شهدت السنوات الماضية تزايدًا في أعداد العرب المقيمين في تركيا للدراسة أو العمل أو الاستقرار، فخلال الأعوام 2015-2020 اشترى العراقيون وحدهم 30,209 ألف عقار، وتلاهم عربيًّا السعوديون بـ 13,296 ألف عقار والكويتيون بـ 10,137 ألفًا، بالإضافة إلى الوجود السوري الكبير، ويقدِّر البعض عدد العرب في تركيا بـ 5 ملايين شخص. وفي الفترة الأخيرة أخذت شخصيات وجمعيات عربية على عاتقها تنظيم الوجود العربي تحت مسمّى الجاليات، التي ما زالت تواجه تحديات كبيرة على مستوى التنظيم وتجاوُز الخلافات الداخلية ما بين أعضائها ومكوِّناتها.
نشأة الجاليات العربية في تركيا
شهدت تركيا في ثمانينيات القرن الماضي توافدًا كبيرًا للطلبة العرب بشكل عام، والقادمين من الدول المجاورة كالعراق وسوريا وفلسطين بشكل خاص، حيث استقرَّ قسم من هؤلاء الطلبة لاحقًا في تركيا، واتّجه قسم كبير منهم إلى العمل التجاري والاقتصادي، مستغلّين بدايات الانفتاح التركي على أسواق الشرق الأوسط في تسعينيات القرن الماضي.
يرى الدكتور وسيم بكراكي، رئيس جمعية الثقافة والصداقة اللبنانية “توليب”، أن وجود الجاليات العربية في تركيا ليس طارئًا، “بل مضى على تأسيس بعضها مدة تتجاوز ربع قرن”، وارتكزت هذه الجاليات على الطلبة المتخرجين والمستقرين في تركيا في تنظيمها وتفعيل أنشطتها.
ووفقًا لحازم عنتر، رئيس الجالية الفلسطينية في إسطنبول، حالت طبيعة القوانين التركية في فترة ما قبل حكم حزب العدالة والتنمية عام 2002، بالسماح للأجانب بتأسيس جمعيات أهلية مرخّصة، لكن التعديلات القانونية التي جاءت خلال إصلاحات حزب العدالة والتنمية سمحت للأجانب بتأسيس الجمعيات الأهلية، ما مكّن التجمعات العربية من تأسيس جمعيات ومؤسسات تركية للعمل من خلالها على تجميع الجاليات العربية. ونشطت من الجاليات، وفقًا للدكتور وسيم بكراكي، في تلك الفترة الجالية الفلسطينية والسورية والعراقية.
لكن الانطلاقة الأهم لهذه الجاليات جاءت بعد عام 2011، الذي شهد توافد أعداد كبيرة من العرب إلى تركيا رغبة في العمل أو الدراسة أو الاستقرار والاستثمار، أو هربًا من الأوضاع الأمنية والسياسية، وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد العرب في تركيا يصلُ إلى 5 ملايين شخص من مختلف الدول العربية، ورغم أن القسم الأكبر منهم من اللاجئين السوريين والعراقيين إلا أن هناك تجمعات عربية أخرى تصل أعدادها إلى عشرات الآلاف.
وساهم وجود عدد من الأحزاب والقوى السياسية العربية في توجيه هذه التجمعات إلى إنشاء الجاليات، للمساهمة في تعزيز التواصل البيني ما بين التجمعات العربية من جانب، والتواصل مع المجتمع التركي ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية من جانب آخر.
الجاليات العربية وأزمة التنظيم والوصول
يواجه الوجود العربي في تركيا مجموعة من التحديدات الناتجة عن أسباب سياسية واقتصادية وثقافية، ما يجعل مهمة التنظيم أولوية لهذا الوجود، خاصة في ظل الأهمية التي يوليها العرب المقيمون في تركيا لبقائهم في هذا البلد، والمرتبط بقدرتهم على التواصل بفعالية مع المجتمع التركي بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية. ويترتّب على ذلك عبء إضافي على الجاليات العربية التي وصلت إلى 13 جالية، لكن هل تملك هذه المجتمعات القدرة على لعب هكذا الدور؟
تعاني الجاليات العربية بشكل عام من أزمة واضحة في الوصول إلى التجمعات العربية الموزعة في جميع أنحاء البلاد والتأثير فيها، وذلك يرجع إلى ضعف الجهود المبذولة وافتقارها للتنظيم وسيادة الخلافات الداخلية، والأهم اتّساع حجم تركيا والتزايد السريع في أعداد المقيمين فيها.
