بلغ لبنان مستويات خطيرة من الانكماش الاقتصادي، وزيادة حجم الدين العام، والتضخُّم، وانهيار مريع في مستوى سعر العملة المحلية (الليرة)، ومعها تراجُع في القدرة الشرائية للمواطن اللبناني الذي خسرَ قرابة 90% من قيمة الدخل الشهري ومن مستوى معيشته فيما تضاعفت أسعار السلع، لا سيما المحروقات، عشرة أضعاف عمّا كانت عليه قبل نحو عامَين من الآن.
على سبيل المثال، بلغ سعر صفيحة البنزين أكثر من 300 ألف ليرة لبنانية، وسعر قارورة الغاز أكثر من 250 ألف ليرة لبنانية، والمازوت قرابة 300 ألف ليرة لبنانية، في حين كانت أسعارها قبل نحو عام أقل من ذلك بعشرة أضعاف، ونتيجة لذلك تضاعفت أسعار الكهرباء والخدمات والمواد الغذائية والدواء، في حين لا يزال الحدّ الأدنى للأجور 670 ألف ليرة لبنانية أي ما يعادل حوالي 33$ على سعر الصرف اليومي في بيروت بهذا التاريخ.
وترافقَ كلّ ذلك مع أزمة سياسية حادة تمنع حتى الآن تفعيل العمل الحكومي بعد تشكيل حكومة “معًا للإنقاذ”، وذلك بعد أن تعطل تشكيل الحكومة أكثر من سنة بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، الذي كان بمثابة زلزال كبير ضرب لبنان وفي قلبه بيروت.
أسباب وجذور الأزمة الاقتصادية
الخبير والباحث الاقتصادي الدكتور محمد موسى قال لـ”نون بوست” إن سبب الأزمة الاقتصادية اللبنانية يعود بشكل أساسي إلى أن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد ريعي بالأساس، وأن هيكليته هشّة لا تقوى على المقاومة والصمود، وأن الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان خلال الأعوام الماضية عملت على شراء الوقت مقابل إضاعة الفرص، كما في مؤتمر سيدر بباريس الذي وفّر للبنان وعودًا بحوالي 11 مليار دولار، غير أن لبنان لم يستفد منها بشيء.
وضرب الباحث موسى مثالًا على ذلك الكهرباء التي استنزفت قرابة 40 مليار دولار في لبنان، دون أن تتوفّر للمواطنين بشكل مقبول، وذلك بفضل سياسة المحسوبيات وغياب المساءلة والمحاسبة، مشيرًا إلى ضياع المسؤوليات وعدم تطبيق الإصلاحات المطلوبة في معظم القطاعات، ما جعل بحسب وجهة نظره ميزان المدفوعات دائمًا في حالة عجز هائلة، حيث تخطّت في بعض السنوات عمليات الاستيراد من الخارج الـ 20 مليار دولار، بينما لم تتخطَّ الصادرات في أحسن الأحوال عتبة 3 مليار دولار.
وفي هذا السياق أشارت دراسة للشركة الدولية للمعلومات إلى أنها اكتشفت، بعد دراسة ميدانية أعدّتها، أن تغطية العجز بين الواردات والصادرات خلال الأعوام الأخيرة، رغم الفجوة الهائلة بينهما، هو رقم يقارب ما ذكره الدكتور موسى، يحدث من خلال الأموال التي يدخلها المغتربون إلى لبنان بشكل مباشر وليس عبر المصارف خاصة، بعد حالة الهلع التي أوجدتها البنوك بسبب سياساتها التي صادرت بها أموال المودعين وحجزت بها التحويلات، وفرضت في فترة من الفترات قبضها بالليرة اللبنانية بدل الدولار الأمريكي أو العملات الأجنبية الأخرى.
كما أشارت الدولية إلى أن تغطية ذاك العجز كان يجري من خلال ما تدفعه مفوضية اللاجئين السوريين في لبنان بشكل مباشر للاجئين، وكذلك “الأنروا” للاجئين الفلسطينيين، وما تنفقه قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان، ومنظمات المجتمع المدني (NGO) على الأنشطة والمشاريع التي تقوم بها، وكل تلك الأموال تأتي إلى لبنان وتؤمّن نوعًا من التوازن الذي حافظ على الحدّ الأدنى من الاستمرار.
أحد أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان ترتبط بهيكلية وبنية الاقتصاد اللبناني القائم على التحويلات من الخارج، والتي تترواح بحسب الدكتور عمر ما بين 7 و10 مليارات دولار سنويًّا.
