يحيي الجزائريون اليوم الذكرى الـ 67 لاندلاع الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، وسط تشبُّث بمطلب اعتراف باريس واعتذارها عن جرائمها البشعة، وهو المطلب الذي لم يلقَ الاستجابة حتى اليوم، وجعلَ العلاقات الثنائية بين البلدَين تتميز على الدوام بالتوتُّر وعدم الاستقرار.
وبعدما كان صلب الحديث في السنوات الماضية في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة يتمحور حول إقامة علاقات صداقة بين الجزائر وباريس؛ اختلفَ الوضع اليوم، إذ إن إعادة العلاقات إلى سابق عهدها قد أصبح اليوم هو محور النقاش، بسبب أزمات ملف التأشيرات والتصريحات المستفزّة لإيمانويل ماكرون ضد الجزائر، وتراجُع النفوذ الاقتصادي الفرنسي بالجزائر، إضافة إلى اختلاف وجهات النظر حول معالجة الوضع في مالي.
استعمار إرهابي
وجّهَ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مساء الأحد رسالة إلى الجزائريين بمناسبة ذكرى الثورة التحريرية، التي جرت في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1954، وأكّد فيها التزامه بالسير على درب من فجّروا هذه الثورة ضد الاستعمار.
وقال تبون: “يعود الفاتح من نوفمبر مجدِّدًا فينا عهد الوفاء للشهداء، ومرسِّخًا في الوجدان شرف الانتماء لهذه الأرض المباركة، التي أبَت عبر التاريخ إلّا أن تكون حرة أبية”.
واعتبر تبون أن بيان أول نوفمبر/ تشرين الثاني هو “النداء المرجعي المقدس، المحفوظ في ضمائرنا (…) المحصِّن لوحدتنا الوطنية”، في إشارة إلى ضرورة رفض خطابات الداعين إلى التفرقة، وفي مقدمتها حركة “الماك” التي تمَّ تصنيفها ضمن الجماعات الإرهابية، والتي تتّخذُ من فرنسا مقرًّا لنشاطها.
ووصف تبون الاستعمار الفرنسي بـ”الإرهاب” الذي استطاعَ الجزائريون قهره، رغم حشده كل الأسلحة المدجَّجة، والتي كان فيها مدعومًا بقوات الحلف الأطلسي.
وقال تبون في هذا الشأن: “كانت قوافل شهدائنا الأمجاد والمسلَّحين بإيمانهم بالنصر (…) وإصرارهم على إعلاء الحق، تسحق ما حشدته فرنسا الاستعمارية من إرهاب بقوة السلاح (…) وترويع بالإبادة، وتنكيل بالتعذيب، وبأبشع جرائم الأرض المحروقة في تاريخ البشرية الحديث، فلقد كان سلاح الإيمان بالنصر (…) والإصرار على إعلاء الحق بعدالة القضية، أقوى من جيش استعماري مدجَّج، مهتزّ العقيدة، مدفوع إلى جحيم العدوان، على شعب حرّ ومصمِّم على البقاء حرًّا”.
على مواقع التواصل الاجتماعي، كان وسم #أول_نوفمبر_1954 ضمن قائمة المواضيع الأكثر تداولًا في الجزائر، حيث ذكّر بجرائم فرنسا الاستعمارية، ودعا إلى علاقات ندّية بين البلدَين.
ويبدو أن الرئيس تبون يريد أن يوجِّه كلامه للفرنسيين بأن الشعب الجزائري كان حرًّا على الدوام، لأنه كان أمة قائمة بذاتها قبل أن يطأ الفرنسيون أرضها، في ردٍّ غير مباشر على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال في وقت سابق إن الأمة الجزائرية لم تكن موجودة قبل الاحتلال الفرنسي، كونها كانت مستعمَرة من العثمانيين، وهو التصريح الذي أحدثَ أزمة دبلوماسية بين البلدَين جعلت الجزائر تستدعي سفيرها بباريس للتشاور، والذي لم يعد حتى اليوم إلى مقرّ عمله، بل تمَّ تعيينه حاليًّا كسفير في إمارة موناكو.
وإذا كانت باريس تدعو إلى الكتابة المشترَكة للتاريخ، أو كما تسميه هي ذاكرة البلدَين، وفق ما جاء في توصيات المؤرِّخ بنجامين ستورا، فإن الرئيس تبون تمسّكَ برأي الجزائر الرافضة لذلك، حيث لم يتحدث عن كتابة مشترَكة، بل شدّدَ على ضرورة تدارُك بلاده للتأخُّر المسجّل في توثيق بطولات شعبها.
وطالب تبون المؤسسات التي يقعُ على عاتقها الاهتمامُ بتاريخ الحركة الجزائرية وثورة التحرير، بالانتقال بأسرع ما يمكن إلى حفظ وتوثيق المادة التاريخية، بالاعتماد على الرقمنة.