ويُستخدَم في العادة مصطلح الجالية بمعنيَين، الأول لتوصيف وجود تجمُّع لمواطنين دولة ما، كالوجود السوري أو المصري أو الفلسطيني، والمعنى الثاني يشير إلى جسم تنظيمي -جمعية أو مؤسسة أو تجمُّع عدد من الأشخاص- يعمل في إطار تجمعات مواطنين دولة ما، دون أن يكون جميع مواطني هذه الدولة أعضاء فيه أو يشاركون في عملية الانتخاب وصنع القرار. فعلى سبيل المثال، يقدَّر أعداد الفلسطينيين في مدينة إسطنبول من 10 إلى 12 ألف شخص، لكن الذين شاركوا في الجمعية العمومية للجالية الفلسطينية في مدينة إسطنبول في انتخاباتها الأخيرة لم يتجاوز الـ 450 شخصًا.
يعلِّل عنتر ذلك بصعوبة الوصول إلى التجمعات الفلسطينية ومواكبة الأعداد المتزايدة، ومع وجاهة هذا الطرح لكن الواضح أن أسبابًا أخرى جوهرية حالت دون حضور الكل الفلسطيني وعلى رأسها الخلافات السياسية، إذ شهدت السنوات الأخيرة تحسُّنًا في علاقات تركيا مع حركة حماس، الأمر الذي جعلها محطة لكوادر ومؤسسات الحركة التي ازداد حضورها في التجمعات الفلسطينية في تركيا، وقد يكون هذا الأمر سببًا في تخوف القائمين على إدارة الجالية في إسطنبول من الانفتاح على الوجود الفلسطيني بشكل واسع، خشية أن تأتي النتائج الانتخابية بطريقة لا تهواها الإدارة القائمة.
ولا تقتصر الخلافات داخل الجاليات العربية على الأسباب السياسية، بل تتعداها إلى أسباب أخرى، فوفقًا لمحمد الهمص، رئيس اتحاد الجاليات العربية، تمَّ البدء في العمل لإيجاد جسم تجميعي للجاليات العربية في منتصف العام 2016، وفي فبراير/ شباط 2019 تمَّ الإعلان عن تشكيل ملتقى للجاليات العربية على هامش مؤتمر جماهيري حضره رئيس البرلمان التركي بن علي يلدرم، لكن التطورات اللاحقة أفرزت تشكيل جسمَين للجاليات العربية: اتحاد الجاليات العربية الذي أُعلن عن تأسيسه في أبريل/ نيسان 2019، وملتقى الجاليات العربية الذي أُعلن عن تأسيسه في مايو/ أيار 2019.
اتحاد الجاليات العربية
يسعى اتحاد الجاليات العربية، وفقًا لرئيسه الحالي محمد زكي الهمص، إلى توحيد الجهد العربي في إطار موحَّد بهدف الارتقاء بالجاليات العربية في تركيا، وتشكيل قناة تواصل فعّالة مع المجتمع والمؤسسات التركية، ويضمُّ الاتحاد وفقًا للهمص 9 ممثلين عن تجمعات عربية: فلسطين، مصر، سوريا، العراق، ليبيا، لبنان، المغرب، اليمن وأخيرًا الصومال.
وتجري انتخابات الهيئة الإدارية للاتحاد كل 4 سنوات، فيما تمتدُّ دورة الرئيس لمدة عام، وإلى جوار رئيس الاتحاد يحتفظ السيد متين توران بمنصب الأمين العام للاتحاد، والذي يتولى في الوقت نفسه رئاسة الجمعية العربية في تركيا.
وفي الفترة الأخيرة نفّذ الاتحاد عددًا من الأنشطة والفعاليات، كالمشاركة في تنظيم معرض الحِرَف اليدوية العربية، وإقامة السوق الخيري في معرض الكتاب العربي وعدد من حملات التبرع بالدم، بالإضافة إلى عدد من الزيارات لمؤسسات وتجمعات تركية وعربية.