من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي والاستاذ الجامعي باتريك مارديني لـ”نون بوست”، أن من أسباب الأزمة الاقتصادية التي وقع فيها لبنان النفقات المرتفعة التي قامت وتقوم بها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وأشار مارديني إلى أنه في أغلب الأحيان كانت النفقات أكبر وأعلى من الموارد، ما دفع الحكومات إلى تمويل العجز من خلال الاستدانة من المصارف بمعنى آخر من أموال المودعين، أو من خلال الاستدانة من المصرف المركزي.
وقد وصلت الدولة إلى مرحلة تخلّفت فيها عن دفع الديون سواء الخارجية أو الداخلية، خاصة للمصارف التي وجدَت نفسها غير قادرة على ردّ أموال المودعين، وهو ما أوصل بدوره إلى أزمة دين عام ثم إلى أزمة مصرفية لجأ خلالها مصرف لبنان إلى طباعة المزيد من العملة اللبنانية تلبيةً لحاجة السوق، ومن أجل السماح للمودعين بسحب أموالهم من المصارف ولكن بالليرة اللبنانية، ما رفع سعر الدولار الذي تخطّى عتبة الـ 20 ألف ليرة لبنانية.
وعلى هذا الأساس، رأى مارديني أن السبب الأساسي الذي أوصل الأمور والأوضاع إلى ما وصلت إليه، هو النفقات العامة من دون ضوابط ومن دون مناقصات، ما سمحَ بتفشّي ظاهرة الفساد بشكل واسع وانتفاع المحسوبين على المسؤولين، بحيث باتَ أي مشروع تقوم به الدولة يكلِّف أضعاف الرقم الحقيقي له من دون مساءلة أو محاسبة بسبب المحسوبية.
ويتّفق أستاذ مادة الاقتصاد والمستشار السابق لإدارة بيت التمويل العربي، الدكتور سمير الشاعر، في وجهة نظره مع وجهة النظر التي تعتبرُ الفساد أحد أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان، فيقول لـ”نون بوست” إن الفساد والهندسات المالية التي اعتمدها مصرف لبنان هي السبب الرئيسي وراء الأزمة، وأضاف أن عدم سير الدولة بالمنهجية الاقتصادية العلمية أوصلَ إلى ما يشبه الوضع الحلزوني الذي يزداد كلّما دفعت به إلى الأمام.
كما أشار الدكتور الشاعر إلى أن التضخُّم العالمي أثّر أيضًا على الاقتصاد اللبناني، منوِّهًا إلى أننا على عتبة تحوّلات اقتصادية عالمية كبرى سيكون لها تأثيرها أينما كان، وضرب مثلًا على ذلك الاستمرار في ارتفاع أسعار البترول والقمح والصويا، وأشار إلى أن ذلك سيكون له خلل بكل شيء على المستوى العالمي، وأكّد أن الاستمرار بالوضع الاقتصادي على ما هو عليه سيجعل لبنان أكثر هشاشة وأكثر عرضة للخضّات والسقوط.
بدوره أكّد الدكتور أيمن عمر لـ”نون بوست” أن أحد أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان ترتبط بهيكلية وبنية الاقتصاد اللبناني القائم على التحويلات من الخارج، والتي تترواح بحسبه ما بين 7 و10 مليارات دولار سنويًّا، وأن اقتصاد لبنان يمجّد القطاع الخاص، وأنه اقتصاد ريعي مصرفي، وأن القطاع المصرفي انحرف عن دوره الحقيقي، مشيرًا إلى أن الفساد من الأسباب المهمّة للأزمة وكذلك غياب السياسات التي تعمل على بناء قواعد إنتاجية.
غير أن الدكتور عمر يشير إلى أمر آخر، ويعتبره من الأسباب المباشرة للأزمة الحالية، ويشدِّد على ارتباط ذلك بالصراعات السياسية بين دول إقليمية ودولية وبعض الأطراف المحلية اللبنانية، وقد تمثّل ذلك بحسب وجهة نظر الدكتور عمر بالحصار والخنق الاقتصادي وتجفيف منابع الدولار في الداخل اللبناني، والذي يُستعمَل رأس حربة للتضييق بحسب وجهة نظره.