وينتظر الرئيس تبون أن تعمَّ اليوم الاحتفالات بالثورة مختلف ولايات البلاد، كما سيقوم بزيارة مقام الشهيد بالعاصمة الجزائر للترحُّم على شهداء الثورة، ويلتقي بعدها المجاهدين وكبار المسؤولين في الدولة في لقاء بقصر الشعب.
ويشارك هذه المرة في هذه الاحتفالات وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي، الذي أوفده الرئيس قيس سعيّد لمشاركة الجزائريين في الاحتفال بالذكرى الـ 67 للثورة التحريرية.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، كان وسم #أول_نوفمبر_1954 ضمن قائمة المواضيع الأكثر تداولًا في الجزائر، حيث ذكّر بجرائم فرنسا الاستعمارية، ودعا إلى علاقات ندّية بين البلدَين.
إصرار
على عكس العهدات السابقة، يظهرُ أن البرلمان الجزائري الحالي مصرّ كل الإصرار على إصدار قانون تجريم الاستعمار الذي كانت ترفضه الحكومات السابقة في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، بحجّة عدم تعكير العلاقات بين البلدَين.
ويظهر هذا الإصرار بإيداع أكثر من 100 نائب برلماني من مختلف الأحزاب السياسية أمس الأحد، عشية إحياء ذكرى الثورة التحريرية، وثيقة مشروع قانون تجريم الاستعمار على مستوى مكتب للمجلس الشعبي الوطني.
وتضمّن مشروع القانون 54 مادة، تطرّقت إلى مختلف الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي طيلة 132 عامًا من احتلاله الجزائر، وطالبَ النواب بإدانة الاستعمار الفرنسي وضرورة إعادة الحقوق المسلوبة المعنوية والمادية على حد سواء.
ويقسِّم مشروع القانون جرائم الاستعمار إلى عدة أنواع، منها جريمة العدوان، وجرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الهوية الوطنية، لكنها تلتقي كلها في نقطة مشترَكة أن جميعها منافية للمبادئ الإنسانية ومخالفة للاتفاقيات الدولية والعرف الدولي.
تكمن أهمية إصدار قانون لتجريم الاستعمار في إتاحته فرصة متابعة أي مجرم من الجيش الفرنسي ارتكب مجازر وجرائم في حق الجزائريين يعاقب عليها القانون قضائيًّا، والتي يمكن رفعها إلى محكمة الجنايات الدولية.
ويقترح مشروع القانون استحداث محكمة جنائية خاصة، تختصُّ بمحاكمة كل شخص ارتكبَ أو ساهمَ في ارتكاب أية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون. وتضمّن مقترح القانون موادَّ تأمر بإلزام السلطات الفرنسية بإعادة الممتلكات المنهوبة خلال احتلال الجزائر وطوال فترة الاستعمار، وكذا المهرَّبة قبيل الاستقلال.
وطُرح مشروع قانون تجريم الاستعمار كمقترح من البرلمان عام 2012، لكن الحكومة رفضته في عهد بوتفليقة بحجّة عدم توتير العلاقات مع باريس، رغم إصدار فرنسا في 23 فبراير/ شباط 2005 قانونًا يمجّد الاستعمار الفرنسي.
وحسب القانون الداخلي للبرلمان، فإن أي مقترح قانون يقدِّمه النواب يُعرَض على رئاسة المجلس الشعبي الوطني لدراسته، ثم يتمّ تحويله للحكومة التي تملكُ حق رفضه أو قبوله، قبل عرضه للنقاش والمصادقة ليدخل حيّز التنفيذ بعد أن يوقّعه رئيس الجمهورية.
وتكمنُ أهمية إصدار قانون لتجريم الاستعمار في إتاحته فرصة متابعة أي مجرم من الجيش الفرنسي ارتكب مجازر وجرائم في حق الجزائريين يعاقب عليها القانون قضائيًّا، والتي يمكن رفعها إلى محكمة الجنايات الدولية في حال رفض المتّهم المحاكمة أمام العدالة الجزائرية، كما يتيح أيضًا مقاضاة الدولة الفرنسية بحدّ ذاتها، ومطالبتها بالتعويض عمّا سلبته واقترفته من جرائم.
غير مسبوقة
يأتي احتفال هذا العام بذكرى الثورة التحريرية في خضمّ أزمة غير مسبوقة تعيشها العلاقات الجزائرية الفرنسية، على مختلف الأصعدة، فمفاوضات معالجة الذاكرة التي كان يرعاها الرئيسان عبد المجيد تبون وماكرون تعطّلت بشكل كبير، بعد أن جاء تقرير المؤرِّخ بنجامين ستورا مخيّبًا لما كان ينتظره الجزائريون الذين اعتبروا في الأخير أنفسهم غير معنيين به بتاتًا، مثلما قال مستشار الرئيس تبون المكلَّف بالأرشيف الوطني والذاكرة الوطنية عبد المجيد شيخي، كون التقرير شأن فرنسي-فرنسي.
