التلكؤ المصري تجاه غزة.. مصداقية القاهرة على المحك

عاد التوتر مرة أخرى إلى العلاقة بين القاهرة وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” بعد أشهر من التناغم والتنسيق الكامل، وتبادل الزيارات بين الطرفين في أثناء وعقب معركة “سيف القدس” في مايو/آيار الماضي، في ظل استمرار الانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة ضد سكان غزة بما يتعارض شكلًا ومضمونًا مع اتفاق التهدئة المبرم بين الحركة والاحتلال برعاية مصرية قطرية.
وبحسب التفاهمات التي جرت خلال الفترة الماضية، كان مقررًا انطلاق تنفيذ المشروعات الخاصة بإعمار القطاع وتسريع تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي، في نوفمبر/تشرين الماضي، وهو ما لم يحدث حتى كتابة هذه السطور، الأمر الذي دفع حماس إلى التلويح بورقة التصعيد ضد الكيان المحتل لعدم التزامه ببنود الاتفاق.
الحركة وعلى لسان بعض قادتها اتهمت القاهرة بالتلكؤ في تنفيذ استحقاقات التهدئة في القطاع المحاصر، الأمر الذي اعتبرته تنصلًا من تعهداتها السابقة بما يصب في صالح دولة الاحتلال التي تواصل مساعيها لخنق غزة وسكانها، يتزامن ذلك مع استمرار سياسة الاستيطان والاعتداءات العسكرية، فضلًا عن حملات الاعتقالات المستمرة بحق شباب القطاع.
وتواجه القاهرة التي فرضت نفسها خلال الحرب الأخيرة كواحدة من أبرز اللاعبين المؤثرين في المشهد الفلسطيني بعد غياب دام طويلًا، أزمة ثقة لدى الجانب الفلسطيني الذي كان يؤمل نفسه بقدرة الوسيط المصري على الضغط على حكومة “إسرائيل” لتنفيذ التزاماتها بحق الشعب الفلسطيني، الأمر الذي ربما يعكر صفو الأجواء بين الحركة والقاهرة، وهو ما يمكن أن يلقي بظلاله القاتمة على المشهد الفلسطيني برمته.
تلكؤ مصري
حماس وعبر أحد مصادرها عبرت عن استيائها من سلوك مصر تجاه غزة، وأنها لم تلتزم حتى اللحظة بما تعهدت به للحركة قبل 6 أشهر، معتبرة ذلك تخليًا عن تعهدها بإلزام تل أبيب باتخاذ الإجراءات العملية من أجل القطاع ووقف الانتهاكات مقابل التزام المقاومة بالتهدئة، وهو ما تم إقراره عقب وقف الحرب الأخيرة.
وأضاف المصدر أن القاهرة “تواصل التنغيص على المسافرين الفلسطينيين إلى قطاع غزة”، بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة“، واتفق معه في الرأي الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني مصطفى الصواف الذي يرى أن الجانب المصري لا يمارس دور الوسيط في الملف الفلسطيني، بل على العكس من ذلك يقوم بدور الضاغط على الفلسطينيين وفصائل المقاومة.
آخرون أشاروا إلى أن مصر باتت أكثر تشددًا من الموقف الإسرائيلي في بعض الملفات، أبرزها إعادة الإعمار وعبور معبر رفح، حيث عرقلت الآلاف من الدارسين والمرضى وأصحاب الأعمال عن دخول الأراضي المصرية، وهو ما يؤثر على حياة مئات الأسر الفلسطينية، ويؤثر كذلك على صورة الوسيط المصري لدى الشارع الفلسطيني.
رئيس لجنة متابعة العمل الحكومي في غزة، عصام الدعاليس، أوضح أن مشاريع إعمار القطاع لا تزال حبيسة الأدراج، لافتًا إلى وعود مصرية قطرية لم تنفذ بعد، فقد وعد الجانب المصري بإعادة تزويد القطاع بـ50 ميغاوات من خطوط الكهرباء المصرية، فيما تعهدت الدوحة بتحويل محطّة توليد الكهرباء في غزة من الوقود إلى الغاز ما سيزيد من إنتاجيتها.
