خلال الحرب العالمية الثانية، اقترف أدولف هتلر والنظام النازي أبشع الجرائم بحق يهود ألمانيا، في محرقة جماعية باتت تعرف فيما بعد باسم “الهولوكوست”، واليوم وبعد ما يزيد على 80 عامًا من الواقعة ما زالت ألمانيا “تكفر عن ذنبها” تجاه الاحتلال الإسرائيلي، وتتودد له على أنقاض رفات الفلسطينيين في مجازر إسرائيلية مستمرة منذ ما قبل الهولوكوست حين تعاون الصهاينة مع الإنجليز خلال الانتداب البريطاني وحتى كتابة هذا التقرير.
في حديث سابق لرئيس كنيست الاحتلال الأسبق أفراهام بورغ، قال: “العلاقة الحميمية بين ألمانيا و”إسرائيل” تتجاوز اعتبارات المصالح وتعود جذورها للهولوكوست”، مشيرًا إلى أن ألمانيا ما زالت عالقة بعقدة الذنب في علاقاتها مع اليهود و”إسرائيل”، وأن “إسرائيل” تستثمر المحرقة لأغراض سياسية، ومصممة على التمسك بثوب الضحية.
يحافظ الاحتلال الإسرائيلي وألمانيا الآن على علاقة متناغمة من المعتقدات والقيم الغربية ووجهات النظر التاريخية، كما دشنا قنوات اتصال بين المنظمات البرلمانية الحكومية وغير الحكومية، إضافة إلى العلاقات الإستراتيجية والأمنية والعسكرية، وتُعد ألمانيا ثاني أهم شريك تجاري لـ”إسرائيل” بعد الولايات المتحدة الأمريكية بصادرات ألمانية إليها تصل إلى 2.3 مليار دولار سنويًا.
تاريخ العلاقات الألمانية – الإسرائيلية
المتتبع للتاريخ، يجد أن العلاقات الألمانية الإسرائيلية لم تأتِ كمساعٍ حقيقية للتكفير عن الذنب الألماني بحق اليهود، وإنما جاءت بناءً على ما رآه الكنيست الإسرائيلي عام 1952 بفتح قنوات اتصال مع ألمانيا الغربية حينها، وهو ما بدأه السياسيون والاستخباراتيون الإسرائيليون حينها، وأسفرت هذه القناة الاتصالية، في العام ذاته، عن توقيع “اتفاقية لوكسمبورغ” وفيها تعهدت ألمانيا بدفع تعويضات مالية لليهود الناجين من الهولوكوست ولـ”إسرائيل”، باعتبارها الجهة التي ترث حقوق الضحايا اليهود.
لاحقًا في عام 1960، التقى المستشار الألماني كونراد أديناور ورئيس وزراء الاحتلال ديفيد بن غوريون في فندق فالدورف أستوريا بولاية نيويورك، وخلال لقائهما، وضع الرجلان حجر الأساس لعلاقة ثنائية رسمية، أسفرت عن بدء عصر العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين عام 1965.
وفي عام 2015، وفي أثناء الاحتفال باليوبيل الذهبي للعلاقات الثنائية بين البلدين، حظي رئيس دولة الاحتلال رؤوفين ريفلين باستقبال واسع في ألمانيا، مؤكدًا إلى جانب الرئيس الألماني يواخيم جواك أن التقارب الإسرائيلي الألماني دلالة على استخلاص دروس الماضي “المظلم”.
عصر ميركل.. عصر التقارب
قبيل مغادرتها الحياة السياسية، زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل “إسرائيل” للمرة الثامنة، لتختتم النقطة التي انطلقت منها بعد توليها المنصب عام 2005، حيث كانت دولة الاحتلال من أوائل الدول التي زارتها حينها.
وخلال لقائها رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينيت، أكدت ميركل أن أمن “إسرائيل” مسألة محورية لأي حكومة ألمانية، وتضمنت زيارتها التوقف عند نصب “ياد فاشيم” التذكاري لمحرقة اليهود، وربما أشاح الماضي نظر ميركل عن مقبرتي اليوسفية ومأمن الله اللتين يحاول الاحتلال تهويدهما، على بعد أمتار من مكان لقائها مع بينيت.
