يأتي يوم الثالث من نوفمبر كل عام وتكون السودان على موعد مع التجديد السنوي للعقوبات الأمريكية عليها، تحت دعاوى من الولايات المتحدة برعاية الإرهاب وتقيّد الحريات العامة في البلاد والعمل على إثارة حروب في المنطقة.
أصدر القرار الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون” في العام 1997 وتم بموجبه تجميد الأصول المالية السودانية، وحظر الأنشطة الاقتصادية بكافة أشكالها مع دولة السودان، كما قام الرئيس الأمريكي “جورج بوش” بتوسيع دائرة العقوبات هذه في العامين 2006، 2007 في إطار حملات عُرفت بتجفيف منابع الإرهاب.
فحسب التقارير الأمريكية الصادرة فإن عدد التحويلات البنكية المرفوضة للسودان طبقًا للعقوبات منذ عام 2000 وحتى عام 2008 أكثر من 5 ملايين كذلك تم تعطيل استثمارات يبلغ قدرها 745.300.000 مليون دولار وقيمة الأصول المحجوز عليها بلغ 48.200.000 مليون دولار، لم يقف الأمر عند الاقتصاد السوداني فحسب بل تعدى إلى كل دولة تخالف هذا القرار المتخذ بموجب القانون الأمريكي للطوارئ الاقتصادية، حيث وُقعت عقوبات على الجهات التي خالفت الحظر بغرامات وصلت 1.530.000 مليون دولار.
بهذا فقدت السودان الغطاء الدولي للاستثمار بفقدان أي فرص للتمويل الدولي من المؤسسات المالية الدولية أو الإقليمية بعد التزام أغلب الدول بالقرار الأمريكي، خاصةً دول الاتحاد الأوربي؛ مما شكل أزمة بالغة الصعوبة داخل الاقتصاد السوداني مع انفصال الجنوب الذي ذهب بأغلب عائدات البترول وترك الموازنة العامة للدولة السودانية خاوية على عروشها، تحاول الدولة منذ تاريخ الانفصال حتى الآن التعافي من آثار هذه الضربة القاسمة للاقتصاد على الرغم من اعتقاد سياسيين بالدولة أن الشمال السوادني وافق على انفصال الجنوب كأحد ضرائب رفع العقوبات الاقتصادية شيئًا فشيئًا عن الداخل السوداني الذي يغلي جراء الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تجري مع تفشي الفساد في البنية الداخلية السودانية؛ ما أدى إلى تدهور في الأوضاع السياسية والاقتصادية على حدٍ سواء ساهمت في خروج العديد من الاحتجاجات في الآونة جراء سياسة الحكومة التقشفية التي من خلالها قررت رفع الدعم عن المحروقات؛ وهو ما تسبب في موجة من التظاهرات الشعبية التي اضطرت الحكومة فيها لاستخدام العنف المفرط؛ ما أدى لمقتل متظاهرين على يد قوات الأمن وهو ما يجعل الداخل السوداني محتقن حتى هذه اللحظة، فهناك جامعة بالخرطوم لم تستقبل طلاب حتى هذه اللحظة خوفًا من اندلاع مظاهرات بسبب مقتل أحد طلاب الجامعة في المظاهرات الأخيرة التي قامت ضد النظام، وهو ما يعكس تأثر الوضع السياسي الداخلي للسودان بتلك العقوبات التي لطالما استخف بها النظام السوداني الحاكم.
في حين أن النظام لا يألو جهدًا في محاولات رفع تلك العقوبات عن الاقتصاد المنهك ولو جزئيًا على الأقل، فالمحاولات مستمرة منذ عام 2001 وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر بالتنسيق الأمني الاستخباراتي بين الولايات المتحدة والسودان في قضايا التنظيمات الجهادية، التي تعتبر السودان أحد موردي تلك التنظيمات بالدعم البشري، كذلك كانت ورقة الجنوب على طاولة المفاوضات دائمًا بيد السودان إلى أن اشترطت الولايات المتحدة على السودان توقيع اتفاقية السلام في عام 2005 والسير في إجراءات انفصال الجنوب السوداني، حتى يتنسى للولايات المتحدة الحديث عن رفع الحظر الاقتصادي عن السودان وهو ما ماطلت فيه الولايات المتحدة عقب تنفيذ السودان لكل الشروط.
وعن المحاولات الاقتصادية أيضًا حاولت السودان أكثر من مرة السير في خطوات إصلاح اقتصادية كأحد متطلبات المؤسسات الاقتصادية الدولية كرفع الدعم عن السلع والطاقة إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لرفع العقوبات.
