القيادة المفقودة تُسترجَع مرة أخرى، بالنسبة إلى عبد الإله بنكيران كان لزامًا عليه أن ينتظر نصف عقد تقريبًا، متواريًا عن المشهد السياسي، طيلة هذه المدة لم يخرج إلا لمامًا، وها هو الآن يتبوّأ رئاسة الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، بحسب ما أفرزه المؤتمر الاستثنائي المنعقد في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، الذي حملَ الرجل إلى الزعامة وفق شرط حدّده مسبقًا؛ ألّا تُمنح مهلة عام فقط على عقد المؤتمر العادي.
ربما ما كان ليحدث هذا لولا الهزيمة المؤلمة التي مُنيَ بها الحزب في انتخابات 8 سبتمبر/ أيلول 2021، حيث لم يحصل سوى على 13 مقعدًا، أي أكثر بقليل من تلك التي حازها في أول انتخابات شارك فيها عام 1997 وتمكّن من دخول البرلمان بـ 9 مقاعد، حينها كان الإخوان في بداية الطريق للظهور في المشهد السياسي، إلى أن تمكّنوا من تصدُّره بدءًا من عام 2011 طيلة ولايتيَن تشريعيتَين، الشيء الذي لم يحصل مع حزب سياسي آخر في المغرب.
لعبة تبادُل الأدوار
يظهر بنكيران، البالغ من العمر 70 عامًا، بمثابة ذلك المخلِّص الرائع، فالرجل يحظى بشعبية واسعة في حزبه، كما أنه خطيب سياسي بارع، سطعَ نجمه وشدَّ اهتمام المغاربة إلى السياسة بشكل لم يسبق له مثيل، حتى جلسات البرلمان تحوّلت معه من نقاشات مملّة إلى حلبات يتابع الناس أطوارها بشغف، وينتظرون الجلسة الشهرية لمساءلة رئيس الحكومة كما ينتظرون مباراة نهائي كأس العالم.
إنها لعبة تبادل الأدوار على كراسي الأمانة العامة، بين عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني، التي حطّمت كل المقاييس، فالحزب المتحوِّل اسمه من “الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية” إلى “العدالة والتنمية” خلال المجلس الوطني عام 1998، ترأّسه العثماني بين عامَي 2004 و2008، قبل أن يعود مرة أخرى إلى منصب الأمانة العامة ما بين عامَي 2017 و2021، أما بنكيران فقد تولّى الأمانة العامة للحزب ما بين عامَي 2008 و2017، ليعود اليوم من جديد لتولّي المنصب نفسه لـ 4 سنوات مقبلة كما اشترط على أنصار حزبه لعودته.
قبل انعقاد المؤتمر الاستثنائي بأسبوع، نشرَ بنكيران بلاغًا على صفحته بموقع فيسبوك يقول: “بعد اطِّلاعي على مصادقة المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، على مقترح الأمانة العامة المستقيلة، بتحديد أجل سنة لعقد المؤتمر الوطني العادي، أعتبرُ نفسي غير معني بأي ترشُّح لي، إن صادق المؤتمر الاستثنائي على هذا المقترح”.
أعضاء العدالة والتنمية مهّدوا لعودة بنكيران، برفض مقترح الأمانة العامة القاضي بتأجيل المؤتمر العادي مدة سنة فقط، حيث صوّت 901 من المؤتمرين ضد المقترح مقابل 374 صوتًا لصالحه، وحصل بنكيران على 1012 صوتًا مقابل 221 صوتًا لعبد العزيز العماري و15 صوتًا لعبد الله بوانو.
“على الأقل لم نصبح شياطين بعد”
فور انتخابه أمينًا عامًّا، أقرَّ بنكيران بصعوبة الوضع الذي يعيشه الحزب، وقال في كلمة له عبر البث الحي: “إن حزب العدالة والتنمية يمرُّ بمرحلة صعبة ودقيقة جدًّا، ونحن محافظون على مبادئنا وعلى أنظمتنا وعلى قوانينا، وأعطينا درسًا في الديمقراطية للعالم”، وأشارَ إلى أنه أمين عام لجميع الأعضاء، كرسالة مطمئنة بثّها إلى معارضيه داخل الحزب.