وقبل أيام ذكرت بعض المصادر أن السلطات المصرية رفضت طلب عبور رئيس حماس يحيى السنوار، ووفد من قيادات الحركة، للجانب المصري من أجل التوجه إلى قطر وتركيا، وهي الخطوة التي فسرها البعض على أنها مؤشر واضح على توتير الأجواء بين الطرفين، رغم عدم تعليق القاهرة عليها حتى كتابة تلك السطور.
مصادر فلسطينية حذرت من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى واستهداف الأسرى، واصفة إياها بأنها “ستفجر الأوضاع” فيما جددت التأكيد على أن الحركة لن تسمح باستمرار الوضع الحاليّ على ما هو عليه، كون ذلك يضرب مصداقيتها لدى الشارع
مماطلة الحكومة الإسرائيلية
في الجهة المقابلة أوضح الكاتب الصحفي المصري مجدي شندي، أن بلاده لم تتوقف يومًا عن أداء دورها تجاه الفلسطينيين، سواء في القطاع أم الضفة، لافتًا إلى أن مسألة إعادة الإعمار تحتاج إلى عوامل ومقومات لانطلاقها، أبرزها تثبيت الأمن والتوصل إلى تسوية لبقية الأزمات الداخلية وهو ما لم يحدث حتى الآن، بحسب تصريحاته في مقابلة سابقة مع الجزيرة.
وفي السياق ذاته أرجع البعض هذا التباطؤ في البدء في عملية الإعمار إلى النهج الإسرائيلي في التفاوض، حيث سياسة التسويف وتصدير الأزمات والادعاءات الكاذبة بشأن خرق حماس وبقية فصائل المقاومة لبنود الاتفاق، هذا بخلاف التغيرات المستمرة في الهيكل الحكومي الإسرائيلي التي تؤثر على سرعة اتخاذ القرار.
ويضع هذا النهج الإسرائيلي الذي يسعى لكسب المزيد من الوقت وفرض الأمر الواقع، القاهرة، في موقف حرج للغاية أمام الجانب الفلسطيني، سلطة وفصائل وشعب، ويشكك في صدق نواياها، خاصة في ظل تجنب مصر ممارسة المزيد من الضغوط على الحكومة الإسرائيلية، كتلك التي تمارسها على الجانب الفلسطيني.
ويعلم الوسيط المصري حالة التململ الحمساوي الواضحة إزاء تباطؤه في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وإعطاء الحكومة الاستيطانية الضوء الأخضر لمواصلة سياساتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني، مستغلة التزام فصائل المقاومة بالتهدئة وعدم وضع القاهرة في مأزق حال الانجرار للرد على التصعيد الإسرائيلي، ما يعني العودة للمربع صفر مرة أخرى، وهو ما لا تريده حماس ولا الجانب المصري على حد سواء، ومن ثم فإنه من المقرر أن تشهد الأيام القادمة حراكًا دبلوماسيًا لتحقيق التوازن في تلك المعادلة غير العادلة.
تهديد بالتصعيد
أمام استمرار الانتهاكات الإسرائيلية والتلكؤ المصري لم تجد المقاومة الفلسطينية وفصائلها بد من التهديد بالتصعيد حال عدم اتخاذ خطوات تقدمية لتفعيل مسار الإعمار ووقف الممارسات العدوانية العبرية بحق أبناء القطاع، فقد أشارت مصادر بالحركة أنها تدرس كل خيارات التصعيد.
المصادر ذاتها حذرت من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى واستهداف الأسرى، واصفة إياها بأنها “ستفجر الأوضاع”، فيما جددت التأكيد على أن الحركة لن تسمح باستمرار الوضع الحاليّ على ما هو عليه، كون ذلك يضرب مصداقيتها لدى الشارع الذي تعهدت بالزود عنه أمام كل انتهاكات حكومة وجيش الاحتلال.