تداعيات الأزمة الاقتصادية
يرى الدكتور باتريك مارديني أن من أبرز ما خلّفته وأثّرت به الأزمة الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة، أنها أدّت إلى انتفاضة اللبنانيين في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ما أدّى بدوره إلى استقالة الرئيس سعد الحريري وإلى خلط الأمور في البلد من جديد على المستوى السياسي.
كما أنها أدّت إلى انهيار اقتصادي مريع، حيث خسر لبنان قرابة 33% من الناتج المحلي، وإلى انهيار في سعر صرف الليرة اللبنانية بلغ حوالي 90% من قيمتها، وإلى تضخُّم مفرط سجّل أعلى نسبة في العالم بسبب لجوء المصرف المركزي إلى سياسة طبع العملة دون تغطيتها.
فضلًا عن ذلك أدّت الأزمة الاقتصادية بحسب مارديني إلى خسارة اللبناني لجزء كبير من دخله، وإلى غلاء فاحش بالأسعار أدّى لاحقًا إلى موجات من الهجرة المنظَّمة وغير المنظَّمة، لا سيما هجرة الأدمغة وأصحاب الاختصاص وأصحاب رؤوس الأموال.
من جهته رأى الدكتور أيمن عمر أن الأزمة أثّرت على كل مناحي الحياة، فهي قد صنِّفت من بين الأزمات العشر عالميًّا، وربما من بين الأزمات الثلاث الأكثر حدّة.
كما ذكر أن نسبة التضخُّم بلغت 281% في الفترة بين يونيو/ حزيران 2019 ويونيو/ حزيران 2020، كما أشار إلى أن ذلك رفع نسبة الفقر بشكل كبير وصلت من 29% عام 2019 إلى 55% عام 2020 وإلى 74% عام 2021، كما أشار إلى ارتفاع كلفة السلّة الغذائية من 450 ألف ليرة لعائلة مؤلَّفة من 5 أفراد إلى مليونَين ونصف ليرة شهريًّا أي بنسبة 455%.
من الآثار الاجتماعية للأزمة القائمة حاليًّا ارتفاع نسب الطلاق في المحاكم، وتراجُع نسب الزواج بسبب غلاء الأسعار والشقق السكنية وتدنّي فرص العمل، وارتفاع معدل الجريمة والسرقة والسلب والاحتيال وما تخلّفه من مشكلات لا عدّ ولا إحصاء لها.
ويتّفق الباحث الاقتصادي محمد موسى مع زملائه، ويقول إن الأزمة الاقتصادية أثّرت بشكل كبير في العديد من القطاعات، ويركّز على الجانب الاقتصادي فيقول إن البطالة بلغت 50% وتركّزت بين الشباب بشكل أساسي.
وحذّر في هذا السياق من أن لعبة الدولار في بلدٍ كلبنان يقوم اقتصاده على الاستيراد بشكل أساسي لعبة قاتلة، لافتًا إلى أن أكثر من 82% من اللبنانيين باتوا فقراء وفق الإحصاءات الدولية، و42% منهم يعيشون حالة فقر مدقع، و30% من الأطفال يبيتون جوعى، و4% من العائلات لا تمتلك وجبة طعام يومية.
كما أشار د. موسى إلى أنّ اللبناني قد يصل إلى مرحلة لا يستطيع معها الانتقال إلى عمله بسبب كلفة النقل العالية، بعد ارتفاع سعر المحروقات بشكل جنوني في بلد ليس فيه نقل عام مشترك، وأشار إلى أن الحدّ الأدنى الطبيعي في مثل هذه الحالات هو 7 ملايين ليرة للعيش و10 ملايين ليرة للاكتفاء.
أما الآثار الاجتماعية تتمثّل بارتفاع نسب الطلاق في المحاكم، وقد تحدّثت بعض المصادر القضائية عن نسب طلاق فاقت في بعض الأحيان 50%، وإلى تراجُع نسب الزواج بسبب غلاء الأسعار والشقق السكنية وتدنّي فرص العمل، وإلى ارتفاع معدل الجريمة والسرقة والسلب والاحتيال وما تخلّفه من مشكلات أخرى.
كما هناك الأثر الاجتماعي السياسي الذي لا يقلّ خطورة، وهو شعور الجماعات المكوِّنة للبنان بالخوف والقلق والشعور بالاستهداف، ما يدفعها إلى المزيد من التقوقع والشعور بالأمان وسط البيئة التي تنتمي إليها، ما يولّد شعورًا بالحاجة إلى هذه البيئة والاستغناء عن الشعور بالحاجة إلى الوطن كمساحة جامعة لكل اللبنانيين.