في هذا السبب تصدت الولايات المتحدة لرفض مشروع يقضي برفع الديون عن السودان والتي تبلغ قيمتها 40 مليار دولار ضمن مبادرة “الهيباك” لإعفاء الدول الفقيرة من الديون إلى أن حددت المبادرة 38 دولة لم تكن السودان من بينهم بتحريض أمريكي واضح.
لم يكن أمام السودان حلًا إلا اللجوء للداخل مع الاستعانة ببعض منافذ الخليج وثغرات القوى العالمية كالصين وإيران وتركيا لرفع الضغط عن النظام إلى حد ما عن طريق فتح مجالات الاستثمار في التنقيب عن البترول والذهب، كذلك في استغلال الأراضي الزراعية هذا جنبًا إلى جنب مع خطط حكومية أقرها البرلمان لخفض المصروفات وإعادة هيكلة الجهاز التنفيذي للدولة مع زيادة الجمارك والضرائب.
ومع كل هذا المحاولات الغير كافية من السودان لتجاوز الأزمة الحالية الناتجة عن الحظر الاقتصادي، ربما نجحت في صناعة ثقوب بهذا الحظر كانت متوافقة مع مصالح عدة شركات أمريكية عن طريق الضغط لرفع الحظر عن بعض الأنشطة الاقتصادية للسودان كالتلويح بوقف تصدير الصمغ العربي إلى الشركات الأمريكية الذي يعتبر مادة خام في الصناعات الدوائية، حيث إن السودان ينتج 80% من الصمغ العربي في العالم؛ ما أدى لرفع الحظر الأمريكي عن تصديره حتى لا تتضرر الصناعة عالميًا، فيما استثنت أيضًا الولايات المتحدة بعض الأنشطة التجارية المتعلقة بالزراعة والقطاع الصحي.
ومع ظهور تلميحات أيضًا من الولايات المتحدة لاتجاهها لرفع جزئي للعقوبات عن السودان، ارتفعت الطموحات السودانية للضغط في هذا الاتجاه بعد تصريح نائب القائم بالأعمال الأمريكى بالخرطوم “كريستوفر روان” خلال زيارة له لولاية نهر النيل – شمال السودان – في أن هناك آمال قائمة لتحقيق إنجاز حقيقي في ملف تطبيع العلاقات الأمريكية السودانية، ولكن هذا يرتهن إلى مدى تجاوب السودان في الحورات الدائرة بين البلدين، ولكن سرعان ما بدد طموحات السودان قرار الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” بتجديد العقوبات على السودان وهو ما اعتبرته السودان مراوغات غير مفهمومة من الولايات المتحدة.
فبعد تجديد العقوبات هذا العام لا يجد النظام السوداني إلا نبرة دول الممانعة واتهام الولايات المتحدة بعداء النظام الإسلامي في السودان وأن هذه العقوبات ردًا على عدم التطبيع مع إسرائيل وما إلى ذلك من دعايا سياسية في مواجهة إفلاس اقتصادي واضح لدى المواطن العادي.
حيث يؤكد متابعون من المعارضة السودانية أن النظام يستغل هذه العقوبات وهذا العداء مع الولايات المتحدة في صناعة مجد مُتَوَهم على حساب مصالح الشعب السوداني من خلال خطابات شعبوية لا أكثر، لا تحرك من الواقع شيئًا سوى تعليق فشل النظام على شمعة الغرب الحاضرة مع كل مطالبات بالإصلاح أو انتقادات لسياسات السلطة الحاكمة.
هذا ما أكدته أحزاب معارضة للسلطة في السودان أيضًا معربةً عن علمها التام بأن النظام السوداني هو الذي يقلب المجتمع الدولي ضده بسياساته في قضايا النزاعات كدارفور وغيرها، ومن ثم استغلال هذا في تعبئة عاطفية للجمهور بالتزامن مع ظهور “اقتصاديي الحزب الحاكم” للتهوين من أثر العقوبات الدولية على السودان، وهو الأمر الذي يخالف أبسط المبادئ والمسلمات الاقتصادية في أي دول العالم، كما أكدوا أن سياسة المؤتمر الوطني “الحزب الحاكم” لا تأتي سوى على الشعب السوداني فقط الذي يتحمل أعباءً إضافية من ضرائب ورسوم بعد كل تجديد للعقوبات، يتمثل ذلك في تضرر مشروعات حكومية خالصة ملك الشعب السوداني من هذه العقوبات كمشروع الجزيرة وقطاع السكر والسكك الحديد، بعد صعوبة توفير مواد خام وقطع غيار خاصة بهذه المشروعات بسبب الحصار، كذلك الاعتماد على تكنولوجيا أقل كفاءة من نظيرتها الأمريكية كالتكنولوجيا الصينية مما يدعم القطاع الخاص الذي يسيطر عليه قادة المؤتمر الوطني حسب قولهم.