ورغم هذا الخلاف، حافظ البلدان على نوع من الدبلوماسية في تصريحات مسؤوليهما، إلا أن ذلك لم يدم طويلًا بعدما رفضت الجزائر شهر أبريل/ نيسان الماضي قبول زيارة مقرَّرة لرئيس الحكومة الفرنسي جان كاستكس، كانت ستُتبَع باجتماع اللجنة العليا المشترَكة بين البلدَين، والتي كانت تتمّ سابقًا بشكل دوري، لكنها تأجّلت هذه المرة لمدة طويلة.
وإن أرجعت باريس سبب تأجيل زيارة رئيس حكومتها إلى الظروف الاستثنائية التي فرضتها جائحة كورونا، إلا أن كل المؤشرات كانت تشي بوجود خلاف بين البلدَين، خاصة مع تراجُع النفوذ الاقتصادي الفرنسي بالجزائر، بعد عدم تجديد صفقة مؤسسة “طراتيبي باريس” التي كانت تشرف على مترو الجزائر، وإنهاء الشراكة بين مجمع “سياز” الفرنسي وشركة التطهير والمياه للعاصمة، التي كانت تشرف على تسيير عملية توزيع المياه في العاصمة الجزائر وولايتَي تيبازة ووهران.
وكانت الجزائر رفضت أيضًا بيع أصول شركة “أنداركو” الأمريكية في الجزائر لصالح “توتال” الفرنسية بتطبيق حق الشفعة، كما سحبت رخصة الاعتماد لبنك “كريدي أغريكول” الذي ينشط في السوق الجزائرية منذ عام 2007.
وأمام هذه الخسارات الاقتصادية الفرنسية المتوالية، حاولت باريس الضغط على الجزائر بملفّ التأشيرات بإعلان تقليص الحجم الممنوح للجزائريين بـ 50% رغم وجود اتفاقية 1968 للهجرة التي تنظِّم عملية تنقُّل الأشخاص بين البلدَين، وأرجعت باريس قرارها إلى رفض الجزائر استقبال مواطنيها الذين تصدر بشأنهم قرارات ترحيل من طرف السلطات الفرنسية.
وعدَ الرئيس تبون الجزائريين بأن تتحول آمالهم إلى واقع في جزائر ما بعد حراك 22 فبراير/ شباط 2019، وإكمال رسالة أكثر من 5 ملايين شهيد سقطوا من أجل استقلال البلاد.
ورفضت الجزائر القرار الفرنسي الخاص بالتأشيرات، واعتبرته إجراءً مستفزًّا أبلغت على إثره سفير فرنسا لديها بالاحتجاج على ما جاء فيه، لكن تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد ذلك بأيام بشأن هذا الموضوع زادت التوتر حدّةً، بعدما قال إن بلاده ستقلِّص عدد التأشيرات الممنوحة فقط للمسؤولين الجزائريين.
واتّهم ماكرون في لقاء مع شباب بقصر الإليزيه السلطات الجزائرية بأنها “تكنُّ ضغينة لفرنسا”، وطعنَ في وجود أمة جزائرية قبل استعمار فرنسا للجزائر (1830-1962)، حيث تساءلَ: “هل كان هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟”.
ودفع التصريح الأخير لماكرون بالجزائر إلى استدعاء سفيرها لدى باريس للتشاور، والذي لم يعد حتى اليوم إلى منصبه، ليبقى التشنُّج سيد الموقف في العلاقات بين الطرفَين، خاصة أن إدارة ماكرون تريد الاستثمار في ملف الذاكرة والعلاقات مع الجزائر في حملتها الرئاسية المسبقة، في محاولة لجذب أكبر عدد من الناخبين من معسكر اليمين.
وصاحبَ القرار الرسمي الجزائريين بقرارات أخرى تمثّلت في تخلي 3 وزارات وهيئات رسمية عن الكتابة بالفرنسية في محرّراتها ورسائلها الرسمية، إضافة إلى قرارات شعبية تمثّلت بعضها على سبيل المثال في إعلان للجمعية العامة للمقاولين الجزائريين وقف تعاملاتها التجارية مع 500 شركة فرنسية.
وفي رسالته بمناسبة هذه الذكرى المميزة عند الجزائريين، وعد الرئيس تبون الجزائريين بأن تتحول آمالهم إلى واقع في جزائر ما بعد حراك 22 فبراير/ شباط 2019، وإكمال رسالة أكثر من 5 ملايين شهيد سقطوا من أجل استقلال البلاد، وهو الوعد الذي لن يرى بحسب الجزائريين طريقه إلى التحقيق إلّا إذا استطاعت السلطة التخلُّص حقًّا من كل ما له علاقة بفرنسا وثقافتها ولغتها، والذي يتطلب جدّية على كل المستويات لتحقيق التحرُّر الاقتصادي والثقافي الذي سينهي سنوات من التبعية لكل ما هو قادم من باريس.