إمكانية التعافي
يقول الدكتور سمير الشاعر لـ”نون بوست” إن التعافي آتٍ لا محالة، ولكنّ التحدّي هو في عدم إطالة أمد وصوله، منوِّهًا في هذا السياق إلى أن الخلافات السياسية وعلى أساليب العلاج يطيل أمد الأزمة في وقت لا قدرة كبيرة للبنانيين على الصمود.
وأشار الشاعر إلى التعافي الأول المطلوب، وهو أن يصير لبنان مقبولًا عالميًّا، ومن ثم الشروع في الوصفات الأخرى التي باتت معروفة وفي مقدّمتها الإصلاحات، كما نوّه إلى أهمية إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي في بلد يقوم اقتصاده بشكل أساسي على الخدمات المالية والمصرفية.
من جهته، اعتبر الدكتور مارديني أن الأزمة قد تطول أكثر من 20 عامًا إذا لم نجد لها حلولًا مجدية، وأشار إلى أن في طليعة هذه الحلول تفعيل دور إدارة المناقصات التي تشرف على كل أعمال الدولة، والتي تعمل بشفافية لضبط المشاريع.
والقيام بإصلاح نقدي وإنشاء مجلس نقد لضبط عملية طباعة الليرة والسيطرة على التضخُّم، كما نوه إلى ضرورة وقف الاحتكارات لا سيما احتكارات الدولة لقطاعات مهمّة من بينها الكهرباء وغيرها.
وأمّا عن النفط والغاز الموعود والمكتشَف في البحر، فلا يعوِّل مارديني عليه في عملية التعافي، ويؤكّد أن الأزمة في لبنان أزمة مؤسسات، وأن النظام الذي أهدرَ 100 مليار دولار بسبب الفساد مستعدّ لإهدار ما يمكن اكتشافه من نفط وغاز، فالمشكلة بحسب مارديني ليست في الموارد لأنه لا نقص بالموارد، إنما المشكلة هي في إدارة المؤسسات بشفافية ومسؤولية.
خلاصة القول إن الأزمة في لبنان أزمة عميقة وحادة تتفق وجهات النظر على أكثر من 80% من أسبابها، وحتى على أساليب علاجها، لكنها أزمة لها أوجُه عديدة سياسية واجتماعية وأمنية فضلًا عن وجهها الاقتصادي.
بدوره اعتبر الدكتور محمد موسى أن التعافي ممكن ولكنه بالسياسة قبل الاقتصاد، مشيرًا في هذا السياق إلى أنأزمات سياسية تؤثّر اقتصاديًّا وتحول دون الشروع بالحلول، ومنها قضية انفجار المرفأ، والعلاقة مع دول الخليج العربي، وأحداث الطيونة والتدخُّل بالقضاء… إلخ.
أشار أيضًا إلى أن خطة التعافي تحتاج إلى اتفاق مع الصناديق الدولية، وإلى اتفاقات مع بعض الدول المانحة أو التي يمكن أن تساعد لبنان، لكن هذه الخطط تحتاج إلى قرارات موجعة للبناني وهو لا يحتملها اليوم بسبب ما وصلت إليه الأوضاع.
كما أكّد على أن المسار الزمني للتعافي يحتاج إلى فترة زمنية تتراوح ما بين 12 إلى 19 عامًا، لكنها قد تتقلّص إذا تلقّى لبنان دعمًا عربيًّا واسعًا، فعند ذلك يمكن أن يتعافي خلال 5 سنوات.
وعن دور الغاز والنفط في عملية التعافي المأمولة، قال موسى إن لبنان يملك كمية كبيرة من الغاز في المياه الإقليمية، لكن لا يمكنه استخراجها بسبب الخلافات الداخلية من ناحية وبسبب عدم ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة من ناحية ثانية، فضلًا عن أن الإنتاج والتصدير يحتاج إلى سنوات من التخطيط والتفعيل.
ويتّفق الدكتور عمر مع الخبير الاقتصادي موسى في أن الخروج من الأزمة والتعافي يحتاج إلى إرادة وطنية مخلصة، ومسارات سياسية واضحة، واتفاقات مع صندوق النقد الدولي قبل الانهيار، وهو بدوره ما يحتاج إلى دفع فاتورة سياسية لا يبدو أن لبنان مستعدّ لدفعها حتى الساعة.