وفيما يتعلق بالأسباب التي أدّت إلى ظهور اتحادَين للجاليات العربية، أشار الهمص إلى “أن العوامل الشخصية لعبت دورًا في حدوث هذا التفرُّق، إذ لم يستوعب البعض العمل مع أشخاص آخرين في الاتحاد، مفضِّلًا تأسيس كيان يبرز فيه بشكل شخصي بغضّ النظر عن المحتوى والخدمة المقدَّمة”.
أما قضية التمثيل والشرعية، فأشار الهمص إلى أن أساس هذه المهمة قائم على الخدمة والعمل في الميدان، فعلى قدر الإنجاز تكون الشرعية والتمثُّل، موضِّحًا أن ميدان العمل مفتوح ومتاح للجميع، بعيدًا عن المسميات والصفات، مؤكدًا أن الهدف الأساسي الذي يعمل عليه الاتحاد في الفترة المقبلة هو تعزيز الوصول إلى الجاليات العربية.
المجلس الأعلى للجاليات العربية
أُعلن عن تأسيس المجلس الأعلى للجاليات العربية في نهاية مايو/ أيار 2019، في لقاء عام جرى تنظيمه في مدينة إسطنبول، وسبق اللقاء العام اجتماع ضمَّ ممثلين عن 6 جاليات عربية هي الجالية السورية، اليمنية، المصرية، اللبنانية، الصومالية والليبية.
ولاحقًا توسّعَ المجلس ليضمَّ 12 جالية عربية، هي الجالية الفلسطينية، السورية، اللبنانية، الليبية، اليمنية، المصرية، التونسية، الجزائرية، المغربية، الصومالية، الأردنية والسودانية. وتعدّ هذه الجاليات أعضاء في جمعية مرخّصة في تركيا تحملُ اسم المجلس الأعلى للجاليات العربية (ATYK). ويحكم المجلس الأعلى نظام داخلي شارك الأعضاء في نظمه وكتابته، ووفقًا له يجري تدويل منصب الرئيس كل 3 شهور ما بين الهيئة التنفيذية للمجلس.
ووفقًا للدكتور وسيم، يسعى الاتحاد إلى تحقيق عدد من الأهداف، أهمها تأمين وتعزيز اللُّحمة بين أبناء المجتمع العربي في تركيا، وتفعيل التواصل الحقيقي بين الشعب التركي والشعوب العربية المقيمة في تركيا، وأخيرًا الحفاظ على الهوية العربية عبر تعزيز وحماية اللغة العربية للطلبة العرب، وتسليط الضوء على العادات والتقاليد المختلفة، والتآزر في الفرح والحزن بين كل هذ الجاليات المختلفة.
ومن أهم الأنشطة التي قام المجلس بتنفيذها في الشهور الماضية هي حملة المساعدات الإغاثية خلال أيام حظر التجوال نتيجة فايروس كورونا، وحملة زراعة الأشجار بدل التي تعرّضت للحرق إبّان حرائق الغابات في الصيف الماضي، بالإضافة إلى التواصل مع الجهات التركية لحلِّ عدد من الإشكالات لأبناء الجالية العربية.
ويُرجع الدكتور وسيم بكراكي وجود أكثر من اتحاد إلى تقديم الحضور الشخصي بدلًا من المؤسساتي، واستخدام بعض الأشخاص للمؤسسات كوسائل لتحقيق أغراض ومآرب شخصية، بعيدًا عن الهدف الأساسي المتمثل في خدمة الانسان العربي في تركيا، ويرفض الدكتور وسيم فكرة وجود جسم جامع للجاليات العربية غير المجلس الأعلى للجاليات العربية، الذي يضمُّ الجاليات العربية المنتخَبة.
يعاني الوجود العربي من انعكاس الخلافات السياسية القادمة من البلدان العربية، وغياب العمل المؤسسي لصالح العمل من أجل الذات أو من أجل مجموعة من الأشخاص دون غيرهم، بالإضافة إلى افتقاده للشخصيات القيادية القادرة على جمع شتاته وتوحيده. وذلك في ظل اشتداد العنصرية والتحديات الأخرى، حيث يعدّ تنظيم الحالة العربية الخطوة الأولى في التصدي لها.
ومن الممكن أن تشكّل الجاليات العربية فرصة في أن تكون قاطرة العمل التنظيمي العربي، لكن ذلك يستلزم تعزيز الشفافية وتجاوز الشللية في العمل والانفتاح على التجمعات العربية، بالإضافة إلى تعزيز الأجواء الديمقراطية.