ومن المنافذ التي بحث النظام عنها أيضًا للخروج من تلك الأزمة العويصة هو البحث عما يسمى بـ “الأبواب الخلفية” كنوع من الهروب من الحظر الاقتصادي، وذلك بتوقيع شراكات مصرفية مع السعودية والتي منعتها الأخيرة بعد اتهام الخرطوم بالتساهل مع المد الشيعي؛ ما دعى الخرطوم إلى إغلاق مراكز ثقافية إيرانية كنوع من إثبات حسن النية لباب من أبوابها الخلفية كالسعودية، كذلك الحال مع قطر التي تساهم بودائعها في البنك المركزي السوداني من حين لآخر في حالات من الاستقرار للعملة الصعبة داخل البلاد مع فتح أفق للاستثمار التركي والإيراني للمساعدة في تنشيط الاستثمار خارج نطاق المنظومة الدولية المحاصرة للخرطوم جراء سياسة القائمين على الدولة.
ولكن بعد أن اتضح ماذا تريد السودان من الولايات المتحدة، يجب معرفة ماذا تريد الولايات المتحدة من السودان؟
تهتم الولايات المتحدة بالبعد الاستراتيجي الأفريقي في هذه الفترات وفي قلبه السودان جزء من قضية الطاقة التي تبحث عنها أمريكا دائمًا في شتى بقاع الأرض، حيث إن عين أمريكا لا تنام عن النفط السوداني الشمالي منه والجنوبي فلقد كانت أولى الاستخراجات المعتبرة في النفط من السودان لشركة أمريكية “شيفرون”، ولكن صراعًا ما حدث بين الولايات المتحدة ونمور أسيوية بشأن هذا الملف في هذا المنطقة كالصين وماليزيا؛ ما جعل الولايات المتحدة تتطرف في العقوبات على السودان بالرغم من تدخلاتها لإقرار اتفاقية السلام في 2005 في الجنوب؛ ما أدى إلى انفصاله، وما كان بعده من تصلب في موقف السودان من عبور النفط الجنوبي عبر أراضيها وقضية أبيي التي تتمسك بها الخرطوم، ما واجهته الولايات المتحدة بما يسمى سياسة العصا والجزرة.
فكان الضغط العسكري الأمريكي من جهة على السودان من خلال فرض حظر على بيع السلاح للسودان، وكذلك دعم دول الحدود مع السودان والتي تعاني السودان من مشاكل عدة معها بسبب حركات التمرد، فقد قدمت الولايات المتحدة دعمًا لكل من إثيوبيا وإيريتريا، حيث قامتا بدورهما بتسليح معارضين للنظام السوداني.
ومن جهة أخرى تشجع إدارة أوباما المضي قدمًا لحل أزمة دارفور والتي قدمت الولايات المتحدة مساعدات إنسانية بها تقدر بخمسة مليارات دولار؛ وهو ما يجعل الولايات المتحدة في حالة تخبط في التعامل مع الأزمة السودانية فقضايا جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ما زالت عالقة، نفس الحال ينطبق على قضية أبيي بعد رفض الحكومة لاقتراحات الاتحاد الأفريقي بشأنها ما يجعل الولايات المتحدة في حاجة دائمة لتصحيح الأوضاع مع الخرطوم التي تعاني من مشاكل سياسة داخلية تؤثر على مطالب الولايات المتحدة الأخرى بشأن الحريات وحقوق الإنسان؛ وهو ما يجعل الموقف الأمريكي معقد إزاء الوضع السوداني بين سندان المشاكل الحقوقية والضغوطات الإقليمية بشأن قضايا الجنوب، وكذلك بشأن القضايا المتعلقة بالاقتصاد كقضية النفط، فكلما حققت الخرطوم شروط الولايات المتحدة في جانب من أجل رفع العقوبات الاقتصادية تنصلت الولايات المتحدة من وعودها بدعاوى جانب آخر، وهو ما دعى محللين للشأن السوداني إلى اعتبار هذا نوعًا من التخبط من سياسة أوباما تجاه قضية السودان، والتي يعبر عنها البعض في قولهم إن الولايات المتحدة لا تعرف بالضبط ما تريده من نظام البشير.