بها بما يعيد ترتيب المشهد وفق وضعية جديدة، مغايرة تمامًا لتلك المتفق عليها في الوثيقة الدستورية التي يفترض أن تُنهي ترؤس العسكر لمنظومة الحكم الانتقالية الشهر القادم لصالح المدنيين.
وبينما لا يزال حمدوك يواجه تداعيات احتجاجات الشرق المثيرة للقلق، إذ به يواجه تهديدًا آخر، لكن هذه المرة من المكون العسكري بصورة مباشرة، وذلك حين دعا إلى توسيع الحاضنة السياسية عبر ما سمي بـ”الميثاق الجديد” عبر إدخال قوى منشقة عن قوى “الحرية والتغيير” للمشهد السياسي، هذا بخلاف ما قيل بشأن إصرار الجنرالات على إدخال قوى كانت حليفة للمؤتمر الوطني المنحل.
الساعات القادمة ربما تكون فاصلة في مسيرة السودانين، فالأمر أكبر من مجرد إقالة حكومة وتعيين أخرى، فمكتسبات الثورة برمتها باتت على المحك
الضربتان ومعهما ضربات أخرى متلاحقة جراء الاحتقان الشعبي إزاء الوضع المعيشي المتدني، أفقدوا الحكومة وحاضنتها السياسية اتزانها بصورة كبيرة، وهنا وجد العسكر فرصتهم للكشف عن نواياهم بالسيطرة على السلطة بصورة مباشرة، فها هو المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة، الطاهر أبو هاجة، يعلق على مطالب حل الحكومة قائلًا: الحكومة حلت نفسها عندما حلت الحبل الذي يربطها بالشعب فصار في حلٍ عنها وإن لم نصدر القرار الصعب اليوم فسيكون عصيًا غدًا حتى القرار الأصعب”.
“فتش عن المستفيد”.. هكذا يقول المثل الشعبي سعيًا لكشف المسؤول عن تفاقم الأوضاع، وفي الحالة السودانية، فإن العسكر (ومعهم فلول الإنقاذ نسبيًا) هم الجهة الأكثر استفادة من حالة الفوضى التي تخيم على الأجواء (فضلًا عن كونهم محركها الأساسي) التي من المرجح أن تكون الخيط الفاصل لبقائهم في الحكم أطول فترة ممكنة، تمهيدًا لشيطنة المدنيين واستئثار بعض القوى والنخب لتكوين حاضنة سياسية للعسكر من أجل السيطرة على السلطة والانقلاب على الثورة والعودة بالمشهد إلى ما قبل 19 من ديسمبر/كانون الأول 2018.
يبدو أن حمدوك قد فطن أخيرًا لنوايا العسكر المبيتة إزاء الانتقال الديمقراطي، رغم التحذيرات التي قيلت في هذا الشأن قبل ذلك، وقوبلت بالتهميش والتسطيح وأحيانًا السخرية، مرتميًا بعض الوقت في أحضان المكون العسكري الذي نجح في تشتيت القوى الثورية وبث الفتنة بداخلها حتى باتت على تلك الوضعية الهشة، سهلة البلع والهضم معًا، وهو تكشفه خريطة الطريق التي أعلن عنها قبل أيام.
الساعات القادمة ربما تكون فاصلة في مسيرة السودانين، فالأمر أكبر من مجرد إقالة حكومة وتعيين أخرى، فمكتسبات الثورة برمتها باتت على المحك، وسط تخطيط ممنهج للانقلاب عليها من جنرالات الحكم الذين ما أمنوا يومًا – ولن يؤمنوا – بثورة تدفع بهم من كرسي الحكم إلى ثكناتهم العسكرية.. فهل يتعلم السودانيون الدرس قبل فوات الأوان؟