وفي اليوم الموالي، الأحد 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، التقى بنكيران بأعضاء المجلس الوطني (بمثابة برلمان الحزب)، أشار إلى أن عودته للأمانة العامة جاءت لكون الحزب في وضع صعب، وأنه شعر بحاجة الحزب إليه، مؤكّدًا أن ما وقعَ للعدالة والتنمية يتحمّل مسؤوليته الجميع بشكل أو بآخر، وليس فقط الأمين العام السابق والأمانة العامة التي كانت معه.
كما قال: “إن التعرض لهزائم انتخابية هو أصل الديمقراطية، إذ لا يمكن لحزب أن يبقى مستمرًّا في الانتصارات”، واعتبرَ أن العدالة والتنمية حزب سياسي ديمقراطي يسيّره الناس، وبالتالي مطبوع بطبيعة العمل البشري الذي يصيب ويخطئ، في محاولة منه التقليل من وقع الهزيمة التي تعرّضَ لها الحزب في الانتخابات.
ثم استطردَ: “نحن لسنا ملائكة، ولكننا لسنا شياطين، أو على الأقل والحمد لله لم نصبح شياطين بعد”، معتبرًا أن المسيرة التي قامَ بها الحزب محترَمة بغضّ النظر عن إيجابياتها وأخطائها، وزادَ: “نحن لسنا حزبًا سياسيًّا وُجد من أجل الانتخابات والبرلمانات والحكومات.. نحن حزب مبادئ”.
السقوط عن المبادئ
من أسباب الهزيمة السقوط تباعًا عن المبادئ، حيث لم يكن العدالة والتنمية، بعد قيادته الحكومة، وفيًّا للخطاب الذي كان يردِّده أيام المعارضة، مثل الذي يتعلق بالريع السياسي، وهي تلك المعاشات والتعويضات التي يحصل عليها البرلمانيون والوزراء بعد نهاية مهامهم.
ظهر وزراء العدالة والتنمية متعطّشين للريع بعدما ذاقوا حلاوته، أبرزها حصول بنكيران على معاش استثنائي قدره 7 آلاف دولار، فضلًا عن تعويضات نهاية الخدمة التي تعادلُ مجموع الـ 10 أشهر الأخيرة، هذا وتكلِّف تعويضات نهاية خدمة وزراء حكومة العثماني من خزينة الدولة ما يناهز المليون دولار.
ولم يحافظ العدالة على تلك الصورة التي بقيَ لسنوات يرسمها حزب الوحدة والمبادئ، فالصراعات الداخلية شقّت بيت الإخوان، كما يقول الوزير السابق عن حزب العدالة والتنمية لحسن الداودي: “لو كنت مواطنًا عاديًّا، كنت سألاحظ هؤلاء الناس (يقصد مسؤولي حزبه) كم تغيّروا، عندما ذاقوا المناصب أصبحوا يتصارعون فيما بينهم.. هذه ثقافة الإسلاميين في العالم”.
منطق “الشيخ والمريد”
الإسلاميون لا يحبّون بعضهم، حتى لو انتموا إلى العشيرة نفسها، وقد ظهر هذا من الصراعات الداخلية المتصاعدة التي أسهمت في فشل الحزب ووضعه على كف عفريت، بعدما كان القوة السياسية الأولى في المغرب.
لم يفشل العدالة والتنمية في الانتخابات فقط، بل فشل حتى في تجديد قيادته، واحتفظ زهاء ربع قرن ببنكيران والعثماني يتبادلان الأدوار في رئاسة الحزب، لينسفَ هذا جميع ادّعاءات توفر الحزب على أُطُر وكفاءات سياسية.
يبدو حزب العدالة والتنمية أشبه بزاوية صوفية، من خلال العلاقة ما بين القيادة والأعضاء التي يحكمها منطق “الشيخ والمريد”، التي لم يستطع الحزب الانسلاخ عنها رغم قيادته للحكومة طيلة 10 سنوات وتقلُّده مناصب المسؤولية في إدارة البلاد، وهكذا يتوجّه الإسلاميون في لحظات ضعفهم عندما يفقدون البوصلة، نحو شيخهم الذي يهتدون به طريق الخلاص.