وفي عودة إلى التاريخ القريب، كانت المستشارة الألمانية أول مسؤولة أجنبية تتحدث من الكنيست الإسرائيلي بـ”لغة الجناة” أي لغة أصحاب الهولوكوست عام 2008، خلال الذكرى الستين لـ “قيام إسرائيل” أو بمعنى أصح، خلال الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية.
“بالتحديد في هذا الموقع أقول بكل وضوح إنّ كل حكومة ألمانية وكل مستشار قبلي كانوا ملتزمين بالمسؤولية التاريخية الخاصة لألمانيا بالنسبة إلى أمن “إسرائيل”، وهذه المسؤولية التاريخية لألمانيا هي جزء من سياسة الدولة التي تتبناها بلادي، وهذا يعني أن أمن “إسرائيل” بالنسبة لي كمستشارة ألمانية غير قابل أبدًا للمساومة”، قالت ميركل في خطابها التاريخي في الكنيست الإسرائيلي.
لا دموع ألمانية على القضية الفلسطينية
في الوقت الذي يعلم فيه العالم أجمع، حليف “إسرائيل” قبل مناهضها، أن سلاح الاحتلال الإسرائيلي موجهٌ في المرتبة الأولى للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل وقطاع غزة المحاصر، لم تتوانَ الحكومة الألمانية عن تزويد الاحتلال الإسرائيلي بأحدث أنواع الأسلحة العسكرية.
وطوال العقود الماضية، زوّدت ألمانيا الاحتلال بعدة سفن حربية وغواصات من نوع “دولفين” المتطورة والقادرة على حمل رؤوس نووية، فضلًا عن تزويدها ببوارج لحماية حقول الغاز في البحر المتوسط وبطاريات الصواريخ المنصوبة بجوارها، كما أنجز الطرفان العديد من المشاريع البحثية المشتركة.
وفي عام 2019، أصدر البرلمان الألماني قرارًا اعتبر فيه حركة مقاطعة “إسرائيل” بأنها معادية للسامية، ودعا الهيئات الحكومية الألمانية إلى الامتناع عن تمويل أو دعم أي مجموعات تحارب وتشكك بحق “إسرائيل” في الوجود.
وإلى جانب ذلك، لم تقف الحكومة الألمانية إلى جانب الشعب الفلسطيني في قطاع غزة خلال وجوده تحت قصف الغارات الإسرائيلية، بل وقفت إلى جانب الاحتلال وأدانت صواريخ المقاومة الفلسطينية على الأراضي المحتلة.
وخلال معركة سيف القدس الأخيرة في مايو/أيار 2021، أدان وزير الداخلية الألماني التظاهرات التي شهدتها عدة مدن ألمانية، وتخللها حرق لأعلام إسرائيلية، كما أعربت ميركل حينها عن دعمها لـ”إسرائيل” وحقها في الدفاع عن نفسها، وفي أعقاب الحرب، أقر البرلمان الألماني قانونًا حظر بموجبه رفع أعلام حركة “حماس” في عموم أرجاء المدن الألمانية.
على الرغم من “استخلاص” الدروس الذي أشار إليه ريفلين وجواك في احتفال اليوبيل الذهبي، وبينما نحن متأكدون من أن الاحتلال صاحب المجازر الأفظع في تاريخ البشرية بحق الفلسطينيين، فعلى ما يبدو أن ألمانيا لم تستخلص الدرس جيدًا، بأن الظلم منافٍ للإنسانية وللأخلاق، وأن المبادئ لا تتجزأ، وأن رفض الهولوكوست اليهودي يعني، بالضرورة، رفض المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، والدموع التي تسقط على ضحايا الهولوكوست قبل 80 عامًا حريٌ بها أن تلتفت بعض الشيء للضحايا الفلسطينيين بالأمس واليوم والمستمرة ما استمر الاحتلال.