قادة الفصائل وزعماؤها حتى اللحظة يحترمون اتفاقهم مع الجانب المصري، رافضين التصعيد الأحادي حتى لا يؤثر ذلك على موقف الوسيط القاهري في هذه العملية، لكن هذا الأمر لن يستمر طويلًا، ففي حال عدم التدخل العاجل لإنهاء هذا الوضع المتردي على المسارات كافة فإن المقاومة سيكون لها رأي آخر، وهو كفيل بأن يعيد الأمور إلى أجواء مايو/آيار الماضي، بما لذلك من تهديد لأمن واستقرار المنطقة برمتها.
تبقى الأيام القادمة ساحة عريضة لتقييم الموقف المصري كوسيط محايد قادر على فرض إرادته لتنفيذ الاتفاق الذي تم تحت رعايته، وإلا سيتعرض لضربة دبلوماسية موجعة، تفقده المكاسب التي حققها في مسار القضية الفلسطينية خلال الآونة الأخيرة
مصداقية الوسيط المصري على المحك
النهج الإسرائيلي المتعجرف إزاء التزامات التهدئة فتح الباب على مصراعيه أمام سهام النقد الموجهة للوسيط المصري، الذي بدوره استشعر الغضب رغم العلاقات القوية التي تجمع بين حكومتي البلدين، فالخطاب السياسي التفاؤلي الذي يستخدمه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إبان مساعي التهدئة لا يتناسب مطلقًا مع ردة الفعل الحاليّة، ما يضع مصداقيته على المحك في هذا الملف الحيوي الذي تحاول فيه القاهرة استعادة حضورها المتراجع بعد سنوات من الغياب.
حراك دبلوماسي مكثف من المتوقع أن يشهده الملف الفلسطيني خلال الأيام القادمة، لبحث سبل وقف التصعيد وتجنب الولوج في مستنقع الصدام العسكري المباشر مرة أخرى، إذ تشير بعض المصادر إلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد، للقاهرة الأسبوع الحاليّ، وهي الزيارة التي وصفها البعض بـ”زيارة احتواء الغضب”، ومن المقرر أن يلتقي فيها نظيره المصري سامح شكري.
وفي الإطار ذاته ذكرت “القناة 12” العبرية أن رئيس المخابرات المصرية عباس كامل، سيزور تل أبيب نهاية الشهر الحاليّ، لبحث العديد من الملفات الأمنية والسياسية، في محاولة لاتخاذ خطوات ملموسة في اتجاه إعادة الإعمار، بجانب حثه للطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، على التخلي عن فكرة التصعيد في الوقت الراهن لاختبار جدية الاتفاق وجدوى الهدنة.
ربما لم يعد الملف الفلسطيني على قائمة أولويات الجانب المصري الأيام الحاليّة، مقارنة بما كان عليه قبل 6 أشهر، حين كان ورقة ضغط قوية بيد النظام المصري في مواجهة التغيرات الطارئة على التوجهات الأمريكية حيال الانتهاكات الحقوقية المصرية، مع بداية مرحلة جو بايدن، لكن ذلك لا يعني تخلي القاهرة عن الملف بالكلية، كونه أحد الأضلاع الرئيسية في منظومة الأمن القومي المصري.
وقد حققت القاهرة حزمة من المكاسب من وراء إحياء دورها إقليميًا عبر بوابة فلسطين، أبرزها ما تحقق على الشريط الحدودي في رفح، حيث زيادة أعداد الجنود المصريين المنتشرين هناك، بجانب الدعم المقدم من الحكومة الإسرائيلية في مواجهة التنظيمات المسلحة النشطة في سيناء خلال السنوات الماضية، هذا بخلاف فتح قنوات اتصال رسمية مع البيت الأبيض وإدارة بايدن التي كانت تتحفظ قبل ذلك على النظام المصري بسبب سجله الحقوقي.
وفي المجمل.. تبقى الأيام القادمة ساحة عريضة لتقييم الموقف المصري كوسيط محايد قادر على فرض إرادته لتنفيذ الاتفاق الذي تم تحت رعايته، وإلا سيتعرض لضربة دبلوماسية موجعة، تفقده المكاسب التي حققها في مسار القضية الفلسطينية خلال الآونة الأخيرة، وهو ما قد يشعل الأجواء مرة أخرى.